الإقتصاد الكفائي للدولة

الإقتصاد الكفائي للدولة

لم يكن ظهور الدولة الإسلامية فلتة من فلتات التاريخ لا تتكرر ، بل كان ظهورها ظهوراً جلياً يوضح كيفية امتزاج الفكرة بالطريقة امتزاجاً أظهر الطاقات الكامنة عند هؤلاء الأبطال الذين حملوا لواء الفتح الى كل الدنيا فأصبحت هذه الدولة هي الدولة الأولى بلا منازع سنة 15 هـ عقب معركة القادسية ، وامتدت هذه الدولة تحمل دعوة الخير من نيس جنوب فرنسا إلى مشارف الصين ومن الهند الى سمرقند ... وكان هذا الظهور العسكري تعبيراً حقيقياً لقدرة وقوة هذه الدولة وترابطها داخلياً برسوخ المبدأ فكرة وطريقة .

إن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام وهو الطريقة التي عينها ربنا عزّ وجل لحمل الإسلام قيادةً فكرية للعالم ، وحمل الدعوة هو العمل الأصلي للدولة بعد تطبيقها أحكام الإسلام في الداخل ، ولأن الجهاد هو القتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله عزّ وجل وكسرٌ للحواجز المادية التي تقف في طريق انسياب الدعوة إلى الله ، ولأن هذا الجهاد يحتاج إلى جيش وعدةٍ ولِراع واسناد وامدمد وتموين وسلاح ، وهذا السلاح لابد له من تصنيع ؛ لذلك كله كانت الصناعة ومتعلقاتها من لوازم الجهاد وهذا الذي يوجب أن تكون الصناعة في المصانع قائمة على أساس أنها رديف للجهاد وقائمة على أساس صناعة حربية .

إن الدولة في حالة جهاد دائمة وإن لم تكن الحرب قائمة وهذا الحال يوجب على الدولة أن تستغني عن غيرها اقتصادياً وأن تكون في حالة اعداد دائم للقوة ، وهذا الإعداد يشمل الجانب الإقتصادي ولضمان بقاءه رافداً للجيش وللقوة التي يحتاجها هذا الجيش ، فترتيب الحال بالنسبة للدولة على أساس الاكتفاء والاستغناء عن الآخرين هو مما لا يتم الواجب إلا به ، فالدولة الإسلامية واجب عليها لوجوب الجهاد أن تخطط وتكيّف حالها من أجل وجود اقتصاد كفائي ، وذلك بتحرر أوضاعها الاقتصادية من التبعية وعدم اخضاعها للكافرين أو سيطرتهم على جزءٍ منها حتى أبسط الأشياء ، فقد رُويَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قدم المدينة كانت السوق بيد اليهود فأنشأ الرسول للمسلمين سوقاً آخرى .

كما أنه أمر بديهي لا يحتاج إلى كثير عناء أن لا نعتمد على غيرنا في أي صناعة أو مورد ؛ ذلك أن اعتمادنا هذا يخضع إرادتنا السياسية وبالتالي العكسرية لهذه الجهة بدءً بإستخراج المادة الخام وانتهاءً بالتصنيع فما فائدة الطائرات ان احتجنا إلى قطع غيار لها من الغير وكذلك الناقلات والبنادق وغيرها .

إن التخطيط الاقتصادي للدولة الاسلامية يجب ان يقوم على اساس أنها دولة جهاد وحمل دعوة ، فالاهداف لا تتحقق تلقائياً في الحياة الاقتصادية الاسلامية ولا يحددها العرض والطلب ولا تخضع لاقتصاد السوق ، بل لابد من التخطيط المسبق والدولة تعمل وفق مخطط مسبق للوصول إلى هذه الأهداف والغايات بوسائل ، ولابد لهذه الوسائل أن تكون اسلامية تبعاً لاسلامية هذه الغايات بأن يكون اقتصادها كفائياً بأن تعمر الأرض بمحراث مسلم – أعني صناعة اسلامية – وبذور اسلامية والمعالجات الزراعية اسلامية وكذلك الحال في كل المجالات لإيجاد القاعدة الصناعية العريضة .

إن الصناعة ليست هي كل الاقتصاد وإنما هي عصبه ؛ فالزراعة والتعدين والأدوية وتربية الطيور والمواشي وعلومها واحياء الأرض الموات من الأرضي والعناية بالحِرف من نسيج ودباغةِ جلود وكل هذا وغيره من فروض الكفاية وتعتبر من الاقتصاد الداعم للقوة العسكرية المستقلة والمتفوقة .

إن الزيادة العددية المضطردة للجيش الإسلامي والذي بدأ ببدر ( 313 ) ثم ازداد في أحد إلى ( 1000 ) ثم في عهد أبي بكر إلى عشرة آلاف مع خالد في العراق وأربععشرون ألفاً في بلاد الشام ثم ناهز الخمسين ألفاً في عهد عمر بن الخطاب ثم ناهز المئة وخمس وسبعون ألفاً في عهد معاوية بن أبي سفيان فيما يذكر المسعودي ج4 ص 244 ( وكذا غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان بجيش مكونٍ مئة ألف ) وليعكس مدى قوة هذا الجيش بل وحاجته إلى العدة و العتاد ويعكس قوة الدولة وقدرتها على توفير كل الأسباب التي يحتاجها الجيش لضمان تحقق النصر له ، ويقول الدكتور محمد رواس قلعه جي في كتابة ( موسوعة عمر بن الخطاب الفقهية ص 297) ( وكان عمر رضي الله عنه معنياً بذلك كل العناية ، ومما يدلنا على ذلك ما ذكرناه أنه كان يحمل في العام الواحد على أربعين ألف بعير ، هذا عدا ما يحمل عليه من الخيل والبغال ... وكان عمر يتخذ احتياطاً من السلاح والعداد الحربي ، فقد اتخذ في مصر خيلاً على قدره من فضول أموال المسلمين عِدّةً لما يعرض ، فكان من ذلك في الكوفة أربعة آلاف فرس يشتّيها في قيلة قصر الكوفة ويربعها فيما بين الفرات والكوفة).

ويذكر أيضاً الدكتور حسن ابراهيم حسن في كتابه تاريخ الإسلام ص 358 ( إن خراج مصر في عهد عمر بن الخطاب عندما كان عمرو بن العاص والياً عليها قد بلغت اثني عشر مليون دينارا وهذه الأمول لم تكن توضع في خزائن وإنما تشحن بها الجيوش ويصرف منها لرعاية شؤون المسلمين أو لفك أسراهم ... فلقد أنفق الحجاج مثلاً ( 60 ) مليون درهم حين جهز جيش محمد بن القاسم وتعداد هذا الجيش ستة آلاف ... وفي حرب المسلمين مع زونبيل صاحب زابلستان افتدى القائد طلحة بن عبد الله الخزاعي أسرى المسلمين بمليون درهم . المصدر السابق ص 131 . وقد بلغ عدد الجيش أيام العباسيين مئات الألوف .

ولم يتوقف هذا الأمر عند بني العباس بل استمر هذا النهج بأن بقي الاقتصاد والصناعة -وهما الرديف الأساسي لبقاء جيش المسلمين - هو القوة التي تحقق النصر فتميز عصر الحروب الصليبية بأن صنع المسملون السيوف من الفولاذ الدمشقي الذي لا ينكسر بعكس سيوف الصليبيين .

وفي الدولة العلية العثمانية كانت الصناعة المتميزة للمدافع وملح البارود والسيوف وكراع الجند هي الداعمة لهذا الجيش الذي ارهب اوروبا كلها ، وفي هذا الأمر يقول الدكتول أكمل الدين احسان اوغلو في كتاب ( الدولة العثمانية تاريخ و حضارة ص 730 ج1 ( يقضي الأمر على كل دولة قوية في المجال العسكري أن تُعنى بتصنييع آلاتها ومعداتها الحربية وأن تقيم المصانع والورش لأجل ذلك ، وكان تصنيع تلك الآلات والمعدات التي احتاجتها الجيوش العثمانية ، وهي تركض من معركة لأخرى على مدى تاريخها الطويل ، ويجري إلى حد بعيد في المصانع والورش العثمانية ولأجل هذا اقيمت في بعض المدن وعلى رأسها استانبول منشآت عدةٍ مثل ( الترسانة ) والطونجانه والبارودخانه والجيخانه وغيرها :-

والترسانة هي دار الصناعة وتُعنى بصناعة السفن وأول هذه الدور قد انشأت سنة 1390 م ، فقد كان أول عمل بعد فتح استانبول هو استخدام ميناء ( قادرغه ) كترسانة ... وفي عهد محمد الفاتح بدأت أعمال انشاء السفن على نهر الدانوب ... ونعطي مثالاً على ذلك فقد تم بناء ( 60 ) سفينة ما بين ( 1660 – 1661 ) وبناء السفينة يحتاج إلى إعداد من العمال والنجارين وغيرهم بنحو ما بين ( 320 -340 ) عاملاً فضلاً عن المستلزمات كالخشب والزفت والقطرن والأشرعة والمجاردف والحبال والمراسي وكل تلك الأمور تصنع بأيد اسلامية ).

ولقد واكبت الدولة العلية المخترعات الحديثة فحين استعملت انجلترا السفن التجارية والحديدية سنة 1827 م ، نقلت الدولة هذه الصناعة وصنعت الدولة أول باخرة حديدية سنة 1848 م وكذلك المدافع كانت تصنع في مصانع الدولة وذخائرها وكل مستلزماتها ... وكذلك صناعة البارود بكل أنواعه وكذلك النسيج والأحذية تصنع كلها في الدولة لدعم الجيش واحتياجاته . وانشأ مصنع للورق .

ويقول الدكتور أكمل الدين في نفس الكتاب صفحة 757 ( ولم تكن المصانع التي اقيمت أو جرى تطويرها في عهد التنظيمات محصورة في ذلك فقط ، بل كانت هناك مجموعة تنتظم في داخلها مصنعاً صغيراً للحديد في البارودخانه صنعت فيه أول باخرةٍ حديدية ، ومصنعاً متوسطاً للحديد في (زيتون بورني ) ( وصي مدنيه ) كان تقوم بصناعة الماكنات والآلات مع مصنع آخر كبير للحديد ومعمل يقوم بتصنيع البنادق والأسلحة وغيرها ، وكان مصنع حديد ( زيتون بورني ) من أغلى مصانع الدولة التي أقامتها في تلك الفترة ، فقد بدأ انشاء المصنع سنة 1843 م وقبل ان يكتمل بناؤه تماماً بدأ فرن الصهر في العمل سنة 1846 م ، ثم لم يلبث المصنع أن بدأ يعمل بكامل طاقته بعد سنة 1850م وكان يقوم بصناعة السيوف والمدافع والسناكي ورؤوس المزاريق وقداحات البنادق والأعمدة والأنابيب الحديدية والقضبان الصلب والصاج المدرفل وقطع الحديد المستخدمة في سروج الخيل وأدوات الحقول والحدائق وغير ذلك .. فلما زادت الحاجة الى الآلات والأدوات العسكرية جرى تحويل انتاج المصنع بكامله في ذلك الاتجاه وزودته الدولة بالآلات والمعدات الحديثة).

ويلخص الأمر فيقول ( كانت الدولة وهي تقيم المصانع المجهزة بأحدث التقنيات لتلبية احتياجات الجيش والحكومة بالدرجة الأولى ، وتتوسل من الناحية الأخرى كافة السبل لانعاش الانتاج لدى أصحاب الصناعات الصغيرة ... ومساعدتهم على مسايرة تلك التقنيات ) .

وفي هذا الأمر يقول الاستاذ عبد الرحمن المالكي في كتابه (السياسة الاقتصادية المثلى ص 191-192 ) ( وإنما نريد أن نقول أن الواقع الذي تعيشه البلاد يحتم عليها القيام بالثورة الصناعية في الحال ، فالانفصال عن الغرب لا يتم ولا يطمئن المرء إليه إلا اذا حصل الاستغناء عن الغرب ، وما دمنا في حاجة لاستيراد الآلات الصناعية منه فإنه ستظل لدى الغرب الفرص لإعادة ربطنا به بل ولإعادة نفوذه وسيطرته لذلك كان القيام بالثورة الصناعية أمراً حتمياً ، وهذا يعني المبادرة إلى قيام صناعة الآلات رأساً بدون تدرج بل وبشكل انقلابي حتى يكون العمل ثورة صناعية صحيحة )

ورُب سائل يسأل وهل توجد ثورة صناعية غير صحيحة ؟ وحُقّ للسائل أن يسأل إذ أن الخلط بين الصناعات التكميلية كالتعبئة والتجزءة والصهر والتشكيل كما يحصل في الصناعات البلاستيكية أو الورقية أو الصناعات الغذائية التي تعتمد على الغرب في مادتها الخام وكل ما يدور ضمن هذا النطاق وإن سُميت مجازاً صناعات فإنها في واقعها ليست الصناعة الصحيحة إذ أن الصناعة المشار إليها بالصحيحة هي صناعة المصانع التي تصنع بدورها المعدات ومستلزماتها ... فقد نقل عن لينين حين طلبوا منه احضار التركتورات أنه قال لن استعمل التركتورات حتى ننتجها .

إن التخطيط الاقتصادي للدولة الاسلامية الذي يقوم على اساس التصنيع العسكري ليس فقط يحتمه استقلال الإدارة السياسية فهذا الأمر تشترك فيه مع غيرها من الدول التي لا تريد اخضاع ارادتها السياسية لغيرها ، بل هو أمر واجب عليها القيام به لأنه حكم شرعي أوجبه الله عز وجل حين خاطبنا فقال {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}الأنفال60 ، وطبيعيّ أن العدوّ الذي نشتري منه السلاح لنقاتله به أو نقاتل حلفاءه وصنائعه بهذا السلاح لن تتحقق عنده ( ترهبون ) فهو لن يخاف من آلة عسكرية هو الذي صنعها وباعها لنا ... فهو يعلم دقائقها وموطن ضعفها وعمرها الافتراضي وطاقة استعمالها وبيده قطع غيارها وغير ذلك فمن الطبيعي أن لا ترهبه هذه الآله ولو كثرت في عددها ، فعلمه بما تمتلك من عدةٍ وآلة حربية لا ترهبه بعكس عدم علمه بما تملك ولو قل .

لقد خاطبنا ربنا عزّ وجل فقال {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } النساء141 ، فكان السبيل لتحقيق ذلك الأمر هو السير في طريق التخطيط الاقتصادي لايجاد السياسة الصناعية التي تمكننا من بناء المصانع التي تنتج المصانع من ثم تبدأ هذه المصانع بإنتاج ما هو مطلوب من سلاح وغيره ... وهذه هي الثورة الصناعية الصحيحة التي تتم بشكل انقلابي لا تدرج فيه فالخطاب من ربنا حين خاطبنا فقال {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } لم يجزأ هذا السبيل ولم يقسمه فنصف السبيل سبيل وربع السبيل سبيل والجزء من السبيل سبيل ، ورفع يد الكافر عن المسلمين لا تدرج فيه ولا تجزءة فالسياسة الصناعية للدولة هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى رفع يد الكافر عن أن يكون لهم أي سبيل لا للهيمنة أو للضغط على الإرادة السياسية للمسلمين وقد نفى الله وأكد مما يدل على تحريم أية سياسة تعرض المسلمين لما نفاه الله وأكده عنهم .

إن الاعتماد على الدول الاستعمارية الطامعة في شؤون التسليح أو الصناعة يؤدي في عصرنا وأدّى إلى ما حرمه الله ... وما يؤدي الى الحرام حرام ، فواجب الدولة أن تتخلص من أن تقع في هذا الحرام وذلك بانتهاج السياسة الاقتصادية في كل جوانبها وخصوصاً جانب التصنيع العسكري ... فكما أن الوسيلة إلى الحرام حرام ، فكذلك الأمر فإن الوسيلة إلى الواجب امر واجب ، وتلك الوسيلة هي الاعتماد على الذات في التصنيع العسكري ... وفي هذا الأمر يقول الإمام القرافي في كتاب ( الفروق ج2 ص33) ( كما أن وسيلة المحرم محرمة ... فوسيلة الواجب واجبة ) .

ويقول في هذا الموضوع الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه ( محاسن التأويل ) في معرض تفسيره لقول الله عزّ وجل {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ( أما اليوم فقد ترك المسملون العمل بهذه الآية الكريمة فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية فأصبحت جميع الأمة آثمة بتركه ، ولذا تعاني اليوم من غُصّته ما تعاني ، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الاسلامية التي لا ترى فيها معاملٌ للأسلحة وذخائر حرب ، بل كلها مما يُشترى من بلاد العدو ...؟؟ أما آن لها أن تنتبه من غفلتها وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية ..؟؟؟ فقد القى عليها تَنَقُّص العدو بلادَها من أطرافها درساً يجب أن تتدبره وتتلافى ما فرطت به ) .

بقيت في الموضوع مسألة مهمة وهي أن الدولة حين تخطط اقتصادها لانشاء صناعة عسكرية خاصة بها لا تنظر أبداً ولا تحسب حساباً للجدوى الاقتصادية من ناحية التكاليف ؛ لأن هذا الأمر لا يخضع لعملية الكم أو لكلمة ( غالي ) أو ( أرخص ثمناً ) ؛ لأن الهمّ منصب على صناعةٍ وانتاجٍ وليس حساب تكاليف ، فلو كلفتنا البندقية ألفاً وهي عند الغير بمئة لا نشتريها منه لأن هذا أمر متعلق بسيادة واستقلال للإرادة ، والدولة راعية ومن مقتضيات رعايتها ايجاد الصناعات ومنها الصناعة الحربية ، والدولة لا تمارس الاعمال التجارية ، والفرق واضح والمعالم بين الرعاية والتجارة .

في قوله تعالى{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }القصص77

إنها خمس أوامر ونواهٍ من الله عز وجل:-

1- {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}: وهي المسألة العقائدية التي لا تنفصل عند المؤمن ما بين الدنيا والآخرة , وأن طلب الدنيا أن كان للدنيا فهو البوار والخسران والحسرة الدائمة على ما فات أو على ما يمكن الوصول إليه أو على ما غفل عن الوصول إليه أو على ما لا يمكن الوصول إليه أو على ما لا يمكن إبقاؤه والمحافظة عليه وهذه دائرةالقلق المتجدد ما بين غم وهم أو ما بين حسرة وحسرة يعيشها من كانت الدنيا همه, فكلما تقدم به العمر فقد من نفسه أمور ومتع..... وإذا حصل على شيء فقد شيء مقابله , فهذا حاله ما بين قلق وحسرة وندم

لقد كانت العقيدة الإسلامية هي الجسر الواصل ما بين قبل الخلق إلى الدنيا وما بين الدنيا إلى الآخرة, وهذا هو الربط العقائدي عند المسلم كونه يعيش الدنيا طلباً للآخرة وعيشه في هذه الدنيا في كل حركة وسكنة وفق أوامر الله ونواهيه....ومن هنا بدأ الخطاب للمسلمين{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}وكان الفهم أن من أعطاه الله القوة واجب عليه أن يجعل من قوته قارب نجاةٍ له لا أن يكون وبالاً عليه فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال(أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمبكبي فقال( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فهذه الدار الفانية سميت بالدنيا لدنوها أو لقلة متاعها وبقول الإمام النووي لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق الغريب في غير وطنه وفي هذا المعنى وصيته صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها( إذا أرادت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب و وإياك ومجالسة الأغنياء, ولا تستخلفي ثوباً حتى ترقعيه ) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي ويقول عروة معلقاً على هذا : فما كانت عائشة تستجد ثوباً حتى ترقع ثوبها وتنسكه, ولقد جاءها يوماً من معاوية ثمانون ألفاً فما أمن عندهم درهم, فقالت لها جاريتها فعلاً اشتريت لنا منه لحماً بدرهم ؟؟ فقالت لو ذكرتيني لفعلت.

إن نظرة الإسلام إلى المال لا يخرج عن إطار كونه وسيلة لإشباع الحاجات فمن إطار الأحكام الشرعية ولا يتعداها مطلقاً ينتفع به المسلم الانتفاع الشرعي افناء أو إجارة أو تملكاً أو إعارة , ولا ينظر إلى المال على أنه غاية ولا يطلب المال لذاته وإنما بطلب المال ضمن إطار كونه وسيلة تشبع الحاجات لا كونه غاية من الغايات وصدق الله العظيم{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }آل عمران14 فهذه وغيرها من المتع يجري عليها وعلينا الفناء شئنا أم أبينا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }الكهف46

لقد وصف لنا ربنا عز وجل الحياة وصورها بما نعقل ونرى فقال{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }الحديد20 وروى أحمد عن الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له( يا ضحاك ما طعامك..؟؟ قال يا رسول الله اللحم واللبن قال( ثم يصير إلى ماذا)؟؟ قال إلى ما علمت قال(( فإن الله تعالى ضرب ما يخرج ابن آدم مثلاً للدنيا )) وصدق الله العظيم {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} النساء77

إن النهي عن حب الدنيا والتعلق بها وكأنها هي الباقية الخالدة لكون هذا الحب وهذا التعلق يشغل الإنسان عن أمور الآخرة وما هو مقدم عليه وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم( من أحب دنياه أخر بآخرته, ومن أحب آخرته أخرّ بدنياه, فآثروا ما يبقى على ما يفنى) رواه أحمد والبزار وابن حيان والحاكم وغيره فكان المطلوب أن يأخذ الإنسان من هذه الحياة الدنيا ما يكفيه عن الطريق التي يمنها الشرع دون طمع ودون تعلق وحرص حتى لا يكون لها مكان في قلبه , ونسأله أن تكون الدنيا في أيدينا ولا تكون في قلوبنا فقد روى الطبراني بإسناد حسن أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذا المعنى ( من اشرب حب الدنيا التاط منها بثلاث: شقاء لا ينفذ عناه, وحرص لا يبلغ غناه وأمل لا يبلغ منتهاه فالدنيا طالبة ومطلوبة, فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يدركه الموت فيأخذه و ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه) التاط: التصق وتعلق وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( إن الله ليُحمي عبده المؤمن الدنيا وهو يحبه كما تُحمون مريضكم الطعام والشراب) وروى الطبراني في الأوسط أن رجلاً قال له: يا رسول الله... ما يكفيني من الدنيا...؟؟ فقال له(ما سد جوعتك, ووارى عورتكو وإن كان لك بيت يظلك فذاك, وإن كانت لك دابة فبخٍ )وبخ كلمة تقال عند المدح والرضا وصدق الشاعر حين قال:

إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق

والليالي متجر الإنسان والأيام سوق

إن العقيدة لا تحتاج إلى عناءٍ بل هي ميسورة ومبسطة فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير وصدق الله العظيم{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}الغاشية17 فهذه المخلوقات أوجدها خالقها من عدم, ولكن الالتزام بأمر الله ونهيه هو الصعب حين تتزاحم الدنيا بكل ما فيها من زينة وإغراء تغوي الإنسان وتغريه وهذا ما حصل حين تزاحمت الدنيا بزينتها في أعين البعض فمن رأوا قارون في قوله تعالى{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }القصص79

فإن الهيئة التي بدت لهم حين خرج قارون عليهم إنما هي هيئة نعمة فقالوا إنه لذو حظ عظيم, وكانت نظرتهم للدنيا ولم تكن نظرتهم للدنيا عبر عقيدتهم فكان حكمهم على واقع شاهدوه ولم يكن حكمهم بناء على عقيدتهم واختلف الأمر كل الاختلاف حين خسف الله به وبداره الأرض فاختلف حكمهم حين اختلفت الصورة وصدق الله العظيم {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }القصص82 لقد أدركوا أمراً كانوا يعلمونه سابقاً ولكنهم لم يدركوه, وهذا الإدراك المتأخر ظاهر في قولهم {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} كما قال الخليلي وسيبويه والكسائي ويونس أن القوم تنبَّهوا ونُبِّهوا فقال(وي) والمتندم من العرب يقول في خلال تندمه(وي) فهم قد استوعبوا ما حدث بعد أن رأو {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}وهذا من احسان الله عز وجل على عباده حين يمهلهم ولا يعجل العذاب بل باب التوبة لا يغلق حتى يغرغر العبد

فكان جملة القول في قوله تعالى{ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}القصص77 في كل أمر من أمور حياتك ولا تجعل النعمة التي أنعمها الله عليك سبباً لبغيك وتجاوزك وخروجك عن أمر الله ونهيه, وأحسن في القول والفعل قولاً وفعلاً يعكس ما آمنت به واعتقدته.

2-{ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}

إن الإنسان إن ابتغى برزق الله له في الحياة الدنيا الحياة الدنيا فإن هذا الرزق لسوف يفنى معه في الحياة الدنيا.... ولكنه يستطيع أن ينقله معه للآخرة ويكون معه, وهو في هذه الحياة الدنيا بين أمرين فإما أن يفوت هذا النعيم بالموت أو يفوته هو حين يفتقر أو أن يقدمه بين يديه ففي الحديث الشريف حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي أهديت له قالت بعد أن تصدقت بها ( ذهبت إلا كتفها) فقال صلى الله عليه وسلم( بل بقيت إلا كتفها) أخرجه احمد في مسنده والترمذي, ويقول صلى الله عليه وسلم( ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت, أو تصدقت فأبقيت)أخرجه أحمد وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة رضي الله عنها فوجدها تجلو درهماً فسألها ماذا تصنعين به قالت(اجلوه قال لِمَ قالت لأني نويت أن أتصدق به وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير)

إن العاقل ينظر إلى الدنيا على أنها لا تستحق العناء ولكن ربه أمره ليأخذ شيئا منها مما تقتضيه حاجته وحركته في حياته, وهذا النصيب هو ما ينالك منه لا عن مفارقة إنما عن ملازمة ودوام, وعلى هذا فنصيبنا من الدنيا هو الحسنات التي تبقى لنا وتظل معنا وتصحبنا بعد الدنيا إلى الآخرة بالعمل الصالح

إن نصيبنا في الآخرة نحن الذين نصنعه في الحياة الدنيا بالتزامنا بأوامر الله ونواهيه, فالنصيب هو الحظ من كل شيء فقوله تعالى{ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}يعني أن تنال من زينة الله وثمراته وخيراته وأن تُرى أثر نعمته عليك لا عن خيلاء وعُجب وبطر بل عن شكر وحمد, فالي قدم الخير في هذه الحياة الدنيا له النصيب في الآخرة في قوله تعالى{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} النساء 85 وفي قوله تعالى{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }فصلت35 قال قتادة ومجاهد الحظ العظيم الجنة

وكذلك الكافر فهو حين قال في هذه الحياة الدنيا{وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً} الأنعام136{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ }النحل56كان جزاؤهم أن قالوا في الآخرة{فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ }غافر47وقوله تعالى{أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} الأعراف37 على ما فعلوا في هذه الحياة الدنيا

إن كثيراً من الناس ليظن أن الحظ(النصيب)ليس من عند الإنسان وأن الإنسان لا دخل له بهذا النصيب ويعّزي نفسه بأ كل شيء في هذه الحياة الدنيا ( قسمة ونصيب) ومهما عمل أو جدَّ أو اجتهد فلا يمكن له أن يغير, وذلك أن(ما كتب على الجبين نسوف تراه العين) فلماذا العمل وكل شيء مكتوب ومقدر, وأن فلان محظوظ(وشنصه يفلق الحجر) ولو أمسك بالتراب لتحول التراب إلى ذهب, وأنه سيء الحظ(ومنحوس) وأنه كما قال الشاعر يصف حبيبته:

فشعرك مثل عينك مثل حظي

سواد في سواد في سواد

فلماذا يعمل ويجد ويجتهد ما دام يعرف حظه ونصبه...؟؟؟ فالجواب على قوله هذا بأننا ما وجدنا في هذه الدنيا لنجمع المال أو نعلي البنيان أو نتفاخر بل وجدنا في هذه الدنيا لعبادة ربنا وأنها دار بلاء وامتحان للمؤمن توصله لغاية الغايات وهي نوال رضوان ربه بغض النظر أجاع فيها أم شبع وصدق الله العظيم{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35 وقد ذكر عن عبد الله بن عباس في وصف الدنياأنه قال(يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء وزرقاء وأنيابها بادية, مشوهة الخلقة لا يراها أحد إلا كرهها, فتشرف على الخلائق فيقال لهم:أتعرفون هذه..؟؟ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه, فيقال لهم, هذه التي تفاخرتم بها,وتحاربتم عليها, ثم يؤمر بها إلى النار, فتقول يا رب أين أتباعي وأصحابي وأحبابي فيحقونها) ومعنى إلقائها في النار لكي يراها أهلها ويرون هوانها على الله تعالى. ومن كلام سيدنا علي كرم الله وجهه: إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته, وإذا أدركت الطالب لها قتلته.

وقيل لزاهد أي خلق الله أصغر؟؟ فقال:الدنيا لأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة, ومن هوانها عند الله أنه خلقها ولم ينظر إليها, ولا يعطى إلا فيها, ولا يُنال ما عنده إلا بتركها وإذا أردت أن تزهد فيها فانظر هي عند من وفي يد من؟؟؟

وروي عن يحيي بن معاذ الرازي أنه قال الدنيا مزرعة لرب العالمين, والناس فيها زَرعُهُ , وملك الموت منجله, والمقبرة مدارسه و والقيامة تذريته, والجنة بيت أحبابه, والنار بيت أعدائه,فريق في الجنة وفريق في السعير.

ورحم الله من قال واصفاً الدنيا:

عتبت على الدنيا لرفقة جاهلٍ

وخفضٍ لذي علمٍ فقالت خذ العذرا

بنو الجهل أبنائي لهذا رفعتهم

وأهل التقى أبناء ضرتي الأخرى

أأترك أبنائي يموتون ضيعة

وأرضع أبناءً لضرتي الأخرى

ويقول الشاعر:

هي الدنيا تقول بملئ فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركموا مني ابتسام

فقولوا مضحكٌ والنعل مبكي

فمن هداه الله للإسلام والتزم أحكامه واطمئن قبه لقضاء اله ز وجل ورضي بما قسم الله له ذاق حلوة الإيمان وناله النصيب والحظ الوافر, لأنه لم ينظر إليها من خلال الغنى والفقر والجوع والشبع وإنما نظر إليها من خلال الطاعة لربه وموافقة أمره فيما أمر, وقد روى مسلم في هذا الموضوع عن بد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله ليه وسلم قال( قد أفلح من آمن ورُزق كفافاً وقَنَّعه الله بما آتاه) وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(ليس الغنى عن كثرة العرض, ولكن الغنى غنى النفس) متفق عليه, وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(ألا إن الدنيا ملعونة.. ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالماً ومتعلماً ) وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا) والضيعة هي العقارات

3- {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}

الحسن ضد القبح ونقيضه وهو نعتٌ لما حَسُن وحَسَّنْتُ الشيء تحسيناً وزينته , وأحسنت له وبه في قوله تعالى{ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} يوسف100 يعني أحسن إليًَّ , وقوله تعالى {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}يونس26 قيل الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجهه الله تعالى وفي قوله تعالى {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً البقرة} 83 أي قولاً ذا حسن والخطاب لليهود أي اصدقوا في صفة محمد صلى الله عليه وسلم . وفي قوله تعالى{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} التوبة 100 يعني باستقامة وسلوك الطريق الذي درج عليه السابقون.والحسنة عي النعمة ويقال حظوظ حسنة في قوله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }البقرة201

لقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان حين سأله جبريل عنه فقال ( هو أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وفي قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} النحل 90 وأراد بالإحسان الإخلاص وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام .إذ أن من تلفظ بالكلمة وجاء بالعمل من غير إخلاص لم يكن محسناً وقيل أراد بالإحسان الإشارة إلى المراقبة وحسن الطاعة فإن من راقب الله أحسن عمله وقد أشار النبي صلى الله علي و وسلم في الحديث بقوله( فإن لم تكن تراه فإنه يراك)

وفي قوله جل وعلا {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }الرحمن60 أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة و وقال عكرمة:أي هل جزاء من قال لا اله إلا الله إلا الجنة, وقال ابن عباس: ما جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة.....وروى انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }ثم قال( هل تدرون ما قال ربكم..؟)قالوا الله ورسوله أعلم, قال( يقول ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحي إلا الجنة)

إن الذين آمنوا من بني إسرائيل حين خاطبوا قارون بهذا الخطاب وقالوا له( وأحسن كما أحسن الله إليك) قد أدركوا أمراً لم يدركه هو او لم يرد أن يصدقه... فهم فهموا ان العبد هو موضع الإحسان من الله ويستغرق إحسانه البر والفاجر والمؤمن والعاصي وأن كل الخلق في نعمة من الله .....فمطلق الإحسان من الله للكافر والمؤمن والإحسان المطلق لأهل الإيمان الين اتقوا وهم محسنون وصدق الله العظيم {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }إبراهيم34

إن الثناء على المحسن بإحسانه وذلك بشكر المنعم جل وعلا لا النظر إلى النعمة والجاه والمال والصحة وعدم النظر إلى المنعم بعد ظهور أثر نعمة ربنا علينا بأن هانا لصراطه المستقيم وأنعم علينا بنعمة الفهم والصحة

وفي هذا المعنى فقد كتبت عائشة رضي االله عنها إلى معاوية بن سفيان( إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه, أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلاً لمعصيته ) وهذا الذي لم يدركه قارون أو لم يرد إدراكه من أنه قد جعل من إحسان الله عليه وإنعامه عليه بالمال وسيلة لمعصية الله عز وجل

إن الشكر هو نصف الإيمان ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( والإيمان نصفان: نصف الشكر , ونصف صبر) وقد أمر الله به ونهى عن ضده وأثنى على أهله, ووعد أهله بأحسن جزاءه وجعله سبباً للمزيد من فضله وحارساً وحافظاً لنعمته في قوله تعالى {وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }البقرة172وقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ}النحل 120-121 وقال عن نوح{إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}الإسراء3 وقال{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }النحل78 وقال{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }إبراهيم7

وفي الصحيحين( أنه قام حتى تورمت قدماه فقيل له تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال صلى الله عليه وسلم(أفلا أكون عبداً شكورا)

إن أولى الناس بالإحسان إحسان الإنسان لنفسه في قوله تعالى{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90 وخاطبنا ربنا فقال {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }البقرة44 وقال{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف3فالعدل والإحسان أمران من الله تعالى للعبد فالواجب أن يبدأ بهما بنفسه وفي هذا المعنى يقول سفيان بن عيينة العدل هاهنا استواء السريرة, والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية, ويقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: العدل الإنصاف والإحسان التفضل. ويقول ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه, وتقديم رضاه على هواه والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر, وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها قال تعالى{ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }النازعات40وعزوب الأطماع عن الاتباع, ولزوم القناعة في كل حال ومعنى, وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل أو كثر, والإنصاف من نفسك لهم بكل وجهه. ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى

ويقول القرطبي رحمه الله في هذا الموضوع: وهو في هذه الآية مراد المعنيين معاً فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض, حتى أن الطائر في سجنك والسِّنور في دارك لا ينبغي أن تقص تعهده بإحسانك, وهو تعالى غني عن إحسانهم, ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن, وهو في حديث جبريل بالمعنى الأول لا الثاني, فإن المعنى الأول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها, ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار, وهو المراد بقوله(أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه, ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله( وجعلت قرة عيني في الصلاة) وثانيهما لا تنتهي إلا هذا, لكن يغلب عليه أن الحق مطلع عليه ومشاهد له واليه الإشارة في قوله تعالى{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }الشعراء219 وقوله{إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يونس 61

إن الفرق واضح بين العدل والفضل وهو إحسان القصد في العدل والفضل فقد يأتي الخطاب بالعدل إيجابا له وفرضاً وبالفضل ندباً واستحباباً , وبالشدة في موضع الشدة وباللين في موضع اللين , فيذكر الظلم ويحرمه ويذكر العدل ويوجبه, ويذكر الفضل ويندب إليه, فقوله تعالى{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} الشورى 40 فهذا عدل وقوله تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الشورى فهذا فضل40{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ النحل126فهذا إيجاب بالعدل, وقوله تعالى{وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }النحل126ندباً إلى الفضل , وقوله تعالى{وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }البقرة279تحريم للظلم وقوله {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }البقرة280

وقوله{ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }البقرة280 فضل لقد منَّ الله علينا بإحسانه أن أباح لنا كل طيب عينه وحرم علينا كل خبيث عينه رحمة بنا وهدانا لما ضلت عنه الأمم قبلنا, ووهب لنا من علمه وحلمه بأن جعلنا خير أمة أخرجت للناس, وكمل لنا من المحاسن ما نرقه في الأمم قبلنا, وكمل لنبينا صلى الله عليه وسلم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله, وكمل لنا في كتابه من المحاسن بما فرقه في الكتب قبلنا وأخبرنا فقال{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} المائدة 3

روي عن عثمان بن مظعون أنه قال لما نزلت آية{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }قال قرأتها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجب فقال: يا أل غالب اتبعوه تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق, وقال عكرمة قرأ النبي صلى الله عليه وسلم{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ....} على الوليد بن المغيرة إلى آخرها فقال.....يا ابن أخي أعد....فأعاد عليه فقال والله إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإن أصله لمورق, وأعلاه لمثمر وما هو بقول بشر. وقال ابن مسعود هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل, ولشر يجتنب, وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل والإحسان, وزكاة القدرة العفو, وزكاة الغنى المعروف, وزكاة الجاه كتبُ الرجل إلى إخوانه

قلنا أن أول الإحسان إحسان المرء لنفسه بضبطها وفق أمر الله ونهيه وعدم إتباع الهوى وإلزامها طريق الله المستقيم فإن لم يفعل كان كما قال الشاعر:

ونفسك أكرمها فإنك إن تهن

عليها فلن تلقى لها الدهر مكرما

وأما الجانب الثاني من الإحسان فكما أخبر ربنا عز وجل في قوله {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}البقرة195

وأما الإحسان إلى الغير فإنه إما أن يكون بالقول أو بالفعل, فأما الإحسان بالقول ففي قوله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }فصلت33

4-{ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}

بغى الرجل: هو كل ما يطلبه الرجل من الخير أو الشر

طلب الشر:في قوله تعالى {َيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} آل عمران 7

وطلب الخير: في قوله تعالى {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ الإسراء57

والبغية هي الحاجة في حديث أبي بكر رضي الله عنه في الهجرة (أن رجلاً لقيهما بكراع الغمام فقال من أنتم فقال أبو بكر باغٍ وهادٍ تمرض بِبِغاء الإبل يطلبها, وهو يطلب الدين والهداية )والبغي: هو التعدي يعني أنه غذل عن الحق واستطال في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الأعراف33 قال الأزهري معناه الكبر والظلم والفساد

البغي: هو قصد الفساد: إذا ظلم الناس وقصد أذاهم....والفئة الباغية: هي الفئة الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام في قول النبي صلى الله عليه وسلم(ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية) وأصل البغي مجاوزة الحد والظلم أو كل مجاوزةٍ وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء أو الفعل في قوله تعالى {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ }ص22 وقوله تعالى{ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ص24 والخلطاء هم الشركاء

إن أول الآية ليدل على المعنى الذي نعنيه في قوله تعالى {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ }القصص76 يعني استطال كبراً عليهم وظلماً وأنه طلب الفضل عليهم بسبب ماله وغناه وأن يكونوا تحت يده وطوع أمره

-{ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} وفيها أمور:-

أ- إن العلم عنده حاصل لفعله الذي يفعله فلا جهالة عنده, وهذا يعني وجود القصد من فعله حين يطلب الفساد ابتداءً ثم ينتقل إلى طور الإفساد في الأرض وصدق الله العظيم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } البقرة11-12

إن الفساد هو خروج الشيء عن كونه منتفعاً به, وأما في هذه الآية فإن الفساد متعلق بالفعل وهو خروج هذا الفعل عن منهج الله عز وجل , فإن كل من أراد التغيير في منهج الله فهو باغٍٍ طالب فساد وصدق الله العظيم{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} الأعراف 56 فإنه جل وعلا خلق كل شيء على هيئة الصلاح لإسعاد الخلق, ومن هذا الصلاح منهج الله فكل من يعمد هذا الصلاح ليفسده شمله الخطاب {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}

ب- إن البغي هو قصد إيقاع الفساد وإيجاد الشك عند الناس وإلباس الباطل ثوب الحق والتعدي على أحكام الله عز وجل بالقول وبالفعل, فالذي يدعو للديمقراطية والوطنية والقومية باغ لأنه يطلب الفساد, وإن غلف فعله بغلاف يستهوي العامة ويجذبهم إليه تحت شعارات براقة, وصدق الله العظيم { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ }النحل 90 وقد خصه تعالى بالذكر اهتماما به لشدة ضرره وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( لا ذنب أسرع عقوبة من بغي) وقوله(الباغي مصروع) وصدق الله العظيم{ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} يونس 23 والمفسدون في كل عصرهم الذين يقفون في وجه الدعاة إلى الحق في قوله تعالى {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ }العنكبوت30

ج-{ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} فلا بد من مراقبة الله ومراعاة الآخرة وأن ينفق هذا المال في وجهه وأن لا ينفق في معصية أو يمنع حق الله فيه, وهذا يتمثل في اعتدال المنهج الذي يعلق صاحب المال بالآخرة ولا يحرمه من أن يأخذ قسطاً من المتاع في قوله تعالى{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ الأعراف 32 , فإن الله تعالى قد خلق طيبات الحياة الدنيا ليستمتع بها الناس وليعملوا على توفيرها وتحصيلها وتكثيرها فتنموا الحياة وتتحقق خلافة الإنسان لهذه الأرض, وذلك بأن تكون وجهتهم في هذا المتاع إلى الآخرة فلا ينحرفون عن طريقها, ولا يشتغلون بالمتاع عن تكاليفها , والمتاع في هذه الحالة هو لون من ألوان الشكر للمنعم وتقبل عطاياه, فالله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.

د- {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وجواب قارون الأمس كجواب قارون اليوم {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} القصص 78 وجواب قارون اليوم( كنت راعي وأطلعني ذراعي) و(شطارتي) فلا تملوا عليَّ طريقة في تصرفي.....فإنه مالي أنا.....وجهدي أنا واستحققته بعلمي وجدي واجتهادي, فأتصرف فيه كما أريد.

إنه قول المغرور المطموس الذي ينسى دائماً مصدر هذه النعمة وحكمتها ويفتنه المال فتنة تعميه عن رؤية الحق وطريق الهدى..... وهذا نموذج متكرر في البشرية.....فكثير من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه وأنه هو وبجهده أصبح غنياً وأنه غير مسؤؤل عما ينفق وعما يمسك وأنه غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح وصدق الله العظيم {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }سبأ35

إن الفرق شاسع واسع بين إدراك قدرة المنعم وبين النظر إلى النعمة فقط دون النظر إلى المنعم فقارون نظر إلى النعمة مجردة فقال {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}وسليمان عليه السلام نظر إلى النعمة وأدرك عظمة المنعم{ فقال هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }النمل40

إن الإسلام ليعنى بالجهد الفردي الذي يبذل في تحصيل المال أو تنميته ضمن إطار الأحكام الشرعية لأسباب التملك فلا ينقص من شأن الجهد الفردي أو يلغيه, فقد روى البخاري من طريق المقدام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده), ولكنه في الوقت نفسه قد فرض أحكاماً معينة للتصرف في هذا المال المكتسب, فلم يحدد طريق اكتساب المال فقط بل حدد طرق إنفاقه أيضاً, فلم يطلق اليد في الاستمتاع بهذا المال حتى يجاوز حد الإسراف ولا في الإمساك حتى التقتير , وفرض للجماعة حقاً في هذا المال, فكان إدراك الصلة بالله الخالق حين تلبسه بعملية اكتساب المال أو تنميته وحين إنفاقه لهذا المال بأن يدرك أن الله مراقبه ومحاسبه

إن الأمر الأساسي الذي يجب أن يعيه ويدركه كل مسلم انه حامل لدعوة الإسلام وصاحب قضية, وهذا هو الأمر الملازم له حال فقره وحال غناه, وأن الغنى والفقر بالنسبة له حالان متغيران, فقد يصبح الغني فقيراً والفقير غنياً ويبقى حامل الدعوة حامل دعوة وصدق الله العظيم {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }الشورى20

5-{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لقد فهمنا أن البغي هو التعدي والاستطالة على الناس, وقارون كل عصر يتطاول على الناس ويستخف بهم بسب ماله وغناه, بل أنه قد تعدى هذا الأمر حتى أراد التطاول على ما هو أعلى منه وأعز فقالوا قديماًَ في قوله تعالى {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }سبأ35 فكان من مقتضيات بغيهم أن أضافوا إليه الصدَّ عن سبيل الله , فجمعوا بين البغي والصد حتى تكتمل دائرة نفوذهم فيفعلوا ما يريدون فيعزلوا ويعلوا من أرادوا وصدق الله العظيم{ قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} البقرة 247 وحين نستعرض آيات من كتاب الله في هذا الأمر نجد أن البغي يتلاحق مع الصد عن سبيل الله فاقرأ معي:

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ }الأعراف45 {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }هود19 وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ }إبراهيم3 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }آل عمران99

إن الصدَّ هو المنع , فيكون المعنى أن المتعدون لحدود الله والذين يصرفون الناس ويمنعونهم من إتباع الحق يطلبون العوج ويصرفون الناس عن صراط الله المستقيم بأن يزينوا لهم أهواءهم حتى يوقعوا الشك في صدور الناس حتى يتشكك المتشككون ويقولون لقد قال فلان وقال فلان والفرق بين ما قال فلان وفلان جنة ونار

إن القصد إيقاع الفساد والإفساد في الأرض هو صد عن سبيل الله وهذا ديون كل من لم ينضبط بأمر الله ونهيه وسلبه ماله وإرادته فيطلب ضم النفوذ إلى المال حتى يمتلك القوة لصناعة قانون يضمن له انسياب مصالحه بغض النظر عن حلها وحرمتها فالأمثلة من الواقع أكثر من أن تحصى وأوضح من أن تروى فالمال والشرف والجاه والرفعة والقوة أسباب ووسائل يعطيها ربنا عز وجل لمن شاء من خلقه فالعاقل من توسلها طريقاً للآخرة والأحمق من توسلها طريقاً للدنيا وصدق الله العظيم{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }القصص77و إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }البقرة195


حديث رمضان 8 لعام 2010

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات