مفهوم الاصطلاح
يُعرف الاصطلاح بأنه اتفاق طائفةٍ من الناس على شيء أو فعل إذا ذكر تبادر معناه إلى الأذهان ، و بعبارة أخرى هو لفظ خاص اصطلح بعض الناس على معنى معينٍ له ، فحين يُطلق هذا اللفظ يتبادر إلى الذهن حالاً ذلك المعنى الاصطلاحي المتفق عليه.
و المصطلحات كثيرة و متنوعة فلأهل العلم اصطلاحات و لأهل أي صنعةٍ أيضاً اصطلاحات و لأهل كل بلدٍ اصطلاحات خاصة بهم ، و منها المصطلحات التي تحمل أفكاراً خاصةً و مفاهيم معينة تعبر عن وجهةِ نظر في الدنيا وضعها الفلاسفة و المفكرون تعبيراً عن أفكارهم و آرائهم أو أنظمتهم و هذه هي المصطلحات المراد بحثها لبيان موقف الإسلام منها .
أولاً :
لا مشاحّة في الاصطلاح : يعني أن ما تواضع عليه أهل العلم أو فنٍ أو صنعةٍ أو منطقةٍ لا يجوز أن يأتي آتٍ فيجتهد فيما اصطلحوا عليه ، و يكون اجتهاده يناقض اصطلاحهم ؛ فالضمّة علامة للرفع فيقول أن الكسرة علامة للرفع .
فلا يجوز أن يفسّر أي اصطلاح إلا من قِبل واضعيه و ليس من قِبل غيرهم لأنهم هم الأقدر على فهمه و تصوره فلا يُقبل تفسير الاشتراكية إلا من قِبل واضعيها ، فلا يُقال أن أصلها من أن الناس شركاء في ثلاثة الماء و الكلأ و النار أو من الحديث أنا ثالث الشريكين ما لم يختانا أو يخن أحدهما الآخر .
يقول الشيخ عبد العزيز البدري رحمه الله كتابه ( حكم الإسلام في الاشتراكية ) : المعنى الصحيح المتفق عليه الذي يعبّر عنه بلفظ معين يكون اصطلاحاً لذلك المعنى ، فإذا أراد فقيه أن يستعمل اصطلاحاً معيناً فيجب أن تكون المعاني التي يريدها مطابقة تمام الانطباق لمعنى ذلك الاصطلاح و عند ذلك لا مشاحة في الاصطلاح ) .
أما إذا أراد فقيه معاني خاصة فلا يجوز له أن يستعمل اصطلاحاً له معنى متفق عليه هو يناقض ما أراد من معاني إذ لكل اصطلاح معنى متفق عليه و هنا تكون المشاحّة في الاصطلاح .
فالاشتراكية مثلاً لفظة تعني اصطلاحاً معيناً ، أطلقها أصحابها على نظام اقتصادي يقوم على ادعاء تحقيق المساواة في كل شيء بين الأفراد و على إلغاء الملكية الفردية كُلياً أو جزئياً ، و على جعل الإمكانيات المادية التي يحصل عليها الفرد نتيجة جهد و نباهة منه و على الفرص الخاصة ، و الإرث ليس من أسباب التملك المشروعة ، و على أن الأرض ملك للدولة و على فكرةِ التأميم – التأميم أيضاً اصطلاح يسأل عن معناه من تواضع عليه - ... و بالتالي فإن لهذا النظام عقيدة انبثق عنها .
هذه هي معاني لفظة الاشتراكية و هذا مدلولها الواقعي و الفكري ؛ فحين تطلق هذه اللفظة – الاشتراكية – فإن تلك المعاني تذهب حالاً إلى الذهن و هذه المعاني كلها مناقضة لعقيدة الإسلام و نظامه ، فلا يجوز شرعاً استعمال لفظة الاشتراكية أو الدعوة لها ، و إن سُمّيت اشتراكية إسلامية أو اشتراكية الإسلام لأن وصفها بالإسلامية لا يُخرج معانيها المقرره في الذهن و إنما على العكس فإن استعمالها بالدعوة لها يثبت تلك المعاني في الأذهان و يوهم بموافقتها للإسلام كما توهم شوقي رحمه الله عندما قال :
الاشتراكيون أنت إمامهم ...
وهذا عين الخطأ و التسليم بهزيمة الإسلام و الطعن بعقيدته ، فالمسلمون لم يضعوا قواعد الاشتراكية و لم يؤسسوا فكرتها و لم يبينوا أصولها فلا تصح نسبتها إليهم ، فإنهم قد اكتفوا و ارتضوا بالإسلام الذي وضعه رب البشر سبحانه و تعالى و ارتضاه لهم فَرضوا به عن فهم و إدراك عقيدةً و نظاماً .
ثانياً :
لا يجوز أن يُفهم الاصطلاح حسب دلالات اللغة أو الشرع إذ أن لكل صنعةٍ و حرفةٍ و علمٍ اصطلاحات خاصة بهم ؛ فأهل علم الفيزياء مثلاً عندهم اصطلاح التسارع و التباطؤ و الطاقة و الجهد ، و حرفة النجارة فيها اصطلاحات مثل الفاره و هي غير الفأرة التي نعرفها من القوارض و عند الحدادين اصطلاح الصاروخ و هو مختالف عن الصاروخ عند العسكريين و هكذا .. فأهل الصنعة و الحرفة هم أقدر الناس على فهم ما اصطلحوا عليه و تواضعوا فلا يفسّر ما اصطلحوا عليه بناءً على لغةٍ أو شرع و هذا من المباحات، و في التجارة أيضاً فالمتر بالنسبة لمن يبيع القماش هو اصطلاح يدل على أنه متر طولي و لمن يبيع الأرض يدل على أنه متر مربع و لمن يبيع الرمل يدل على أنه متر مكعب فالتسمية من ناحيةِ اللغة واحدة بالنسبة للمتر و مختلفة من ناحية اصطلاح كل أهل صنعة . ( البحث من ناحية الواقع )
ثالثاً :
لا يجوز استعمال اصطلاح وضعه أو تواضع عليه أهل صنعة أو علم في غير ما وضع له ، فالمتر مثلاً عند صاحب القماش لا يجوز استعماله كاصطلاح عند من يبيع الأرض أو الرمل ، فاللإصطلاح يتعلق بمفهوم من تواضعوا عليه فقط .
إن الأخذ أو الترك لأي اصطلاح هو فعل يقع من الإنسان و هذا الفعل مقيد بالحكم الشرعي فلا بد قبل الأخذ أو الترك يعني قبل الفصل لابد أن يعلم حكم هذا الفعل ، فلا بد للمسلمين أن يدركوا حقيقة تلك المصطلحات الأجنبية ليعلموا مدى انطباقها على أحكام الإسلام قبل أخذها أو تركها .
لقد استطاع الكافر المستعمر أن يدخل مصطلحات تحمل وجهة نظره و تُعبّر عن مفاهيمه و أفكاره عن طريق غزوه الثقافي لبلاد المسلمين و أخذ عن طريق عملائه و المضبوعين بثقافته أن يحببها للمسلمين بأن يقول لهم أنها لا تخالف الإسلام و أنها مصطلحات علمية أو مثلها و لا تحمل وجهة نظر .
و أمام هذا الدسّ و الافتراء الفكري جاء المخلصون من المسلمين كُتّاباً و خطباء فقاموا بتأويل النصوص الشرعية بقصد التوفيق بينها و بين تلك المصطلحات التي استهوت العقول دون أن يدركوا واقعها و حقيقة أمرها و خطورة ما تحمل من مفاهيم و أفكار مناقضة للإسلام بل وهدامة له ... فاستعملوها تارةً بنصها و تعيدوا بحرفيتها و أخرى أردقوها بوصفٍ ينبئ عن إسلاميتها .
قلنا أن الاصطلاح هو لفظ خاص اصطلح بعض الناس على معنىً معين له و هذا ما فعله المنافقون في المدينة بالضبط ؛ فقد اصطلحوا فيما بينهم على لفظة ( راعنا ) بأنها الرعونة يريدون النقيصة و السبّ و الشتيمة فأمر الله المسلمين فقال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾البقرة104 ، مع أن ( أنظرنا ) مثل (راعنا ) و لكن عندما اختلف الاصطلاح جاء النهي عن عدم استعمال اللفظ حتى لا يقع المسلمون في شبهة الخطأ و الإثم . و حتى يقطع الطريق على الفساد المقصود من قبل اليهود .
فكيف يكون الحال باستعمال ألفاظ لم تعرف في مجتمع المسلمين و لا في تراثهم و هي تحمل مصطلحات مخالفة للإسلام صراحة بل تحمل معنى الكفر ، فكانت سبباً لميل النفوس و الأذهان إلى غير الإسلام .
و إذا علمنا أن المصطلحات كثيرة و متجددة فكان لابد من وضع ضابط أو قاعدة ثابتة يبنى عليها كل اصطلاح .
قاعدة الاصطلاح
روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، فكان كل لفظ يحمل اصطلاحاً موجوداً معناه في الإسلام فلا مانع شرعاً من جواز استعماله بذكره أو بالدعوة إليه ، أما إذا كان الاصطلاح يخالف ما في الإسلام من معانٍ فلا يجوز ذكره على سبيل الدعوة إليه وإن قُيّد بوصفٍ إسلامي له ؛ لأنه تعبير وُضع بالأصل لفكر معين أو نظام معين عُرف به أصحابه و حمَلته .
ومن تلك الاصطلاحات اصطلاح الديمقراطية فإنها لفظة عنت اصطلاحاً خاصاً أطلقها واضعوها على نظامٍ للحكم يقوم على أساس أن الشعب مصدر السلطات و منها إعطاؤه حق تشريع الأنظمة و القوانين كما يشاء و يريد ، و أن الشعب له السيادة في كل شيء و كذلك اعطاؤه الحريات و هي حرية العقيدة و حرية الرأي و حرية التملك و الحرية الشخصية هذه هي معاني لفظة الديمقراطية التي جمعها البعض بقوله (حكم الشعب نفسه لنفسه ) ، فحين تُطلق هذه اللفظة تعني اصطلاحاً هذا المعنى .
و هذه المعاني كلها مخالفة لأحكام الإسلام و مناقضة له فمن حيث السلطة و التشريعية فإن الإسلام حصرها حصراً وجعل مصدرها القرآن و السنة و ما أرشد إليهما و ليس للشعب و بعبارة أدق ليس للأمةِ أن تخرج على نصٍ من نصوص الإسلام لو اجتمعت كلها على ذلك و صدق الله العظيم ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ﴾ المائدة49 ، فالسلطة التشريعية بيد الله و رسوله لا بيد الشعب و مصدرها الشرع لا الشعب و صدق الله العظيم ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ﴾الأحزاب36 .
و السلطة القضائية أيضاً فهي بيد الدولة لا بيد الشعب و لو وُضعت بيد الشعب لفسدت ، و القضاة يحكمون بأسم الشرع لا باسم الشعب و مصدر حكمهم الشرع لا الشعب و السيادة للشرع لا للأمة و لا للحاكم ؛ بمعنى أن الخضوع و الانقياد للشرع وحده و السلطة التنفيذية بيد الحاكم يعاونه من الرجال ما يحتاج و لا يوجد بيد الشعب ( الأمة ) إلا اختيار الحاكم – الأمير – الذي يحكمه و لذلك فإن لفظة (الشعب مصدر السلطات ) و التي هي القاعدة الأساسية للديمقراطية لفظاً يتنافى مع الإسلام و لا يجوز استعماله .
أما الحريات التي قام عليها النظام الديمقراطي فكذلك خاطئة و لا يجوز أخذها ؛ لأن المعاني التفصيلية للحريات تعني في النظام الديمقراطي أن الفرد يتمتع بها حسب ما يشاء و يريد دون مراعاة للدولة و نظامها ، بغض النظر ناقضت أحكام دين الدولة أم لم تناقضه ... فنجد في الدول الديمقراطية من يعتقد بإنكار وجود الله و يطعن برسله عَملاً بحرية الاعتقاد و يقول فيها ما يشاء من رأي عَملاً بحرية الرأي و يحصل على الأموال بأي طريق عَملاً بحرية التملك و يَزني و يُزنى به ما دام ذلك بالرضا عملاً بالحرية الشخصية فإذا استجاز ذلك لغير المسلم في غير دولة الإسلام فلا يجوز ذلك للمسلم لا في غياب دولةِ الإسلام و لا بوجودها .
إن الحرية عندنا هي ضد العبودية ؛ فلا يجوز الخلط بين الانفلات من القيود الشرعية تحت شعار الحرية و بين أن يكون الإنسان عبداً لإنسان آخر ، فالإسلام قد جعل للفرد حقوقاً أوجبتها الأحكام الشرعية يتمتع بها الفرد وهي مضمونة في نظام الإسلام و لا يجوز له أن يتخطاها في قوله تعالى ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ الطلاق1 .
إن الإسلام حين قرر أن الناس شركاء في ثلاثة الماء و الكلأ و النار ، و حينما قرر أن كل ما كان من ضروريات الحياة يعتبر ملكاً عاماً أو للدولة و أنه دعا إلى المساواة فإن من يقول بالإشتراكية الإسلامية قد اتخذ من تلك الأحكام شبهات يثبت فيها صحة قوله ، و كذلك الأمر حين قرر الإسلام الشورى ونص على أن الحاكم ينتخب من قِبل الأمة و أن الإسلام أعطى لكل فرد حق مناقشة و محاسبة الحاكم قال الداعون إلى الديمقراطية الإسلامية أن الديمقراطية من الإسلام .
و نأخذ مثالاً ثانياً .. فإن الدستور لفظ اصطلاحي أطلقه أصحابه على القانون الأساس الذي يحدد شكل الدولة و نظام الحكم فيها و بين حدود واختصاص كل سلطة كما بين حقوق الأفراد واتجاهات الدولة وأهدافها الرئيسية ، و هذا ما عُرِّف به الدستور ، و لمّا كان هذا المعنى الاصطلاحي للفظ الدستور موجوداً في الإسلام ويُدرك ذلك كل من تتبع كتب الشريعة الإسلامية، فقد جاز استعمال هذا الاصطلاح .
وهكذا يُسار على تلك القاعدة ؛ التي نعني بها أن كل لفظ أجنبي يحمل اصطلاحاً معيناً إذا كان معناه موجوداً في الإسلام جاز استعماله بالدعوة إليه و إلا فلا ... وبهذا يسلم النطق الإسلامي من الخطأ ، و يحدد الموقف من كل الاصطلاحات الأجنبية وتحفظ معاني الإسلام و يقطع الطريق على كل من يحاول الدسّ الفكري حتى لا تختلط مفاهيم الإسلام مع مفاهيم غيره من المبادئ.
جواد عبد المحسن
من كتاب حديث رمضان (4)
0 تعليقات