ولا تمنن تستكثر
منن : المنّ ما يوزن به ، يقال منّ ومنان وأمنان ، ويقال لما يقدر ممنون كما
يقال موزون ، والمنّة النعمة الثقيلة ويقال ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون ذلك بالفعل
فيقال منّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة وعلى ذلك قوله : { لقد من الله على المؤمنين
}آل عمران 164- { كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم }النساء 94 - { ولقد
مننا على موسى وهارون }الصافات114 -
{ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا }القصص 5, وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله
تعالى . والثاني : أن يكون ذلك بالقول وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة
، ولقبح ذلك قيل المنّة تهدم الصنيعة ، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل إذا كفرت النعمة
حسنت المنة . وقوله : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم }الحجرات
17 فالمنّة منهم بالقول ومنّة الله عليهم بالفعل وهو هدايته إياهم كما ذكر ، وقوله
{ فإما منا بعد وإما فداء }محمد 4 فالمنّ إشارة إلى الإطلاق بلا عوض . وقوله
: { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب }ص39 أي أنفقه وقوله : { ولا تمنن
تستكثر }المدثر 6 فقد قيل هو المنة بالقول وذلك أن يمتن به ويستكثره ، وقيل معناه
لا تعط مبتغيا به أكثر منه ، وقوله : { لهم أجر غير ممنون }فصلت 8 قيل غير معدود
كما قال : { بغير حساب } وقيل غير مقطوع ولا منقوص . ومنه قيل المنون للمنية لأنها
تنقص العدد وتقطع المدد . وقيل إن المنة التي بالقول هي من هذا لأنها تقطع النعمة وتقتضي
قطع الشكر ، وأما المن في قوله : { وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى }البقرة 57 فقد
قيل المن شيء كالطلّ فيه حلاوة يسقط على الشجر ، والسلوى طائر وقيل المن والسلوى كلاهما
إشارة إلى ما انعم الله به عليهم .
قال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصح يعني: ربا البيع؟ وربا لا بأس به،
وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها. ثم تلا
هذه الآية: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا
يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ }الروم 39 .
وإنما الثواب عند الله
في الزكاة؛ ولهذا قال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }الروم 39 أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء،
كما جاء في الصحيح: "وما تصدق أحد بِعَدْل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه،
فَيُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوّه أو فَصِيلَه، حتى تصير التمرة أعظم
من أُحُد"البخاري وروى النسائي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة
تتشبه بالرجال والديوث ، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنّان
بما أعطى ". وفي بعض طرق مسلم : " المنّان هو الذي لا يعطي شيئا إلا منّة
". والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه
لكثرة وقوعه.
معنى المن يطلق المن على القطع والانقطاع ومنه قوله تعالى)فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) سورة التين. أي غير مقطوع.
ويطلق أيضاً على اصطناع خير، والمنّة هي النعمة الثقيلة، ومن ذلك قوله تعالى) لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ (164) سورة آل عمران. ومن صور المن التي وردت بذمها الآيات، ما جاء في قوله تعالى) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) سورة المدثر. وقوله تعالى ) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) سورة الشعراء. وقوله تعالى ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17) سورة الحجرات. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى (264) سورة البقرة.
ان المن خلق ساقط لا يليق بأولي الفضل،
وهو أن يتحدث المنان
بعطائه أمام من أعطاه أو أمام غيره من الناس، على سبيل الفخر و إشعاراً بالتفضل على المعطى. و في ذلك كسر
لقلبه ، و إهانة لكرامته ، وهو لا يقع إلا من المعجب بنفسه .
والمنَّ عموماً يحتمل تفسيرين: أحدهما إحسان المحسن غيرَ معتَدّ بالإحسان, يقال: لحقت فلاناً من فلان منّةٌ, إذا لحقته نعمةٌ باستنقاذٍ من قتل أو ما أشبهه, والثاني منَّ فلانٌ إذا عظَّم الإحسانَ وفخر به وأبدأ فيه وأعاد حتى يفسِده ويُبغّضه, فالأول حسن, ويدخل فيه كل صور المن من الله تعالى, والثاني قبيح وهو الذي يأتي على معنى التقرير للنعمة والتصريح بها أو أن يتحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المُعطي فيؤذيه, والمن حينئذ من الكبائر.
ذم المن في السنة وقد ثبت ذم المن أيضاً في الأحاديث الشريفة والتي منها حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منة, والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره). وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لا ينظر الله -عز وجل- إليهم يوم القيامة, العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث, وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى).
- لماذا يعتبر المن آفة من آفات النفس ؟لأن صاحب هذه النفس يحب المجد و العلو، فهو يسعى له بهذه الصورة الدنيئة لأنه قادر عليه بما وهبه الله من مال أو منصب أو غير ذلك مما يجعل يده على الآخرين. والمنة لا تقتصر على المال فقط فهي تكون في أي عطية حتى لو كانت معنوية، أو في بذل نصيحة، أو تفريج كربة ، أو مساعدة في عمل ما ,فالمن خلق ساقط لا يليق بأولي الفضل، وللمن دركات بعضها أحط من بعض، ويكون في أشد صوره إذا تبع المن أذى، و يكون ذلك بإشعار الآخر بنزول مكانته ، أو توجيه عبارات تجريح ونقد لاذع لسلوكه، أو التشهير به كوضعه في موقف يعلم الناظرون إليه فيه أنه في موقف ذلة ومهانة ، أو جعله يتردد على الأبواب لإذلاله ؛ فإن المن معول هدم للمعروف، ينقص الأجر، وقد يذهب به بالكلية ، يقول تعالى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى { البقرة 264 فأن المن و الأذى قد يبطل الصدقة، وإنما كان المن بالصدقة مفسداً لها محرماً ، لأن المنة لله وحده و الإحسان كله لله، فالعبد لا يمن بنعمة الله و إحسانه و فضله وهو ليس منه..
والمنَّ عموماً يحتمل تفسيرين: أحدهما إحسان المحسن غيرَ معتَدّ بالإحسان, يقال: لحقت فلاناً من فلان منّةٌ, إذا لحقته نعمةٌ باستنقاذٍ من قتل أو ما أشبهه, والثاني منَّ فلانٌ إذا عظَّم الإحسانَ وفخر به وأبدأ فيه وأعاد حتى يفسِده ويُبغّضه, فالأول حسن, ويدخل فيه كل صور المن من الله تعالى, والثاني قبيح وهو الذي يأتي على معنى التقرير للنعمة والتصريح بها أو أن يتحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المُعطي فيؤذيه, والمن حينئذ من الكبائر.
ذم المن في السنة وقد ثبت ذم المن أيضاً في الأحاديث الشريفة والتي منها حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منة, والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره). وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لا ينظر الله -عز وجل- إليهم يوم القيامة, العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث, وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى).
- لماذا يعتبر المن آفة من آفات النفس ؟لأن صاحب هذه النفس يحب المجد و العلو، فهو يسعى له بهذه الصورة الدنيئة لأنه قادر عليه بما وهبه الله من مال أو منصب أو غير ذلك مما يجعل يده على الآخرين. والمنة لا تقتصر على المال فقط فهي تكون في أي عطية حتى لو كانت معنوية، أو في بذل نصيحة، أو تفريج كربة ، أو مساعدة في عمل ما ,فالمن خلق ساقط لا يليق بأولي الفضل، وللمن دركات بعضها أحط من بعض، ويكون في أشد صوره إذا تبع المن أذى، و يكون ذلك بإشعار الآخر بنزول مكانته ، أو توجيه عبارات تجريح ونقد لاذع لسلوكه، أو التشهير به كوضعه في موقف يعلم الناظرون إليه فيه أنه في موقف ذلة ومهانة ، أو جعله يتردد على الأبواب لإذلاله ؛ فإن المن معول هدم للمعروف، ينقص الأجر، وقد يذهب به بالكلية ، يقول تعالى } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى { البقرة 264 فأن المن و الأذى قد يبطل الصدقة، وإنما كان المن بالصدقة مفسداً لها محرماً ، لأن المنة لله وحده و الإحسان كله لله، فالعبد لا يمن بنعمة الله و إحسانه و فضله وهو ليس منه..
ومن عجائب صور المن أن يمن الإنسان بأمر يعتبر في حقه من الحقوق الواجبة عليه مثل من الزوج على زوجته إذا أحسن عشرتها ، أو الزوجة على زوجها إذا أطاعته .. أو من الأبناء على الوالدين إذا قاموا ببرهم، و غير ذلك من الحقوق والواجبات بين الناس مثل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واصلاح ذات البين واغاثة الملهوف ونصرة المظلوم.
أثار المن على العمل و المجتمع :
: 1 يؤثر في الإخلاص الى درجة افساده وخروجه عن كونه خالصا لله حين يصير الهم منصب على تسجيل موقف او اشباع شهوة في النفس, ومن طريف ما يروى ان احدهم اهدى هدية لصاحبه فكان كلما مر به ساله عنها وكيف هي واذا تحدث معه عن امر جعلها تاريخا فيقول حدث هذا قبل ان اهديك بكذا وكذا او بعد اهدائي لك بكذا وكذا ، وربما أصبح العطاء رياءاً و سمعة.
2 : لا يجد صاحب المن آثاراً و ثواباً لصدقته، في أصعب الأوقات و أشدها، حين يكون بلا حول و لا قوة و لا عون، وهو بحاجة إلى حسنة واحدة، وذلك يوم القيامة .
:3 يحرم صاحبها من نعمة نظر الله إليه و كلامه معه، جاء في الحديث الذي رواه مسلم ]ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة .. [ ، - وفي رواية ( ولا ينظر إليهم ) .. و ذكر منهم ( المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منه (فالمنان بفعله يجلب غضب الله تعالى عليه بفعله، ولو أن فيها هذه فقط لكفت لأن الله تعالى يقول (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ) طه 81
:4 يوغر الصدور ويفسد العلاقات بين الناس,والاصل في هذه العلاقات المودة والمحبة وافتراض حسن النية عند الآخرين وليس سوء النية وخبث القصد,فقد رَوَىُ الْحَاكِمُ فِي الْمَسْتَدْرَكِ ، وَعَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ ، وَاللَّفْظُ لَهُ ، مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم ، قَالَ : تَهَادُوا تَحَابُّوا وفي مسند البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة .
العلاج
:1 وهو من أفضل طرق علاج هذا العيب و أجملها ، فإذا ورد على الإنسان خاطر المن يتذكر فوراً أن الحال التي هو فيها عطية من عطايا الله اختاره الله لها، وفضل منحه الله إياه، فهو الذي وفقه لنيله و جعل يده العليا، وهو الذي شرح صدره للعطاء ، و حبب له الإحسان إلى الناس ، و جعل بين يديه من يحسن إليه ، إذاً .. في الحقيقة المن لله وحده ، إذ هداه و أعطاه و يسر له بلا حول منه و لا قوة، وهذا أمر يستحق الشكر، لا المن والأذى ..
2 : عدم رؤية الإحسان حال وقوعه، و نسيانه بعد فعله، حتى كأنه لم يصدر، و إذا سمعه كأن لسان حاله (لا أذكره) ، ( ولا أصغي بسمعي إلى من يذكره ) فهو بذلك يجعل من أحسن إليه و غيره سواء، ولا يطلب الأجر إلا من الله. و هذا ما كان عليه خلقه صلى الله عليه وسلم إذ علمه ربه فقال "وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ" المدثر .
قال ابن عباس ( لا يتم المعروف إلا بثلاث ) و لتقرأ جيداً هذه القواعد فهي أسباب رئيسية للتخلص من هذه الآفة ، يقول ابن عباس: ( تعجيله، و تصغيره، و ستره). و لماذا ؟ يقول ( فإذا أعجله هنأه ، و إذا صغره عظمه ، و إذا ستره تممه). و قال بعض الحكماء ( إذا اصطنعت المعروف فاستره ، وإذا صنع إليك فانشره) . و قال رجل لبنيه ( إذا اتخذتم عند رجل يداً ، فانسوها (
:3 إذا واجه الإنسان تصرفاً يضايقه ممن أحسن إليه ، فليعفو و ليصفح و لا يمن بعطيته ، ويتذكر قوله تعالى "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ" نلاحظ أن الله تعالى ختم الآية بقوله غني أي غني عن الصدقة ، ثم قال حليم ، فما علاقة الحلم بالموقف؟ هذه الخاتمة فيها عبرة و درس لمن يواجه المضايقة ممن يحسن إليهم ، فالله عز وجل يعطي الرزق و يكرم و يحسن للناس ، ولكن ما الذي يحدث ؟ يقصر العباد في الشكر ، بل البعض يعصيه ، والبعض يشعر أن النعم التي عنده هي من جهده و كسبه ، و الأعجب من ذلك أن يرى أنه مستحق لهذه النعم بل أكثر .. و لكن الله عز وجل حليم ، لا يعجل لهم بالعقاب و هو الذي أعطاهم كل شيء و قادر على سلب كل شيء منهم ، وعلى ذلك فالعباد أحق بأن يعفو بعضهم عن بعض.
4 : إذا خالجه شعور المن يذكر نفسه فوراً أنه لا يدري ماذا يحدث له مستقبلاً ، و ماذا تحمل الأيام في طياتها ، فقد تدور عليه الدائرة ، ويصبح في نفس الموقف ، فيكون تذكره رادعاً للنفس و مانعاً لها بإذن الله من المن و الأذى,ويقول الحق سبحانه وتعالى( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم. يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (البقرة 263ففي هاتين الآيتين الكريمتين يرشدنا الحق سبحانه وتعالى إلى الآداب والأخلاقيات الفاضلة التي ينبغي أن نلتزم بها ونحن نقدم للفقراء والمحتاجين وأصحاب الحاجات حقوقهم في أموالنا او جاهنا او قوتنا، فهو سبحانه وتعالى يحذرنا من المن والأذى، وينادي كل المؤمنين بأن يجتنبوا في صدقاتهم هاتين الرذيلتين، مبينا أن الكلمة الطيبة للفقير خير من إعطائه مع إيذائه.
ومعنى “قول معروف” أن تقول للسائل الفقير كلاما جميلا طيبا تجبر به خاطره، ويحفظ له كرامته، “ومغفرة” لما وقع منه من إلحاف في السؤال، وستر لحاله وصفح عنه “خير من صدقة يتبعها أذى” أي خير من صدقة يتبعها المتصدق أذى للمتصدق عليه، لأن الكلمة الطيبة للسائل، والستر عليه، والعفو عنه في ما صدر منه، كل ذلك يؤدي إلى رفع الدرجات عند الله، وإلى تهذيب النفوس، وتأليف القلوب، وحفظ كرامة أولئك الذين مدوا أيديهم بالسؤال.
أما الصدقة التي يتبعها أذى فإن إيتاءها بتلك الطريقة يؤدي إلى ذهاب ثوابها، وإلى زيادة الآلام عند السائلين، ولاسيما الذين يحرصون على حفظ كرامتهم وعلى صيانة ماء وجوههم. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع الشمس قال تعدل بين الإثنين صدقة وتعين الرجل على دابته تحمله عليها أو ترفع له متاعه عليها صدقة وقال الكلمة الطيبة صدقة وقال كل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين
وهنا يجب على المسؤول كما يقول الإمام القرطبي في تفسيره للآية الكريمة أن يلتقي
السائل بالبشر والترحيب
ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع.
ذهاب الأجر
ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: “والله غني حليم” أي والله غني عن إنفاق المنفقين وصدقات المتصدقين، وإنما أمرهم بها لمصلحة تعود عليهم، وقيل إن المراد بالعبارة الكريمة أن الله عز وجل غني عن الصدقة المصحوبة بالأذى فلا يقبلها “حليم” فلا يعجل بالعقوبة على مستحقها فهو سبحانه يمهل ولا يهمل.
وقوله عز وجل: “يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى” نداء منه سبحانه للمؤمنين يكرر فيه نهيهم عن المن والأذى لأنهما يؤديان إلى ذهاب الأجر من الله تعالى، وإلى عدم الشكر من الناس، ولذا جاء في الحديث الشريف: “إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر”. وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل : فعلت إليك وفعلت! فقال له : اسكت فلا خير في المعروف ، إذا أحصي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا - {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} .
ثم أكد سبحانه هذا النهي عن المن والأذى بذكر مثلين فقال في أولهما “كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ”. والمعنى: يا من آمنتم بالله تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بأن تحبطوا أجرها، وتمحقوا ثمارها، بسبب المن والأذى، فيكون مثلكم في هذا الإبطال لصدقاتكم، كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل أن يرى الناس منه ذلك، ولا يبتغي به رضاء الله ولا ثواب الآخرة.
وقوله في المثال الثاني “فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا” معناه أن المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس مثله في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحبا للظهور كمثل حجر أملس لا ينبت شيئا ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب، فانكشفت حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإنبات أي شيء عليه.
وقوله تعالى: “لا يقدرون على شيء مما كسبوا” معناه أن الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، والذين يتصدقون رياء ومفاخرة لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا، لأن ما صاحب أعمالهم من رياء ومفاخرة ومن أذى محق بركتها، وأذهب ثمرتها وأزال ثوابها.
حكم المنَّ
والأذى في الصدقة
لقد أثنى الله
-تبارك وتعالى- على الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله، ولا يتبعونها بما ينقصها
ويفسدها من المنَّ، ووعدهم بأنه سيوفيهم أجرهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون،
فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ
لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}
سورة البقرة(262)(263).
ما روي في سبب
النزول:
روي أنَّ قوله:
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أنها نزلت في عثمان
بن عفان-رضي الله عنه-، قال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش
العسرة فصبها في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيته يدخل يده فيها
ويقلبها، ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، اللهم لا تنس هذا اليوم
لعثمان) وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رافعاً يديه
يدعو لعثمان يقول: يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه، فما زال يدعو حتى
طلع الفجر، فنزلت: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى} الآية.. ذكره القرطبي
في تفسيره.
شرح الآية:
بعد أن ذكر الله
في الآية السابقة فضل الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك
الثواب المضاعف للمنفق إنما هو لمن لم يتبع نفقته بالمن الأذى، بل أنفق مخلصاً
لله محتسباً، فقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} أي أنفق يريد
بنفقته وجه الله تعالى وثوابه، ولا يرجو من المنفق عليهم شيئا، حاله كما قال
الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ
جَزَاء وَلَا شُكُورًا} سورة الإنسان(9) ومتى أنفق الإنسان ليريد من المنفق
عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه من
بإنفاقه وآذى، وكذلك من أنفق مضطرا لم يرد وجه الله وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله
وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله كالذي حكي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن أعرابيا
أتاه فقال:
قال عمر: إن لم
أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذن أبا حفص
لأذهبنه
قال: إذا ذهبت
يكون ماذا؟ قال:
فبكى عمر حتى
أخضلت لحيته، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشِعْره، والله لا
أملك غيره.! قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء
وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل، فأما المعطي إذا
التمس بعطائه الجزاء وطلب به الشكر والثناء كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من
الذم ما ينافي السخاء، وإن طلب الجزاء كان تاجرا مربحاً لا يستحق حمداً ولا
مدحاً.
قوله: {ثُمَّ
لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا} أي لا يحصل منهم بعد الصدقة مَنٌّ
بأن يظهر المنفِق مظهر المترفع على المنفَق عليه..
والمنّ: ذكر
النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك
وشبهه، وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه.
قوله: {وَلاَ
أَذًى} الأذى السب والتشكي، والأذى أعم من المنّ؛ لأن المن جزء من الأذى
لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. قال سفيان في قوله: {مَنًّا وَلا أَذًى}
"أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت".
والمنّ كبيرة من
كبائر الذنوب؛ لما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه،
والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق
لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى) وفي بعض طرق مسلم: (المنان هو الذي
لا يعطي شيئاً إلا منة).
فمن أنفق ماله
مخلصاً في إنفاقه في سبيل الله، ولم يتبع ذلك بأي مفسد من المفسدات فإن الله قد
وعده عظيم الأجر والثواب، قال تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ}
أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فيما
يستقبلونه من أهوال يوم القيامة {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي على ما
خلفوه من الأولاد ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها لأنهم
قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك..
وكفى بهذا فضلا
وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى..
قوله تعالى: {قَوْلٌ
مَّعْرُوفٌ} أي تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال
السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له {وَمَغْفِرَةٌ}
لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما
لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى؛ لأن القول
المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه
مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره.
قوله تعالى: {خَيْرٌ
مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} الصدقة بذل الإحسان المالي، الإنسان قد
ينتفع بالمال أكثر مما ينتفع بالكلمة؛ وقد ينتفع بالكلمة أكثر مما ينتفع بالمال،
لكن لا شك أن القول المعروف خير من الصدقة التي يتبعها أذى -وإن نفعت؛ لأنك لو
تعطي هذا الرجل ما تعطيه من المال صدقة لله عز وجل، ثم تتبعها الأذى، فإن هذا
الإحسان صار في الحقيقة إساءة- وإن كان هذا قد ينتفع به في حاجاته- لكن هو في
الحقيقة إساءة له.
قوله تعالى: {وَاللّهُ
غَنِيٌّ} أي عن غيره؛ فهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد، وكل من في
السموات والأرض فإنه محتاج إلى الله تعالى، هو غني بذاته عن جميع مخلوقاته، فله
الغنى المطلق من جميع الوجوه.
وهو مع ذلك {حَلِيمٌ}
على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من
معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون
إليه.بعض فوائد الآيات:
1.
الإشارة إلى الإخلاص لله، ومتابعة الشرع؛ لقوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللّهِ}
وليس في أي سبيل آخر..
2. أن من
أتبع نفقته منًّا أو أذى، فإنه لا أجر له؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لاَ
يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ} فإذا أتبع منًّا، أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}
سورة البقرة(264).
3. أنَّ
المن والأذى يبطل الصدقة؛ وعليه فيكون لقبول الصدقة شروط سابقة، ومبطلات لاحقة؛
أما الشروط السابقة فالإخلاص لله، والمتابعة؛ وأما المبطلات اللاحقة فالمن،
والأذى.
4.
الحث على الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}..
5. أن
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويَسْلَمون من المحبطات لا ينالهم خوف في
المستقبل، ولا حزن على الماضي؛ لقوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ}.
6. فضيلة
القول المعروف؛ لقوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن
صَدَقَةٍ}؛ و"القول المعروف" كل ما عرفه الشرع والعادة، مثال ذلك:
أن يأتي رجل يسأل مالاً بحاله، أو قاله؛ فكلمه المسؤول، وقال: ليس عندي شيء،
وسيرزق الله، وإذا جاء شيء فإننا نجعلك على البال، وما أشبه ذلك؛ فهذا قول معروف
ليِّن، وهيِّن.
7. الحث
على المغفرة لمن أساء إليك؛ لكن هذا الحث مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛
لقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} سورة
الشورى(40) أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم
يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب.
8.
أن الأعمال الصالحة تتفاضل، ويلزم من تفاضلها تفاضل العامل، وزيادة الإيمان، أو
نقصانه.
مسألـة:
هل مجرد إخبار
المنفِق بأنه أعطى فلاناً دون منّ منه بذلك يعتبر من الأذى؟ الجواب: نعم؛ لأن
المعطى تنزل قيمته عند من علم به؛ لكن لو أراد بالخبر أن يقتدي الناس به فيعطوه
فليس في هذا أذًى، بل هو لمصلحة المعطى، أما إن ذكر أنه أعطى، ولم يعيِّن المعطى
فهذا ليس فيه أذى، ولكن يخشى عليه الإعجاب أو المراءاة.
مسألـة أخـرى:
هل المنفق عليه
إذا أحس بأن المنفق منّ عليه، أو ربما أذاه هل الأفضل أن يبقى قابلاً للإنفاق أو
يرده؟
الجواب الأفضل أن
يرده لئلا يكون لأحد عليه منة؛ ولكن إذا رده بعد القبض فهل يلزم المنفِق قبوله؟
الجواب: لا يلزمه
قبوله؛ لأنه خرج عن ملكه إلى ملك المنفق عليه؛ فيكون رده إياه ابتداء عطية.
جواد عبد المحسن - فلسطين كتاب حديث رمضان - 10 |
0 تعليقات