النظرة السياسية
ان نظرة المسلم للحياة الدنيا نظرة امل وجديةٍ ، ونظرة تقدير لها بقدرها ، من حيث انها يجب ان تنال ، ومن حيث انها ليست غاية ، ولا يصح ان تكون ، وان المسلم يسعى في مناكبها ويأكل من رزق الله ويتمتع بزينة الله التي اخرج لعبادةِ والطيبات من الرزق ، مع ادراكه انها فانية وأنها دار ممر، وأن الدار الآخرة هي دار الخلود والبقاء ، فجاءت الأحكام الشرعية لتعالج للانسان امور البيع والشراء بطريقة خاصة كما تعالج امور الصلاة والزكاة والحج ومشاكل الزواج والطلاق وكيفية تملك المال وصرفه وتبين المعاملات والعقود والشركات والادعية والعبادات والحدود والجنايات وتشرح عذاب جهنم ونعيم الجنة وتدله على شكل الحكم وواجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتدله على الاندفاع نحو تطبيق الاسلام لنيل رضوان الله عز وجل ..... بعد ان حلت له العقدة الكبرى، وكل ذلك ضمن الاطار الخاص المتميز .
لقد نظم الاسلام للانسان كل علاقاته سواء مع نفسه او مع غيره او مع خالقه في نسق واحد من الفكر والمعالجة ، فصار الانسان مكلفاً لان يسير في هذه الحياة الدنيا بدافع معين وفي طريق معين ونحو غاية معينة وأن ينظر الى كل ما في هذا الكون من زاوية خاصة وأن يعقل هذه الامور بطريقة خاصة ، فالفكر هو حكم على واقع ، فإذا كان هذا الواقع المراد الحكم عليه ادواته وضوابطه ومقاييسه واحدة تطابق هذا الحكم عند كل الناس بغض النظر عن مشاربهم وعقائدهم ، فالمسلم وغير المسلم يحكم على واقع النهار بأنه نهار وعلى واقع الليل انه ليل وكذلك الحلو والحامض والبرد والحر ولا يخالف هذا الحكم الا شاذ ، وليس هذا ما نبغيه او نقصده ، بل نقصد من هذا الحكم على هذا الواقع هو الأشياء والأفعال التي تقع على هذه الأشياء ، والأفعال التي تحدد طبيعة هذه العلاقات وهذه الأفعال بناءً او استناداً الى العقيدةِ الاسلامية .
ان الزاوية التي يجب ان ينظر عبرها كل مكلف لاي امر سواء اكان هذا الامر يتعلق بمشكلة اقتصادية او اجتماعية او سياسية او مشكلة حكم هي العقيدة الاسلامية ، فلا يُنظر الى المشكلة نظرةً مجردة عن العقيدة فالنظر المعتَبر عندنا هو ان ننظر الي اي مشكلة على انها مشكلة انسانية تحتاج الى علاج – هذا ما نطلبه ونقصده ، فالنظر الى اي مشكلة نظرة مجردة هو نظرة قاصرة بل ومخالفة لنهج الله عز وجل .
ان النظرةَ السياسية من ناحية اعطاء الرأي او الحكم على واقع تتعلق بثلاثة امور وهي الناظر والمنظور عبره والمنظور اليه ، فالذي اعتنق مبدأ الاسلام لا بد ان ينظر الى الواقع من خلال مبدائه هو لا من خلال مبداء غيره ، وهنا يحصل الاختلاف في الرؤى السياسية مع كون الواقع – المنظور إليه – واحد ، فنظرة المسلم للخمر تختلف عن نظرة الرأسمالي له ، فالاختلاف ليس على ذات الخمر وانما الاختلاف يرجع لنظرةِ كل واحد منها للخمر وكذلك الامر بالنسبة للديمقراطية والوطنية والاستقلال والاستعمار وحق تقرير المصير والاقلية والأكثرية وغيرها .
ان اصحاب النظرة السياسية في الدولة او الكيان ثلاثة وهم الفرد والجماعة والأمير ، فالفرد راع وهو مسؤول عن رعيته فيرعاهم ونفسه بأمر الله ونهيه ويطيع اميره ظاهراً وباطنا ، ويرعى غيره من المسلمين بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ونظرته السياسية للجماعة انهم اهله ، ونظرته للدولة وللأمير انه ابوه وامه ونصحه ومحاسبته واجبة فالذي قال لعمر ( والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا) قال رأيه السياسي بناءً على نظرته السياسية .
وكذلك الامر بالنسبة للجماعة في المجتمع المسلم اذ انه حاضنهم الطبيعي وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم ادناهم وهم وحدة واحدة لا يمكن فصل بعضهم عن بعض وهذا هو تميزهم عن غيرهم من ناحية التعاضد والتناصح ، وكما هومطلوب من الفرد اداء فرض فانه مطلوب من الجماعة اداء فرض وهنا يبزر دور الجماعة من خلال نظرتها السياسية لما يجب أن يكون عليه المجتمع ، من خلال فرض وجود الاحزاب السياسية لتكون بين الامة والدولة لضمان انسياب تطبيق احكام الله وضمان المحاسبة حتى لا يحصل الانحراف عند الدولة او الوهن عند افراد الامة ، وتعدد الاحزاب في الدولة لا يعني اختلاف الرؤى السياسية لكون القاعدةِ الفكرية واحدة ولكن يعني تعدد الاجتهادات لعلاج مشكلة او ابرام امر .
وأما النظرة السياسية للخليفة فهي رعاية رعيته عملياً بتطبيق احكام الله عليهم والاخذ بأيديهم في هذه الحياة الدنيا ورعايتهم رعاية توصلهم الى الجنة ، وليس اخضاعهم لاهوائه حتى يطحنهم ما دام حياً ولا ضير عنده أدخلوا الجنة أم ذهبوا للجحيم وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( خيار ائمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلونَ عليكم ) فنظرة الامير السياسية للفرد نظرته لولده الوحيد يرعاه ويعتني به فقوله صلى الله عليه وآله وسلم لماعز لعلك ..... لعلك .... لعلك واستماعه لقول التي سمعها الله وهي تجادله يدخل في سياق نظرة الراعي ورفقه برعيته وعدم تحميلهم ما لا يطيقونَ ولا يبتغي فيهم الريبة فهم محل رعايته وليسوا موضع شكله .
ان الرأي السياسي يعبرعن النظرة السياسية المنبثقة عن القاعدة الفكرية وهي واحدة عند الحاكم او عند رجل الدولة او عند الحزب السياسي او عند الافراد ، فالقاعدة واحدة والغاية واحدة والطريق واحدة ، فالامير الذي قال ( والله لاقاتلنَّ من يفرق بين الصلاةِ والزكاة ) له نفس الرأي والنظرة السياسية للأمير الذي قال ( ان الجواب ما ترى لا ما تسمع ) والأمير الذي قال ( لقد جاهد شعبي في سبيل هذه الارض ورواها بدمه فليحتفظ اليهود بملايينهم .... واذا مُزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعونَ آنذاك ان يأخذوا فلسطين بلا ثمن ) ايضاً له نفس الرأي والنظرة ِ السياسية رغم البعد الزمني .
وكذلك رجل الدولة الذي قال :
السيف اصدق انباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
له ايضاً نفس الرأي والنظرةِ السياسية وكذلك العالم الذي قال للأمير بكل وضوحٍ حين سأله عن صفات الامير العادل ، وأمير الحزب الذي قال ( لقد اتعبني الشيخان ) له نفس الرؤية والنظرةِ السياسية .
ان النظرةَ السياسية التي تنبثق من القاعدة الفكرية لا تختلف ما بين رعاية داخلية او خارجية ولا يؤثر فيها عامل الزمن لان ضابط العلاقات واحد والمصلحة التي يمليها المبدأ هي المحدد لشكل هذه العلاقات ولا شيءٍ غيره ، فلا تعتبر المصالح المشتركة قيداً في تحديد هذه العلاقة مطلقاً ، والاتحاد السوفيتي خير مثالا على هذا فالنظرة السياسية التي تنمَّ عن الوعي السياسي لا تنحصر بقضية او دولة او اقليم او حال او وضع بل تستغرق العالم اجمع بوصفه موضع العمل ومحل التكليف في كل وقت .
ان صفاء الرأي السياسي يأتي من صفاء ووضوح النظرة السياسية التي لم يعتريها الغبش فلا وجود لفكر دخيل على القاعدةِ الفكرية .. فإذا دخل عليها ما ليس منها انعكس هذا الامر على الناظر وعلى النظرة وعلى كل امر ... فالقائل انني لا استطيع ان اقاتل اميركا كالقائل ان السلام هو خيارنا الاستراتيجي وكالقائل اننا نؤمن بالتداول السلمي للحكم ... وغيرها كثير من الآراء السياسية التي تعبر عن نظرةٍ سياسية قاصرة لا تستمد رؤيتها من قاعدتها الفكرية فقط وانما تشرك مع قاعدتها الفكرية قواعد اخرى ، فأدى وجود هذا الانحراف الى وجود جماعات من الامة الاسلامية تنادي وتدعوا للوطنية والقومية والديمقراطية وترفع شعارات حق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام الرأي والرأي الأخر، وغيرها من الدعوات التي تعبر عن رؤىً سياسية قاصرةٍ او تابعة او مدفوعة الاجر ، حتى حصل الاختلاط والتداخل والاختلاف بل وتعدد النظرات السياسية في الامة الواحدة مما اوجد التباين والمفاصلة بين انظمة الحكم والامة ، وتعددت الاحكام على الاحداث فزاوية انظمة الحكم تختلف عن زاوية النظر عند الامة ، والنظرة السياسية عند الحركات والتجمعات والأحزاب تختلف تارةً وتتفق تارة... فهذا يحمل رأي نظام الحكم ويرى بأعين الحكام وهذا يعارضه وهذا ينظر من زاوية نفعيته وهذا ينظر عبر توافقه مع نظام الحكم آنياً وتختلف نظرته حين اختلافه معه وهذا يأخذ بقاعدة منتصف العصا فيقسم نفسه لمؤيد ومعارض ، فإن قيل لهم انكم تؤيدون قالوا فينا من يعارض وان قيل لهم انكم تعارضون قالوا فينا من يؤيد .
حتى اصبح حال العلاقات العربية العربية والاسلامية الاسلامية اشبه ما يكون بحال الانواء في شهر شباط يتفقون ساعة ويختلفون ساعة و يتناحرون ويتشاجرون ساعات ..... فهذا حالهم منذ استقلوا فقد آل امرهم بأن اصبحوا ادوات يحركها الكافر حيث ومتى وكيف شاء ، فربيع العلاقات العربية والاسلامية وخريفها مرهون بقرار الكافر وحسب نظرته السياسية هو وأما الانظمة فليس لهم رأي ولا رؤية .
وأما النظرة السياسية للكافر على اختلاف الوان طيفه فواحدة تجاه المسلمين منذ ان وجدت الدعوة إلى الله وحمل المسلمون الاسلام قيادة فكرية للعالم ، فإنه قد عمل بكل جهده على هدم دولة الخلافة ونجح في تفريق المسلمين ، فنظرة الكافر واحده وزاويته واحدة وان اختلفوا فيما بينهم حول حصصهم فينا واقتسامنا فيما بينهم .
ان الوعي السياسي واجب وجوده عند كل من يريد تغيير هذا الواقع حتى تحكم ارض الله بشرعه ، وهذا الامر يتطلب منا ان ننظر إلى كل احداث وأوضاع العالم نظرة خاصة لا تتغير ولا تتبدل تبعاً لتغير الأوضاع والأحوال او تبعاً لقوةٍ او ضعف ... بل يجب ان تكون ثابتة واضحة وهي كل لا يتجزأ ولا ينفصل الشعار عن الممارسة العملية فلا تنفصل ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) عن ( امرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله محمد رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها ) .
حديث رمضان 8 لعام 2010
جواد عبد المحسن
0 تعليقات