الأكثرية و الأقلية

الأكثرية و الأقلية


بقيت في موضوع العدد مسألة واحدة و هي مسألة الأكثرية و الأقلية و هي قضية تتعلق بالعدد و لا تتجاوزه ، إذ إن مفهوم الأكثرية و الأقلية لا يدل على حق أو باطل و لكنه يدل على أمر آخر و هو وجود أكثر من رأي حول قضية واحدة ، يؤيد هذا الرأي جمع و يؤيد الرأي الآخر جمع ، و الأكثرية أو الأقلية هي التي تعارض لاأو تؤيد هذا الرأي حول هذه القضية .

إن الرأي و الرأي الآخر المخالف له لا يدور بين حق أو باطل أو بين خطأ و صواب و إنما يدور بين صواب و إصابة كاختلاف الرأي في تحديد القبلة مثلاً فإنه يدور ضمن جهة واحدة لا اختلاف عليها مطلقاً بل في تحديد موقعها في تلك الجهة و هنا لا عبرة لا لأقلية و لا لأكثرية .

فالاختلاف في الرأي في الاجتهاد يدور أيضاً بين الصواب و الإصابة ، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة و المجاز فالذي أخذ بالحقيقة أو الذي أخذ بالمجاز لم يأخذه بناءً على هوى ثم قال هذا رأيي بل أخذه بعد إنعام نظر و إعمال عقل و استفراغ جهد بأدوات شرعية فأصبح رأيه رأياً شرعياً و هو حكم الله في حقه ، و هنا أيضاً لا عبرة لا لأكثرية أو أقلية .

فلا يعتبر رأي الشافعي مثلاً في قضية معينة هو الأصوب لكثرةِ مقلديه أو لقلتهم ، فالأغلبية و الأكثرية لا تعني قطعاً إتباع حق و لا تدل الأغلبية أو الأكثرية على جهة الحق ، فجهة الحق تعينت بناءً على أمرٍ آخر مختلف عن العدد اختلافاً جوهرياً .

و الرأي هنا هو نتيجة اجتهاد للوصول إلى الحق ؛ فجهة الحق قد تعيّنت و لا خلاف عليها إنما الاجتهاد في فهم الحق هو ( الرأي ) قد يقابله رأي آخر أو آراء مختلفة و هذه الآراء المختلفة لا تعني اختلافاً على الحق بل تعني اختلاف أفهام .

فالاختلاف بين الشافعي و أبي حنيفة مثلاً على قضيةٍ معينةٍ كخروج الدم و لمس المرأة في كونه من نواقض الوضوء و وجود أكثر من رأي في هذه القضية ، لا يعني هذا الرأي المخالف له أنه يدور بين حق و باطل أو بين خطأ و صواب ، بل يدور بين صواب و أصوب و لا عبرة لأكثرية أو أقلية في هذا الأمر .

إن البحث عن الحقيقة للأخذ بها قيما يتعلق بالعقيدة لا تؤثر كثرة أو قلة في تغيير الحقيقة إثباتاً أو إنكاراً كيوم الحساب و العقاب و اليوم الآخر و الجنة و النار و صدق الله العظيم ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ الأنعام116، فكثرة أو قلة المؤمنين أو المنكرين لا يغير شيئاً.

إن استعمال أداة الفهم – العقل – الاستعمال الصحيح لفهم القوانين التي أوجدها الله في مادة الكون و الإنسان و الحياة و خواص الأشياء توصل للحقيقة ، و الوصول للحقيقة هو غاية توصل لما بعدها ، فإذا انقطعت و توقفت فإن هذه الحقيقة تبقى حقيقة ؛ فعلوم الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء هي حقائق لا تؤثر فيها أكثرية أو أقلية إثباتاً أو نفياً .

فكون الأرض تدور حول نفسها و تدور حول الشمس هي حقيقة و لا يؤثر في هذه الحقيقة أكثرية ولا أقلية قبل علمهم بأنها تدور كانت تدور و بعد علمهم تدور فدورانها حقيقة لم تؤثر كثرة العالمين أو قلتهم في وجود هذه الحقيقة .

إن فهمها و التعامل معها كحقائق توصل للحق و هذا الحق هو أن هذا الكون مخلوق لخالق واجب الطاعة ، و الأكثرية و الأقلية لا تؤثر في هذه الحقيقة مطلقاً .

و أما البحث فيما هو مما تعلق بالعقيدة أو ما انبثق عنها من أحكام مثل أن الحاكمية لله فلا يؤثر في هذه الحقيقة أكثرية و لا أقلية ، فالتشريع لله و أنه عزّ و جل قد خاطبنا فقال ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ و قال عزّ و جل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾المائدة90، و قال ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾المائدة38، و قال ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ و قال عزّ و جل ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ النساء23 ، و كل هذه أحكام قطعية الثبوت و لا تؤثر فيها أكثرية أو أقلية فإنه لا عبرة لها و لا تخرجها عن كونها أحكام خاطبنا الله بها و واجب علينا طاعة ربنا .

و أما فيما يتعلق بالأحكام الشرعية الظنية عموماً فهي تدور بين الواجب و المندوب و المباح و المكروه و الحرام و فيها كلها لا عبرة لأكثرية أو لأقلية فالرأي الشرعي في إحلال الجلال و تحريم الحرام لا تؤثر فيه أقلية أو أكثرية .

فلا يقولن قائل أن هذا الرأي هو الأصوب لأنه أكثر العلماء و المجتهدين قالوا به و أن القلة هم الذين قالوا بخلافه و هنا لابد من إعادة الموضوع إلى قضية أساسية و هي أننا نعبد الله بالرأي الأصوب و ليس بأكثرية العلماء الذين قالوا بهذا الرأي و هذا فهمناه مما فعله عمر رضي الله عنه حين رفض تقسيم أرض السواد مخالفاً بذلك أكثرية آراء الصحابة .

إن الطاعة هي موافقة أمر الآمر فيما أمر و الكثرة و القلة من ناحية العدد لا عبرة لها ، فالمأمور يطيع الآمر فيما أمر و لا يطيع الكثرة أو القلة فقط لأنهم كثير أو قليل ، فقد يصبح هذا القليل كثير و الكثير قليل و صدق الله العظيم ﴿ إِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾الأنعام119، فإتباع الحق هو الهدى بغض النظر عن قلة حامليه أو كثرتهم

إن الأحكام الشرعية التي أمرنا ربنا واجبة التنفيذ و التقيد طاعة له عزّ و جل حتى تستقيم حياتنا لننال رضوانه بطاعته و ندخل جنته برحمته و خاطبنا فقال ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ المائدة100، فكثرة الخبيث لا تعني حقاً و قلة الطيب لا تعني باطلاً و إنما يتعين الحق و الباطل من الله عزّ و جل و لا عبرة لأكثرية أو أقلية .

إن الكافر المستعمر قد دخل بلادنا و أدخل معه مفاهيمه و من هذه المفاهيم – الديمقراطية – و فكرة الأكثرية و الأقلية فحملها أناس عن خبث و آخرون عن جهل و خلطوا بين ما يجوز أخذ رأي الأكثرية فيه و بين ما لا يجوز أن يؤخذ فيه الرأي أصلاً لأنه لا دخل للرأي فيه من الأساس .

فمجموع الأحكام الشرعية لا يجوز أخذ الرأي فيها من ناحية أن نطبقها أم لا و هل نوافق على تحكيم الشرع أم لا ..؟؟ أو هل نوافق على إقامة الحدود أم لا ، أو هل نوافق على وجود الدولة الإسلامية أم لا ، أو هل نوافق على التنازل عن الأندلس أم لا ؟؟ .

و حصل الخلط و التلبيس بين ما يجوز و بين ما لا يجوز بل و أصبح فهم الأحكام الشرعية له من التبريرات العقلية ما يوافق لغة العصر و فقه العولمة حتى سمعنا بطرح الاستفتاء حول وثيقة الأسرى و التي تتضمن الموافقة على مبادرة الملك عبد الله التي تدعوا إلى الاعتراف المتبادل بيننا و بين يهود ، و السؤال هل يجوز الاستفتاء على حكم شرعي ..؟؟؟!!!

و أما حين يطلب الرأي في مسألة للقيام بعمل فإنها ينظر فيها ، فإن كان طلب الرأي فيها هو كيف أو متى أو أين ..؟ كأن يكون السؤال أين نبني مستشفى أو متى نقاتل العدو فالرأي فيها للأكثرية .

أما إذا كان السؤال عن أفضل مكان أو زمانٍ فالمرجح فيها ليس رأي الأكثرية بل رأي الخبير أن يتبناه الإمام ؛ فالرسول صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة أُحد استشار أصحابه في أين يقابل قريشاً فكان الرأي للأكثرية و لو كان السؤال أي مكان أفضل لمقابلة قريش لكان الرأي راجعاً إليه بوصفه رئيساً للدولة كما أخذ برأي الخبير في بدر ( الحباب بن المنذر )


جواد عبد المحسن


من كتاب حديث رمضان 4

إرسال تعليق

0 تعليقات