مفهوم الرقم و العدد
الرقم : رَقَمَ : تقول العرب الرقم و الترقيم هو تعجيم الكتاب و رَقَمَ الكتاب بينه، و كتاب مرقوم أي قد بُيِّنت حروفه بعلاماتها من التنقيط و قوله عزّ و جل ( كتاب مرقوم ) يعني كتاب مكتوب ، في قول الشاعر :
سأرقم في الماء القَراح إليكم على بُعدكم إن كان للماء راقِمُ
يعني أكتب ، و يرقم في الماء يضرب مثلاً لمن بلغ من حذقه بالأمور أن يكتب حيث لا يثبت الرقم .
فالكتابة للبيان حتى يحصل العلم و لا يختلط أمر بأمر مثل كلمة ( فتبينوا ) و كلمة (تثبتوا ) فإنهما بغير التنقيط و الترقيم لا يمكن أن يفهم أي منهما هي الأوضح ، ثم استعمل الرقم على أنه للتفريق بين كتابة العدد و العدد فالواحد يختلف عن العشرة بنقظةٍ عن يمينه ، فالنقطة هي الترقيم للبيان حتى لا تختلط العشرة بالواحد و يمكن التفريق بينها و بين العشرة ، و للتفريق بين الحاء و الخاء و الجيم .
فيكون الرقم و الترقيم : لبيان كل ما يحتاج لبيان ، فهو بالنسبة للكتابة و للكلمة بيان لها حتى تتميز عن غيرها و بالنسبة للعدد بيان له .
و أما العدد فهو إحصاء الشيء في قوله تعالى ﴿ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾الجن28، و الاسم العدد و العديد .
و العدد مقدار ما يعد و مبلغه ، الجمع أعداد و العديد للكثرة و في قوله تعالى ﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ و المعدودات هي أيام التشريق ، و في قوله تعالى ﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ فأيام التشريق عُرِّفت تلك بالتقليل لأنها ثلاثة ، و الثانية أنهم قالوا معدودة للتقليل ؛ لأنها نقيض قولك لا تُحصى ؛ فَعشْر ذي الحجة عُرِّفت بالشهرة لأنها عشرة .
و منه قوله تعالى ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ أي قليلة . قال الزجاج : كل عدد قلّ أو كثر فهو معدود و لكن معدودات أدل على القلة لأن كل قليل يجمع بالألف و التاء نحو دريهمات و حمامات و سويعات و لحظات
إن الواحد رقم للعدد (1) و الخمسة رقم للعدد (5) يعني أن كلاهما رقم يختلف في العدد أقل أو أكثر .
في قول الحق سبحانه و تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }الأنفال65، {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ الأنفال66.
1. قلنا أن الرقم هو بيان للعدد و العدد يبقى يدور في دائرة عدده لا يتعداها مطلقاً و يبقى العدد عدداً إذا نظرت إليه مجدداً عن متعلقاته ، فإذا أضفت لهذا العدد متعلقات كالعقيدة أو غيرها فإنه يخرج عن دائرة عدده و تؤثر هذع المتعلقات فيه سلباً أو ايجاباً فالعدد إذا قيس بالنسبة للعدد يكون الجواب أقل أو أكثر ، أما إذا قيست العقيدة بالرقم فلا مجال للقياس هنا مطلقاً .
إن دائرة العدد إذا قيست بدائرة عدد أخرى نقول هذا أقل القليل أو أكثر القليل أو أقل الكثير أو أكثر الكثير أو أصغر أو أقل ، و خطئ إذا قلنا أن هذا العدد أقوى أو أضعف ، فالقوة و الضعف و الشدة و اللين و الصلاح و الفساد و الحسن و القبح أمور أخرى غير العدد و لا تدور بدائرته أبداً بل هي من متعلقاته .
2. إن القوة و الضعف و اللين و الشدة و الصلاح و الفساد هي من متعلقات العدد في قول الحق ( عشرون ) هو عدد أُضيف إليه متعلقاته فأصبح (عشرون صابرون ) فالصبر ليس له علاقة بالعدد مطلقاً في ( عشرون ) و ( مئتين ) هما عددان و العشرون أصغر من المئتين عدداً و الألف أكبر من المئة عدداً في الآية الأولى و في الثانية ( مئة صابرة ) فالصبر هو وصف لهم و ( بأنهم قوم لا يفقهون ) هو أيضاً وصف لا علاقة له بالعدد مطلقاً بل هو من متعلقات العدد.
فلا يُقال أن المئتين أو الألف أقوى من العشرين أو المئة لأن القوة و الضعف من المتعلقات أو الأوصاف التي يوصف بها من يحمل هذه العقيدة كالصبر و التوكل و حُسن الظن بالله ، و الجنة التي فيها النعيم المقيم .
إن جماعة المسلمين التي لها رأس تُعرف به و لها عقيدة تعتقدها و أنظمة تطبقها ، و مفاهيم تحملها واقعاً في الحياة ، هي جماعة المسلمين المحلاة بأل التعريف بغض النظر عن عددهم ، و ليست جماعة من المسلمين ، فالرسول صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه في المدينة المنورة إذا تعاملنا معهم من ناحية العدد فإنهم أقل بكثير من سكان الخليل أو نابلس أو دمشق أو عمان ، و مع ذلك كان تأثيرهم في الجزيرة العربية بل و عند الروم و الفرس أضعاف أضعاف تأثير الناطقين بالشهادتين اليوم .
و الصورة المعكوسة أن أعداد المسلمين اليوم و إن كانت أضعاف أضعاف أعدادهم في المدينة فإنهم اليوم لا رأس لهم يُعرفون به و ليسوا جماعة المسلمين المحلاة بأل التعريف بل هم جماعة من المسلمين بغض النظر كم تعدادهم بل السؤال ما مدى تأثيرهم ...؟؟؟
إن قوة المسلمين لا تنبع من العدد قلة أو كثرة بل تنبع من العقيدة الإسلامية المؤثرة في النفس تأثيراً يدفع لإخضاع السلوك وفق هذه المفاهيم التي حددتها العقيدة الإسلامية ، فالرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان بمفرده و أهل مكة بمجموعهم فهو بالنسبة لأهل مكة من ناحية العدد واحد و هم جمع كثير ، و لكنه صلى الله عليه و آله و سلم صبغ أهل مكة بل الجزيرة العربية بصبغة الإسلام فلا يُحسب حملة الدعوة بالعدد مطلقاً بل بقوةِ تأثيرهم كما قال الشاعر
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دُعوا كثيرٌ إذا اشتدوا قليل إذا عُدّوا
3. إن النظرة إلى العدد و كثرة الخصم و قلة المعين لا تعتبر دليلاً على حقّ أو باطل فلا اعتبار للعدد في هذا الأمر ، فلا يعتبر الباطل حقاً إذا كثر مؤيدوه و كذلك الحق لا يعتبر باطلاً إذا قل مؤيدوه و صدق الله العظيم ﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ ، فلا يقولنّ قائل أن هؤلاء الثلاثة آلاف الذين ذهبوا إلى مؤتة قد أخطأوا حين وقفوا في وجه الآلاف المؤلفة من الروم و العرب المتنصرة و هذا إلقاء للنفس في التهلكة بناءً على فقه الموازنات و قاعدة أخف الضررين ، لا يقولنّ هذا القول إلا من لم يعش هذه اللحظة أو من لم يذق حلاوة هذا الإيمان ؛ فالمؤمن الصابر المعتقد لصحة ما يحمل لا يخاف الأعداد مطلقاً لأنه يعتقد أن النصر من عند الله و لا علاقة للنصر بالعدد .
و الذي يغتر بالعدد يكون قد انخدع و صدق الله العظيم ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾التوبة25، حين قال أحدهم لن نهزم اليوم من قلة .
و في موقعٍ آخر أخبرنا عزّ و جل ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾آل عمران123، يعني قلة و هم أكثر منكم عدداً ، و في بدرٍ أيضاً ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿43﴾ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾الأنفال44، و هذا هو الجانب الاعتقادي الذي يجب أن تصهر كل الأفكار و المفاهيم و القناعات في بوتقته حتى لا يظهر عند المسلم إلا الجانب العقدي بعد عملية الصهر .
أما بالنسبة للإنسان بوصفه الآدمي فإنه يتأثر سلباً أو إيجاباً حال نظرته إلى القلة أو الكثرة ... فكان لابد من علاج هذا الأمر علاجاً عقائدياً حتى تتوافق أحوال القلب مع العقيدة و لا تؤثر فيه القلة أو الكثرة ، فكثرة المحيطين بالظالم و الغاشم و المغتصب السلطة هم ( الملأ ) - الذين تملأ القلوب رعباً و مهابة حين تراهم العين- من قوم فرعون و كل فرعون ، فالعلاج العقائدي نفى عن العدد صفته العددية و أثبت الصفة العقائدية و صدق الله العظيم ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ﴾ فمن كان في معية الله فإن الله غالب على أمره بغض النظر عن القلة أو الكثرة .
إن الكافر يعوّل على قوته و عتاده و المؤمن يعوّل على إعانة الله له قيدعوه و يتضرع إليه و يقيم حدود الله و يجتهد لنيل رضوانه فمن كانت هذه حاله كان الظفر له بل و هيبته في قلب الكافر ترعبه ، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكباً قبل بدر فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائه راكب فأرادوا قتالهم فمنعهم حمزة، و قد بعث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان أن الهذلي و كان في جامعه فابتدر عبد الله و قال يا رسول الله صفه لي فقال ( إنك إن رايته ذكرت الشيطان و وجدت لذلك قشعريرة و قد بلغني أنه جمع لي ، فاخرج إليه و اقتله ) قال فخرجت نحوه فلما دنوت منه شعرت بقشعريرة ، فقال لي من الرجل قلت له من العرب سمعت بك و بجمعك ... و مشيت معه حتى إذا تمكنت منه فقتلته بالسيف ثم أسرعت إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و ذكرت أنني قتلته فأعطاني عصا و قال ( أمسكها فإنها آية بيني و بينك يوم القيامة ) .
إن الله عزّ و جل قد بين العلة في هذه الغلبة حين قال ( بأنهم قوم لا يفقهون) و ذلك أن من لا يؤمن بالله و اليوم الآخر فإن غاية السعادة عنده و البهجة ليست إلا هذه الحياة الدنيا ، ومن كانت هذه عقيدته فإنه يحرص كل الحرص عليها و يشح بنفسه و لا يعرضها للزوال و القتل ، أما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الدنيا و أن السعادة الحقيقية و النعيم المقيم في الدار الآخرة و أن ما عند الله خير و أبقى ، فإنه لا يُبالي بهذه الحياة الدنيا و لا يلتفت إليها و لا يقيم وزناً لها ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي و عزم صحيح ؛ لأنه يحمل هذه العقيدة الدافعة وصدق الله العظيم ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ التوبة51 .
جواد عبد المحسن
من كتاب حديث رمضان (4)
0 تعليقات