حامل الدعوةِ والوقت
الوقت هو مقدار من الزمن وكل شيء قدرت له حيناً فهو مُؤقت ، والوقت مقدار من الدهر معروف واكثر ما يستعمل في الماضي ، ووقت موقوت يعني محدود في قوله تعالى {ِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }النساء103، يعني مقدراً ، والميقات هو الوقت المضروب للفعل والموضع فيقال هذا ميقات اهل الشام ونحو ذلك ، والتوقيت هو تحديد الاوقات في قوله تعالى{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ}المرسلات11، قال الزجاج جُعل لها وقت واحد للفضل في القضاء بين الامه ، وقيل جمعت لوقتيها ، والميقات هو مصدر الوقت والآخرة ميقات الخلق ومواضع الاحرام : مواقيت الحج ، والهلال ميقات الشهر وهكذا .
لقد كانت هذه المقدمة اللغوية لازمة في هذا البحث حتى ندرك العلاقة بين اعمارنا وأجالنا وأننا دخلنا هذا الدنيا وسنخرج منها بميقات معلوم ومقدرٍ لنا ، وهذه الفترة من الزمن هي وقتنا في هذه الحياةَ الدنيا وصدق الله العظيم {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ{112} قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ{113}المؤمنون .
ان ميزات الوقت انه يسرُ رغماً عنا ولا نملك ايقافه او تأخيره وان مما يقتضيه نظام الوجود انه يسروفق نظام لا يتخلف مطلقاً ، وأننا نعيش في هذه الحياة الدنيا ضمن ثلاث مراحل للوقت هي الماضي والحاضر والمستقبل وأن الحاضر يمر مر السحاب الى المستقبل حتى يصير الحاضر ماضياً والمستقبل حاضراً ونحن ضمن هذه المراحل نحيا شئنا ام ابينا رضينا ام سخطنا ولله در الشاعر حين يصف العمر فيقول :
وما المرءُ الا راكب ظهر عمره | على سفر يفنيه باليوم والشهر |
يبيت ويضحى كل يوم وليلة | بعيداً عن الدنيا قريباً الى القبر |
ولما كان الوقت سريع الانقضاء وكل ما مضى منه لا يعود ولا يعوض بشيء ، كان انفس وأغلى ما يملك الانسان ، كما ترجع نفاسته الى انه وعاء لكل عمل وكل انتاج وهو رأس المال الحقيقي للانسان فرداً كان او مجتمعا .
ان مما لا شك فيه ولا ريب لكل ذي عقل لبيب ان القرآن والسنة قد عنيا بالوقت اشد العناية وفي مقدمة هذه العناية بيان اهميته وأنه من اعظم نعَم الله تعالى على الانسان ولبيان هذه الاهمية اقسم الله تعالى في مطلع سور عديدةٍ من القرآن بأجزاء معينة منه فقال {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى{1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى{2}الليل ،وقال{ َالْفَجْرِ{1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ{2}الفجر ، وقال {وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى{2}الضحى، وقال {وَالْعَصْرِ}العصر1، ومن المعروف لدى المفسرين ، بل وبنظر المسلمين اجمعين ان الله اذا اقسم بشيء من خلقه فما ذلك ألا ليلفت انتباههم اليه وينبههم لجليل نفعه وعظم آثاره .
ولذلك جاءت السنة لتوكد قيمة الوقت وتقرر مسؤولية الانسان عنه امام الله يوم القيامة فعن معاذ بن جبل ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن اربع خصال ، عن عمره فيما افناه ، وعن شبابه فيما ابلاه ، وعن ماله من اين اكتسبه وفيما انفقه ، وعن عمله ماذا فعل به ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )
ان عمر الانسان الذي يقطعه بين ميلاده ومماته اذا استثنينا النوم يفنيه بواحد من اربعة افعال الجد ، واللعب ، واللهو ، والعبث ، اما الجد فإنه الفعل الذي حددت له غاية وطريقة وصول مع اخذٍ بالاسباب وأما اللعب فإنه العمل الذي لا غاية له الأن وانما هو عمليه تدريب على حركةٍ او شغل للملكات كألعاب الاطفال وترويض الخيل ولا يشغل عن مطلوب ، وأما اللهو فإنه كاللعب ويختلف عنه بأنه يشغل عن مطلوب وأما العبث فإنه اللعب بما لا يعنيك وليس في بالك وهو الفعل الذي لا غاية له ولا فائدةَ منه .
ان الوقت الذي نسأل عنه هو ( الآن ) يعني اللحظة التي نعيشها والفعل الذي نفعله ( الان ) وأن هذا العمل او القول لابد من ادراك الصلة بالله الخالق حين قيامنا بهذا العمل في هذا الوقت ، فالله سبحانه وتعالى قد حدد لنا اوقاتاً لاداء احكام شرعية فقال {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} الاسراء78 ، وقال{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}البقرة197، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }الجمعة9 ، فهذه اوقات اداء اذا فات الوقت لم يتم الاداء ،وليس هذا وحسب بل ان لم يتم الامر في وقته حلت الكوارث والنكبات ولا مجال لاستدراك الوقت ، فالصلاة في وقتها والجهاد في وقته والجح في وقته ومحاسبة الحاكم في وقته ، والدفاع عن الخلافة في وقته ، فكان لابد من التعامل مع الوقت بجدية من كونه الحياة التي نعيشها والتي تفضي الى يوم الحساب .
ان المسلم حامل دعوةٍ وهو صاحب قضية ساميةً يعيش لاجلها وأن وقته المحدود في هذه الدنيا لا بد له من ان يتعامل معه بجدية ليحقق الغاية التي يصبو اليها والتي ما وجد إلا لأجلها ، وهذا ما فهمه السلف الطيب فقد ذكر الطبراني في الجامع الكبير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال ( سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي ما يمنعك ان تغرس ارضك ؟؟ قال انا شيخ كبير اموت غداً فقال له عمر: اعزم عليك لتغرسنها ، فقال عمارة : فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع ابي ) وقيل لابن المبارك الى متى تطلب العلم ؟؟.... قال حتى الممات ان شاء الله .
فلقد كانوا اصحاب عزم وصاحب العزم لا يرضى بالقليل وباب المسابقة والمسارعة مفتوح .
ان صاحب الهمة العالية حامل القضية الذي يواجه الصعوبات وهو يسير في مراقي الكمال حاملاً الاسلام بقوةٍ وعزيمة مستعيناً بالله غير متخاذل ولا خائف ، فكيف يعجز وعون الله يصاحبه ، فقد اعد العدةَ وأخذ بالاسباب وشحن نفسه بما يلزمها لتحقيق غايته حين يواجه المستقبل وليس هذا وحسب بل انه يغلق الماضي حين يواجه حاضره ومستقبله في قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( وان اصابك شيء فلا تقل لو اني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
ان المسلم منهي عن التحسر والحزن على ما فات فإنه يفسد الحاضر ويشغله عن الاستعداد لما هو آت ثم يأتي المستقبل وهو مشغول باجترار الحزن والاسى وهكذا يضيع عمره وهو يردد ( لو اني فعلت كذا وكان كذا وكذا ) .
ان تحقيق الاهداف لا يكون بالحسرة ولا بإجترار الاحزان على الماضي وانما يكون بالعمل الجاد واستغلال كل الوقت لتحقيق الغاية والعمل لها وهذا من علو الهمةِ كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ان قامت الساعة وبيد احدكم فسيلة فإن استطاع ان لا يقوم حتى يغرسها فليفعل ) عن انس .
ان صاحب القضية المدرك لقضيته التي يحملها ليعي ان الوقت هو اثمن ما يملك ،وأنه المادة التي توصله إلى مبتغاه وهذا ما فهمه علماء المسلمين الذين اسسوا لنا اصل العلم ودونوه وحفظوه وفي هذا الامر يقول الامام ابن عقيل ( اني لا يحل لي ان اضيع ساعة من عمري ، حتى اذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة ، اعملت فكري في حال راحتي وأنا على الفراش ، فلا انهض الا وخطر لي ما اسطره واني لاجد من حرص على العلم وانا في الثمانين من عمري اشد مما كنت اجده وأنا ابن عشرين سنه ، وأنا اقصّرُ بغاية جهدي اوقات اكلي ، حتى اختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لاجل ما بينهما من تفاوت المضغ ، وان اجل تحصيل عند العقلاء – بإجماع العلماء – هو الوقت ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة ) .
ان من يعلم ليس كمن لا يعلم وهذا هو الذي فهمه كل صاحب قضية ، فعلمه انه صاحب قضية اوجب عليه هذا الحمل التزامات تجاه قضيته ، وهذه الالتزامات لها اوقات اداء تؤدى بوقتها من اجل الغاية والقضية فلا يصح ان يكون صاحب القضية حامل الدعوةِ خالٍ من التزامات تجاه دعوته وقضيته بل لابد من التزامات وأهمها ان يكون وقته يدور حول مركز دعوته وقضيته فقط فالاولوية في كل امر عند صاحب القضية قضيته ورحم الله ابا بكر فقد كان من دعائه ( اللهم لا تدعنا في غمره ، ولا تأخذنا على غرةٍ ، ولا تجعلنا من الغافلين) فكان التعاطي مع التزامات القضية ليس تعاطياً برتابةٍ تفضي الى الملل وقتل الوقت ، بل بتشوقٍ ولهفة لانه يدرك ان هذا وقتٌ لاداء مطلوبٍ استحق اداؤه ، فلا بد من ادائه على اكمل وجه قربى لله عز وجلَّ اداءً يبرز فيه الفرق بين صاحب القضية والموظف ، إذ أن قضية الاولويات لا تبرز الا حين يتزاحم في الوقت الواحد اكثر من امر فأيهما يقدم او يؤخر ؟؟ فهذا السؤال عند صاحب القضية لا يطرح مطلقاً لان مفهوم الاولوية محسوم عنده ولا نقاش فيه ولا استدراك فقضيته هي اولويته حتى لو وصل الامر لحياته فإن الاولوية هي قضيته يقدمها على حياته اذ لا بقاء ولا حياة له بغير قضيته .
لقد ادرك السلف الصالح معنى حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ( وان من افضل الاعمال كلها الصلاة لوقتها ) ونحن واجب علينا ادراك ما ادركوه من ان كل عمل او واجب لهذه القضية حان وقته فقد وجب اداؤه فلا توجد في مفردات صاحب القضية او مفاهيمه اصطلاح ( التسويف ) او سافعل غداً لامور حان وقت ادائها فلا تأخيرولا تسويف ، فقد فهموا ان عمارة اليوم ان يؤدي واجبه ولا يؤخر ، فقد قيل لعمر بن عبد العزيز وقد بدى عليه الارهاق من كثرة العمل .... اخر هذا الى الغد فقال ، لقد اعياني عمل يوم واحد فكيف اذا اجتمع عليَّ عمل يومين ولله در الشاعر حين قال :
اذا انت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذر
ان الاستنارة هي ادراك الامور في اوقاتها وليس ادراك الامور بعد فوات وقتها وهذا ما يعمل الحزب جاهداً لتحميله للامة حتى تدرك الامة الامر في وقته فتؤدي واجبها في وقته ، لا ان تتحسر وتندم على انها لم تدرك وقد فات الاوان .
ان الادراك المتأخر عن وقته لا ينبت الا الحسرةَ والندم ، فهل كان الحال يكون كذلك لو ادركت الامة في وقته ان المنظمة لم توجد الا لتصفية القضية الفلسطينيه .
وهل كان الحال يكون كذلك لو ادركت الامة في وقته الاتفاق الحاصل بين يهود والملك حسين على تسليم الضفة وغيره وغيره كثير من الامثلة ، اذ ان الحزب في كل بيان يصدره يبين للناس الحدث في وقته وكيفية التعاطي معه في وقته والموقف الواجب اتخاذه تجاه هذا الامر حتى تدرك الامة الادراك الصحيح للامور واللاحداث وللواجبات في وقتها.
ان كثرة الاعباء التي تقع على عاتق حملة الدعوةِ وثقلها وتزاحم الواجبات لتدعو كل حامل دعوة حتى يستغل هذا الوقت استغلالاً منتجاً ولو كان جزئيا لمصلحة الدعوة ... فالايام قليلة ورحم الله الحسن النصيري فقد قال ( الدنيا ثلاثة ايام : اما الامس فقد ذهب بما فيه ، وأما غداً فلعلك لا تدركه ، وأما اليوم فلك فاعمل فيه ) وصدق الله العظيم {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}فاطر37
حديث رمضان 8 لعام 2010
جواد عبد المحسن
0 تعليقات