جحود النعمة
الجحد والجحود هو نقيض الاقرار كالانكار.
والمعرفة ويأتي بعد حصول المعرفه في قوله تعالى {أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}النحل71 ،يعني بعد ان انعم الله عليهم بالرزق ولم يطلب منهم إن نثروه على الغير جحدوا هذه النعمة وأنكروا فضل الله عليهم بل جعلوا له شركاء من الاصنام والاوثان واخذوا حق الله في العبودية والالوهية واعطوه للاصنام والاوثان وهذا عين الجحود ، فلا نعطي شيئا جعله الله لنفسه سبحانه لا نعطيه لغيره ، قال الجوهري ، الجحود هو الانكار مع العلم في قول العرب جحده حقه في قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ{13} وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ{14}النمل ، وهذا الامر ليس خاصاً بقومٍ معينين ولكن الجحود كان نهج كل مستكبر وقف بوجه دعوةِ نبيه فالذين قالوا لشعيب{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }سبأ35، ثم قالوا{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }هود91 ،هم وبنفس النهج قالوا{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ{75} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ{76}الاعراف 76 ، وهم بنفس النهج قالوا لهود {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } الاعراف 66 ، وهم وبنفس النهج قالوا لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم ما قالوا فخاطبه ربه عز وجل فقال{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } الانعام 33 ، والملأ في كل الآيات من قوم فرعون ومن غيره من الاقوام هم قواعد انظمة الحكم الذين يستخدمونَ الحاكم ممراً لمصالحم وهم الذين تمتلأ القلوب هيبةً لرؤيتهم .
1- ان مشركي العرب في جاهليتهم وخاصة تلك الطبقة ( الملأ) التي كانت تتصدى للدعوةِ من قريش لم يكونوا يشكون في صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلقد عرفوه صادقاً اميناً ولم يعلموا عنه كذبة واحدة طيلة حياته بينهم قبل الرسالة ، كذلك تلك الطبقة التي كانت تتزعم المعارضة والمعاندة لدعوته ما كانت لتشك في صدق رسالته وفي ان هذا القرآن ليس من كلام البشر ولا يملك البشر ان ياتوا بمثله .
ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا يرفضون اظهار التصديق ويرفضونَ الدخول في هذا الدين الجديد .... انهم لم يرفضوا لانهم يكذبونَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن لان في دعوته خطراً على نفوذهم ومكانتهم وهذا هو السبب الذي من اجله جحدوا بأيات الله وقرروا البقاء على الشرك الذي كانوا عليه .
والاخبار التي تقرر الاسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة اقتبس منها : -
فيما قاله ابن اسحق : حدثني محمد بن اسلم ابن شهاب الزهري انه حُدّث ان ابا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والاخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي من الليل في بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعونَ له ، حتى اذا طلع الصبح تفرقوا ، فجمعهم الطريق ..... فتلاوموا فقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لاوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا .... حتى اذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه فباتوا يستمعونَ له .... حتى اذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا اول مرة.... ثم انصرفوا ، حتى اذا كانت الليلة الثالثه اخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعونَ له ، حتى اذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود .... فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا ..... فلما اصبح الاخنس بن شريق اخذ عصاه ثم خرج حتى اذا آتى ابا سفيان بن حرب في بيته فقال اخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة : والله لقد سمعت اشياء اعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت اشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ، قال الاخنس وأنا والذي خلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى ابا جهل فدخل عليه في بيته فقال يا ابا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد قال ماذا سمعت قال :تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ...... اطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى اذا تجاثينا الركب وكنا كفرسي رهانٍ قالوا منا نبى يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ....؟؟ والله لا نؤمن به ابداً ولا نصدقه .... قال فقام عنه الاخنس وتركه .
وصدق الله العظيم {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }الجاثية23 ، وقد حكى بن جريح انها نزلت في الحارث بن قيس وقال مقاتل نزلت في ابي جهل وذلك انه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة فتحدثنا في شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ابو جهل : والله اني لا علم انه صادق ، فقال له وما دلك على ذلك ؟؟ قال يا أبا عبد شمس كنا نسميه في حياته الصادق الامين فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن والله اني لا علم انه لصادق ، قال فما يمنعك ان تصدقه وتؤمن به ؟؟؟ قال تتحدث عني بنات قريش اني قد اتبعت يتيم ابي طالب من اجله كسرة واللات والعزة ان اتبعته ابداً فنزلت .
ان هذا الروايات وغيرها كثير تبين ان هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكذبهم فيما يبلغه لهم ، وانما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الاسباب التي وردت بها الروايات ، وما وراءها من السبب الرئيسي ، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوةِ من سلب السلطان الذي يزاولونه وهو سلطان الله وحده ، كما هو مدلول لا إله إلا الله التي يقوم عليها الاسلام ، فهم كانوا يعرفونَ جيداً مدلولات لغتهم ، وكانوا لا يريدونَ ان يسلموا بمدلولات هذه الشهادة حتى لا ينتزع هذا السلطان منهم .
2 – لقد خاطبهم ربنا عز وجل بأبلغ خطاب فقال جل وعلا { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ{81} فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ{82} يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ{83}النحل 83 ، قال السدّي رحمه الله : يعني محمداً صلى الله عليه وآلم وسلم أي يعرفون نبوته وقال مجاهد يريد ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم اي يعرفون انها من عند الله عز وجل وينكرونها بقولهم انهم ورثوا ذلك عن آبائهم ، وقال الكلبي : هو ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا نعم هي كلها من عند الله ولكنها بشفاعة آلهتنا ، وقيل يعرفونَ نعمة الله بتقلبهم فيها وينكرونها بترك الشكر عليها .
ان الذين يريدونَ ان يخرجوا من دائرة طاعة الله عز وجل عن طريق جحود نعمته فهم وان تعددت لغاتهم وآراؤهم ودعواتهم لم يخرجوا عن اطار ان هذه الدعوةَ ستسلب منهم سلطانهم وتحرمهم من تميزهم وترفعَهم بما لهم من مالٍ وجاه ومناصب ، فخاطب الله عز وجل نبيه مسَّرياً ومواسياً {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } الانعام 34 ، وهذا تذكير له ولكل من يحمل مثل ما حمل وما اجمل ما قال سيد قطب رحمه الله في الظلال ص193 جـ3 ( ان موكب الدعوةِ إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ماضٍ في الطريق اللاحب ، ماضٍ في الخط الواحب ... مستقيم الخطى ، ثابت الاقدام ، يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعين ، ويصيب الاذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الاشلاء والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق ان نصر الله دائماً في نهاية الطريق .
كلمات يقولها ربنا عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كلماتٍ للذكرى وللتسرية وللمواساة والتأسيه ..... وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله طريقهم واضحاً ودورهم محدداً ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك في نهاية الطريق .
انها تعلمهم ان سنة الله في الدعوات واحدة ، دعوةٌ تتلقاها الكثرة بالتكذيب وتتلقى اصحابها بالاذى ، وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الاذى ، وسنة الله تجري بالنصر في النهاية{ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ{82}}النحل82 فإن تولوا وأعرضوا وأثروا الحياة الدنيا فعلى انفسهم جنوا فإنهم عرفوا ان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق ثم ينكرونها ، فانهم قد اشتروا الفانية بالباقية وأثروا الحياة الدنيا على الأخرة فكان جحودهم وانكارهم لاجل نفوذهم واستكبارهم في هذه الحياة الدنيا وصدق الله العظيم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ{18} الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ{19}هود ، وروى سعيد بن جبير عن ابي موسى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من اهل النار ) .
ان الحجج قد قامت عليهم وأقروا بأن الله هو الخالق المدبر لهذا الكون فهم معترفون بذلك غير منكرين له وهذا الاقرار يقتضي ان يكون الحمد لله وحده لان خالق السموات والارض يحتاج إليه كل من في السموات ولارض ، وكون الحمد كله لله يقتضي ان لا يعبد غيره وصدق الله العظيم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } لقمان 25 ، وقوله تعالى{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ{61} اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{62} وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ{63}العنكبوت 63 .
حديث رمضان 8 لعام 2010
جواد عبد المحسن
0 تعليقات