مفهوم النعمة


مفهوم النعمة

نَعِمَ : النعيم والنُّعمى والنعماء والنعمة كله يعني الخفض والدَّعة والمال والراحة وهو ضد البأساء والبؤس في قوله تعالى {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ}البقرة 211 ، يعني في هذا الموضع حجج الله الدالة على امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }التكاثر8 ، اي تسألونَ يوم القيامةِ عن كل ما استمتعتم به في الدنيا ، وجمع النعمة نِعمٌ وأنعم في قول النابغة:

فلن اذكر النعمانَ الا بصالح فإن له عندي يُدَياًّ وأَنعُما

اي النعمة هي : المنفعة المفعولةََ على جهة الاحسانِ الى الغير فان المضرة المحضةُ لا تكون نعمة ،والقول المفعولة على جهة الاحسان لانه لو كان نفعاً حقاً وقصد به الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول له لا يكون نعمة وذلك كمن احسن الى صديقه ليربح عليه او ليسجل موقف وليست على وجه المعارضة .

ان كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضر فهو من الله عز وجل في قوله تعالى {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ }النحل53 .

وتقسم النعمة إلى ثلاثة اقسام :-

1 – نعمة تفرد الله بإيجادها فإنه تعالى خلق ورزق

2 – نعمة وصلت من غير جهة الله في ظاهر الامر وهي في حقيقتها من الله عز وجل فإنه تعالى هو الخالق لهذه النعمة والخالق لذلك المنعم والخالق لداعية الانعام كَخُلُقٍ مكتسب في قلب ذلك المنعم ، الا انه تعالى اجرى هذه النعمة على يد ذلك العبد فكان ذلك العبد مشكوراً ولكن المشكور حقيقة هو الله فقال {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }لقمان14، فبدأ بنفسه تنبيهاً على ان انعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله .

3 – نعم وصلت من الله الينا بسبب طاعتنا وهي ايضاً من الله لانه لولا ان هدانا الله ووفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا لها وازاح الاعذار عنا لما وصلنا الى شيء منها . {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}الأعراف43

ان اول نعم الله على العباد ان خلقهم احياء ويدل على ذلك العقل والنقل ، فأما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة الا اذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ولا يمكن الانتفاع به الا عند حصول الحياة فإن الجماد والميت لا يمكنه ان ينتفع بشيء ، واما النقل فقوله تعالى{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{28} هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً }البقرة ، فبدأ بذكر الحياة وثنى بذكر الاشياء التي يُنتفع بها .

ان هناك فرق واسع بين وجود النعم وبين ادراك هذه النعم وادراك المنعم ، فإن اول النعم ادراك المخلوق انه منعم عليه من خالقه المنعم ، فكانت نعمة الهداية اكبر النعم بعد نعمة الخلق في قوله تعالى {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}الفاتحة ، وقوله تعالى { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً{69} ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً{70} النساء .

لقد خاطب الله الانسان ودعاه للتدبر والتفكر في ايات الله التي يقع عليها حسه ويدركها عقله حتى يصل بصحيح نظره الى طريق الهداية والى وحود الله الخالق المدبر المنعم فقال عز وجل {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ{32} وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ{33} وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ{34} } ابراهيم 34 ، وقال في سورة النحل {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{15} وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ{16} أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ{17} وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{18} النحل .

ان اطلاق كل خير ولذةٍ وسعادةٍ ونيل كل مطلوب على انه نعمة غلط ان نظرنا اليه من زاوية العقيدةِ وهذا ما نحن مأمورون به ، فالنعمة الحقيقية هي السعادة الاخروية فيكون تسمية ما عداها غلط محض او مجاز كتسمية السعادة الدنيوية التي لا تعين على الأخرةِ نعمة فكل سبب يوصل الى سعادةِ الأخرةِ ويعين عليها فإن تسميته نعمة تعتبر هذه التسمية صحيحه لانه يفضي الى النعمة الحقيقية فالاسباب المعينة واللذات المسماة نعمة يمكن اجمالها الى ما هو نافع في الدنيا والأخرة كالعلم وحسن الخلق والى ما هو ضار فيهما جميعا كالجهل وسوء الخلق ، او امر ينفع في الحال ويضر في المال كالتلذذ باتباع الشهوات والهوى .... والى ما يضر في الحال ويؤلم ولكنه ينفع في المَاَلَ كقمع الشهوات ومخالفة النفس والتقيد بالاحكام في العسر واليسر .

ان الاسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها فقلما يصفو خيرها كالمال والاهل والولد والاقارب والجاه ولكنها تنقسم الى ما نفعه اكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الاسباب والى ما ضره اكثر من نفعه في حق كثير من الناس كالمال الكثير والجاه الواسع ، فرب انسان ينتفع بالمال الصالح فينفقه في سبيل الله فهو مع هذا التوفيق يكون في نعمة ، ورب انسان يستضر بالقليل ايضاً اذ لا يزال شاكياً مستصغراً له شاكيا من ربه طالباً للزيادةِ عليه فيكون مع هذا الخذلان بلاء في حقه .

ان النعمة يعبَّر بها عن كل لذيذ يتلذذ به وهذا ما اختص به الله تعالى الانسان بل وميزه عن خلقه بأن جعل له العقل وحباه بنعمة الفهم والادراك فلذة العلم مثلاً لا يدركها احمق ولا جاهل وهي اقل اللذات وأشرفها لانها لازمة لا تزول ابداً لافي الدنيا ولا في الأخرة ودائمة لاتمل كالطعام يشيع منه ويمل منه وصدق الله العظيم {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }يس70، اشارة من الله الى من لم يحي حياة باطنة فكل حي بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من الموتى وان كان عند الجُهّال من الاحياء ، فالشهداء احياء عند ربهم يرزقون فرحين وان كانوا موتى بالابدان وهذه نعمة في الاولى والاخرة .

والخلاصة ان كل من اولاه الله نعمة ان يستقبلها بحمد الله وشكره فالعلم هو النعمة الحقيقية التي يفرح بها المؤمن فلا يفرح لا للمال ولا للملك ولا للجاه ولا للدنيا كلها ، فالعلم هو النعمةُ التي يحتاج اليها كل الخلق ويشرح هذا المعنى قوله تعالى {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}ابراهيم 7 ، الا ترى ان من علم علماً فعمل به اورثه الله علم مالم يعلم لانه مؤتمن على العلم فيزيده الله منه بل ويفتح له مغاليقه ، على خلاف من علم علماً ولم يعمل به فإن الله يسلبه نور فيغلق عليه وتصدأ ذاكرته بل وينسى ما تعلمه .

اورد الامام ابن الجوزي في كتاب صفة الصفوه جـ 1 ص 302 روى البخاري في افراده من حديث زيد بن ذهب قال ... مررت بالربذة فقلت لابي ذر ما انزلك هنا قال كنت بالشام فاختلفت انا ومعاوية في هذه الاية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} التوبة ، فقال نزلت في اهل الكتاب فقلت فينا وفيهم ... فكتب يشكوني الى عثمان ، فكتب عثمان فقال اقدم المدينة فقدمت فكثر الناس عليَّ كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكر ذلك لعثمان فقال ان شئت تنحيت فكنت قريباً ..... فذلك الذي انزلني هذا المنزل .

وذكر الشعراوي في تفسيره جـ 17 ص 10752 ان علياً كرم الله وجهه قال لابي ذر : يا أبا ذر انك قد غضبت لله فارجو من غضبت له ، فان القوم خافوك على دنياهم وملكهم ، وخفتهم انت على دينك فاهرب بما خفتهم عليه – يعني – اهرب بدينك واترك ما خافوك عليه ، فما احوجهم الى ما متعتهم ، وما اغناك عما منعوك ، وقد بعث احد الخلفاء الى جعفر الصادق رضي الله عنه قائلاً : يا ابن بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم مالك لا تغشانا كما يغشانا الناس ..؟؟ فقال : ليس عندي من الدنيا ما اخافك عليه ، وليس عندك من الاخرةِ ما أرجوك له . وصدق الله العظيم {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ }النمل 15، فالحمد هنا على نعمة العلم وحفظ منهج الله والعمل لان يكون دين الله هو الظاهر .


حديث رمضان 8 لعام 2010

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات