شكر النعمة

شكر النعمة

ان نعم الله الخالق على خلقه موجودة عند من ادركها وعند من لم يدركها ، فوجودها امر لا نناقشه وانما نناقش قضية شكرها وجحودها فالشكر هو عرفان الاحسان ونشره ، وقال ثعلب لايكون الشكر الاعن يدٍ والحمد يكون عن يدٍ وعن غير يد . والشكر من الله : المجازاة والثناء الجميل في قوله تعالى {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }آل عمران145 ، وقوله {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}ابراهيم 7.

الشكور : من اسماء الله وصفاته ومعناه انه يزكو عنده القليل من اعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء ، وشكره لعباده مغفرته لهم ، والشكور من العباد فهو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته ، لانه ادرك ان كل نعمةٍ هي من الله عز وجل والصور على ذلك كثيرة ونأخذ بعضها في قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }لقمان12 ، يعني العلم والفقه وأن الله يهديه الى الصواب كقوله تعالى في حق يحي { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }مريم12، فأدرك نعمة الله عليه فوجب عليه شكر ربه على انعامه عليه بعدم معصيته .

وقوله تعالى{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }النمل40 ، فانه قد ادرك انه في موضع ابتلاء واختبار ايشكر ام يكفر {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}النمل 40 ، اي لا يرجع نفع ذلك الا الى نفسه حيث استوجب بشكره لربه تمام النعمة ودوامها والمزيد منها ، فالشكر قيد النعمةِ الموجودةِ وبه تنال النعمة المقصودة ، فعن معاذ ابن جبل قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو يقول اللهم اني اسألك تمام النعمة ، فقال اي شيء تمام النعمة ...؟؟ قال دعوة دعوت بها ارجو بها الخير ، قال (فإن من تمام النعمة دخول الجنةِ والفوزَ من النار )، وسمع رجلاً وهو يقول ياذا الجلال والاكرام فقال ( قد استجيب لك فسل ) وسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً وهو يقول اللهم اني اسألك الصبر فقال ( سألت الله البلاء فسله العافية ).

ان هذه الصور وغيرها تدل ان المنعم عليه حين ادرك ان هذه النعمة لا تكون الا من المنعم جل وعلا شكر واطاع وامتثل ليس للنعمة بل للمنعم ، ويشرح هذا الامر ما اخرجه الترمذي من حديث جابر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( افضل الذكر لا إله الا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ) و ( لا إله الا الله ) تدل على توحيد الخالق عز وجل و ( الحمد لله ) على ان هذه النعمة من الواحد الحق وصدق الله العظيم {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} الاعراف 43 .

ان اقتضاء الشكر للمنعم بطاعته وامتثال امره ونهيه والتضرع اليه بالتثبيت والهدايه هي الامور كلها التي نفهمها حين نقرأ قول الله عز وجل مخبراً عن سليمان {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }النمل19، وقوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }الأحقاف15.

ان الدعاء في الايتين هو ( رب اوزعني ) يعني يارب اعني على ان اكفّ نفسي عن هواها وامنعني ان اغفل او انسى هذه النعم فأظل شاكراً حامداً لك على الدوام فإني قد ادركت ان هذه النعم قد فاقت ما انعمت به على غيري من عبادك من حكمة وعلم وفقه وصحةٍ وقدرةٍ على الفهم ، واوزعني ان اعبدك حق العبادة في السر والعلن وفي الفقر والغنى وفي اليسر والعسر وأن لا اكون كمن وصفتهم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الحج11 ، بل ان يكون حالنا واحد في كل حال .

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس حين سأله عن قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } لقمان 20 ، قال ( الظاهرة الاسلام وما حَسُنَ من خلقك ، والباطنة ما ستر عليك من سيء عملك ) وشرح هذا المحاسبُّي فقال : الظاهرة نعم الدنيا ، والباطنةُ نعم العقبى ، ويقول الفخر الرازي رحمه الله : الظاهرة ما في الاعضاء من السلامة ، والباطنة ما فيه من القوى ، فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة ألا ترى ان العين والاذن شحم وغضروف ظاهر واللسان والانف لحم وعظم ظاهر وفي كل واحد معنىًُ باطن من الابصار والشم والسمع والذوق وكذلك كل عضو ..... وقد تبطل القوةُ ويبقى العضو قائماً ... يعني قد نفقد السمع وتبقى الاذن او نفقد النطق ويبقى اللسان ، وصدق الله العظيم {ِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } فاطر 28 ، وقد قال الشبلي رحمه الله الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة .

وان من نعم الله على عباده ان وصلهم بحبله فلم يقطعهم عنه ولم يجعل بينه وبينهم حجاباً لدعائهم فقال {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر 60 ، مع انهم يذنبون فقال{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران135 ، وقد روى ابو هريرة عن مسلم قال قال رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم وجاء بقوم يذنبونَ فيستغفرونَ الله تعالى فيغفر لهمَ ) .

لقد ناجى موسى ربه بعد ان وكز الرجل فقتله فقال {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }القصص16، فلم يركب رأسه ولم يصرّ على فعله بل ادرك انه ظلم نفسه ، ثم ادرك نعمة الله عليه حين غفر له فقال{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ}القصص17، يعني اقسم بإنعامك علي بالمغفرة فلن اكون ان عصمتني ظهيراً للمجرمين ، وقال عبيد الله بن الوصّابي قلت لعطاء بن ابي رباح : ان لي اخاً يأخذ بقلمه ، وانما يحسب ما يدخل ويخرج وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وادّان فقال : من الرأس ..؟؟ قلت خالد بن عبد الله القسري قال اما تقرأ ما قال العبد الصالح {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }القصص17 .

قال عطاء : فلا يحل لاحد ان يعين ظالماً ولا يكتب له ولا يصحبه وأنه إن فعل شيئاً من ذلك فقد صار معيناً للظالمين ، فكانت حقيقة الشكر انها الاعتراف بالنعمةِ للمنعم واستعمالها في طاعته وكفر النعمة استعمالها في معصيته وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله وآله وسلم كان يقوم من الليل حتى تَفَطر قدماه فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها : اتضع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ...؟؟ فقال ( افلا اكون عبداً شكورا ) معناه افلا اكون طالباً المزيد من المقامات فان الشكر سبب الزياده في قوله تعالى { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ابراهيم 7، فظاهر القرآن والسنة ان الشكر بعمل الابدان دونَ الاقتصار على عمل اللسان ، فالشكر بالافعال عمل الاركان ، والشكر بالاقوال عمل اللسان وقد سمع عمر بن الخطاب رجلاً يقول اللهم اجعلني من القليل فقال عمر : ما هذا الدعاء ..؟؟ فقال الرجل اردت قول الله تعالى {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ13

روى الترمذي وأبو داود عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) قال الخطابي هذا الكلام يتأول على معنيين احدهما : ان من كان من طبعه كفران نعمة الناس والشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له ، وأما الوجه الاخر : ان الله تعالى لا يقبل شكر العبد على احسانه اليه اذا كان العبد لا يشكر احسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال احد الامر بالآخر .

ولقد كثرت تعريفات العلماء للشكر فقد قال سهل بن عبد الله ان الشكر هو الاجتهاد في بذل الطاعةِ مع الاجتناب للمعصية في السر والعلن ، وقال آخرون الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال الله تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } سبأ 13 ، وقال الجنيد الشكر هو العجز عن الشكر ، وقال الشبلي : الشكر هو التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الارض والسموات ، وقال ذا النون المصري : الشكر لمن فوقك بالطاعه ولنظيرك بالمكافأه ولمن دونك بالاحسان ولافضال وقال الجنيد : الشكر هو ان لا يعطى الله بنعمة .


حديث رمضان 8 لعام 2010

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات