الانتصار بين معارك الحرب والسياسة

الانتصار بين معارك الحرب والسياسة

1 - إن الانسان بطبعه يميل الى الرعة والراحة وينفر من الالتزام والتقييد ولقد جاءت الاحكام الشرعية لتنظيم علاقات الانسان ، ومن ضمن هذه الأحكام القتال ولقد اخبرنا ربنا عز وجل وأمرنا فقال {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216

إن الحرب غير مقصوده لذاتها وإنما هي الطريقة الشرعية لنشر فكرة الاسلام أو لتثبيتها ان تنكب البعض منهم أو لإخضاع البلاد المفتوحة لسلطان الاسلام ان تمردت على الطاعة ، فكان لابد من التفريق بين دخول الناس في دين الله ونطقهم بالشهادتين وبين الخضوع لسلطان الاسلام واعتبار الديار ديار اسلام بغض النظر عن عدد مسلميها او كفارها ، فمصر مثلاً عندما فتحها عمرو بن العاص اصبحت ديار اسلام وظهرت فيها احكامه وخضعت لسلطان ولتبنيات الخليفة ، بعكس ماليزا وأندونيسيا اذ اسلم اهلها او اغلبهم ولكنها لم تخضع لسلطان الاسلام ولا لتبنيات الخليفة ولم يطأها جيش المسلمين ولا هي عملت للانضمام للدولة أو الخضوع لسلطان الاسلام .

2 – ان الجيش بحد ذاته قوة يجب ان يراها الخصم في قوله تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}الأنفال 60 ،والرهبة تقع في القلب حين رؤية الخصم لهذه القوة التي تتمثل بالجيش وهذا ما حصل في غزوة تبوك عندما رأى الكفار جحافل جيش المسلمين وقوتهم ، ليسَ هذا فحسب وانما هو مستعد على الدوام ولا يجوز له ان يسترخيَ مطلقاً ، لان الدولة في حالة حرب دائمة وفي حالة حمل لفكرتها فلا تقعد عن حمل الفكرة عسكرياً ولا تتراخى عن القيام بالمناورات السياسية .

إن الجيش هو الاداة التنفيذية التي تتحقق عبرها الرؤية السياسية بمعنى انه اليد القوية للعقل السياسي ولا يتجاوز ذلك فلا يمتلك ارادته بل هو خاضع للإرادة السياسية التي توجهه وفق رؤيتها كما حصل في فتح مكة حين امر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجيوش ألا تقاتل وألا تسفك دماً إلا اذا اكرهت على ذلك اكراهاً .

ان الانتصار العسكري هو كسر يد الخصم القوية في معركة ولا يعني هذا الكسر لهذه اليد تحقق الهدف أو الوصول للغاية ، فقد تقع معارك عديدة ينتصر فيها الجيش ولا يتحقق الهدف أو الغاية وذلك واضح في حروب الشام حين وقعت معركة اجنادين وفحل ودمشق وبعلبك ولم يتحقق الهدف ولم يوصل إلى الغاية الا حين وقعت معركة اليرموك ، وكذلك في فتوح العراق فلقد سبق معركة القادسية ونهاوند التي تُسمّى فتح الفتوح معارك عديدة انتصر فيها الجيش ولم يتحقق الهدف وانما تحققت الغاية بعد ذلك في معركة او معاهدةٍ كفتح القدس مثلاً .

ان الانتصار العسكري لابد ان تتعاطى الدولة معه بناءً على مبداءها حتى يحقق الهدف والغاية التي كانت من اجلها المعركة العسكرية ، فإذا لم يخدم هذا النصر او ذاك الحدث المبدأ فلا معنى له لا من الزاوية العسكرية ولا من الزاوية السياسية ، فلا تخوض الدولة المعارك العبثية كالحرب العراقية الايرانية مثلاً او الحروب بالوكاله ، فالدولة عندما تريد القيام بعمل عسكري لابد ان تكون الرؤية السياسية واضحة قبل القيام بالعمل العسكري حتى يتحقق الهدف السياسي من العمل العسكري .

ان المتتبع لمعارك المسلمين الفاصلة ليدرك امراً وهو ان المعارك التي خاضتها الدولة اما ان تكون الدولة هي التي بدأت بها وفرضتها على الخصم مثل معركة بدر أو صلح الحديبية أو تبوك فإنها قامت بها بناءً على تصور معين مبني على اساس المبدأ لتحقيق هدف سياسي ، بغض النظر أوقع قتال أم لم يقع فكانت اعمال ما بعد الحرب هي المهمة فبعد بدر طُهَّرت المدينة من اليهود وعقب الحديبة وجد الرأي العام المؤيد للدعوة الاسلامية في الجزيرة العربية وفتحت خيبر ، وعقب غزوة تبوك اخضع امراء القبائل والبلدات التي تتبع الروم وقدمت الطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودفعوا الجزية .

وأما التي بدأها الخصم مثل غزوة احد وانهزم فيها المسلمون فإن الاعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عقبها كالذهاب الى حمراء الاسد ثم غزوه لبني اسد وفرضه لهيبة المسلمين على الاعراب و القبائل خارج المدينة قد قلبت الهزيمة العسكرية نصراً سياسياً ، وكذلك عقب غزوة الاحزاب حين قال صلى الله عليه وآله وسلم ( من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر الا في بني قريظة ) .

ان ما بعد النصر العسكري هو اهم بكثير من النصر العسكري نفسه اذ ان له الاثر الاكبر والابرز من النصر العسكري وذلك بإخضاع البلاد المفتوحة لسلطان الاسلام وليس هذا فحسب ولكن بجعلهم هم الذين يذودون عن حياض هذا الدين وحمل هذا المبدأ كما حصل مع البربر .

ان الفصل بين الجيش كقوة عسكرية مادية وبين السياسة كقوةٍ فكرية هو فصل بين الفكرة وطريقتها ولا مجال هنا للقول بحسن النوايا فالفرقُ بين العمل لتحقيق الاهداف التي تخدم المبدأ والعمل لتحقيق اهداف لا تخدم المبدأ ولا تنبثق عنه هو رعاية الامة في الاولى والتّامر عليها في الثانية ، فالنظر الى الانتصار العسكري من زاوية غير زاويته الفكرية او القيام بالعمل العسكري على غير اساس الفكرة الاسلامية هي نظرة خاطئة تؤدي الى الهزيمة الفكرية وان تحقق نصر عسكري عبر منظور عسكري ..... فالجيش المصري والسوري جيشان قاما بعمل عسكري في اكتوبر 1973 ، وتحطيم خط بارليف من منظور عسكري هو انتصار عسكري وعمل حاذق قام به جنود مدربون تدريباً عاليا ، ولكن حين نُنظر إلى هذا العمل الضخم عبر زاوية غير زاويته الفكرية الاسلامية وتعامل معه على اساسٍ وطني أو قومي تمخض عن هذا النصر العظيم معاهده كامب ديفيد والتي جنت فيه اسرائيل وأمريكا الثمار وحققت فيه اسرائيل ما لم تستطع تحقيقه عبر آلتها العسكريه فكان تحييد سيناء ووجود القوات الدولية فيها وتكبيل المسلمين بالمعاهدات .

وكذلك الامر في حرب تموز 2006 فلقد تحقق فيها الفشل العسكري لإسرائيل ولكن الاعمال التي اعقبت هذه الحرب اعمالاً تنبع من المبدأ أو بعينها فجاء القرار 1701 والذي اوجد قوات اليونيفيل لحماية وحراسة اسرائيل ومراقبة الحدود وتحقق لإسرائيل ما فشلت في تحقيقه بالحرب .

ان الاعمال السياسية التي تعقب الاعمال العسكرية هي التي يجب ان ينصَّب الهمَّ على فهمها ودراستها وتحليلها على اساس فكرة الاسلام حتى يمكن لنا ان ندرك امراً مهماً وهو ان الكافر حين لا يستطيع تحقيق اهدافه عبر جنّده وجيشه برواغ بالأعمال السياسية في الغرف المظلمة ليخرج علينا بإتفاق بعد مخاضٍ عسير ليخبرنا بأننا قد توصلنا لاتفاق كما حصل في اوسلو والمعاهدة العراقية الامريكية .

ان وقوع الحدث امر والتعامل مع هذا الحدث امر آخر ، اذ ان هناك من يصنع الحدث ويدفع الثمن لهذا الحدث ، وهناك من يوظف هذا الحدث لصالحه أو لمصالحه ، ولا يستطيع الاستفادة من هذا الحدث او تجييره لصالحه الامن امتلك الرؤية السياسية البعيدةَ المدى المنبثقة عن فكرته لتحقيق غايته او جزء منها .

ان الانظمة في العالم الاسلامي هم الادوات التي تُصنع بها الاحداث والمسلمونَ هم الوثود لهذه الاحداث وهم الذين يدفعونَ الثمن ، والكافر بكافة اطيافه هم الذين يستثمرونَ هذه الاحداث او جزء منها كل حسب رؤتيه واستطاعته لتحقيق غايته او مخططه او جزء منه .

ان اي كيان يريد التغيير على اساس فكرة تبناها لابد ان تكون طريقته واضحة وضوح فكرته من اول سيره إلى نهاية غايته وضوحاً تاماً لا لبس فيه فإن كان في فكرته نقطة سوداء اعترها الغموض فإن هذا الامر ينعكس على طريقة سيره انعكاساً يؤدي إلى تعثره ونقلاب نصره هزيمة ، فكان وضوح الفكرة والطريقة ووضوح الغاية قبل الشروع في العمل هو القيد الفاصل بين ما هو مطلوب وبين ما هو موجود في الواقع حتى لا يقول فائل اننا نحاول ان نتعامل مع الواقع وهنا يكمن الفرق بين التعامل مع الواقع وبين العمل لتغيير هذا الواقع .

ان احوج ما تحتاجه الامة اليوم قيادة مخلصة تمتلك الادارة السياسية للفعل او للترك بناءً على مبدأ الاسلام ولا تخضع لإملاءات الكافر او تهديده وتضع الاحداث على اساس المبدأ وتستثمر اي حدث استثماراً يخدم مصالح الدولة ، وهذا ما يحتاجه المسلمون اليوم حيث ان تضحيات المسلمين العظيمة لا يمكن وصفها بكلمات ولكنها مع الاسف وشديد الحزن والاسى تصب في غير مصلحة المسلمين وذلك لوجود القيادات المتآمره الغير الواعية والتي اضاعت المسلمين وأضاعت تضحياتهم بل وتضعها في خدمة مشاريع اعداء الامة .

وهنا يكمن الفرق بين ما كان يحصل في زمن وجود الدولة الراعية الحريصة على مصالح المسلمين وبين ما هو موجود الآن في ظل وجود الحكام المتآمرين على الامة لا بل قل في ظل وجود اعوان الكفار على هرم السلطة


حديث رمضان 8 لعام 2010

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات