منهج كتابة التاريخ الإسلامي

منهج كتابة التاريخ الإسلامي

قال ابن تيمية رحمه الله: إن الحكم على أي طائفة أو قوم، يقوم على أصلين، أحدهما: المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم الله في أمثالهم. مجموع الفتاوى (28/510)، وهذان الأصلان يقومان على العلم المنافي للجهل، والعدل المنافي للظلم؛ إذ الكلام في الناس لا يجوز بغير علم وبصيرة فكان العلم بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم والتثبت فيما يقال عنهم اصل، وعلى هذا الأساس ينبغي التحري فيما يروى عن الوقائع التي كانت بين أعيان الصدر الأول من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فالمعرفة بحالهم تدل على كمال إيمانهم، وصدقهم وحسن سريرتهم فقد توافرت النصوص الشرعية في تزكيتهم وتعديلهم.
وبناء على هذا لابد من الرجوع إلى المصادر الأصلية الموثوقة لمعرفة الحقيقة، فلا يؤخذ من الكذابين والفاسقين وأصحاب الأهواء علم؛ لأن فسقهم وهواهم يدفعهم إلى تصوير الأمر على خلاف حقيقته.
إن من الانصاف عدم تجاوز النقل الثابت إلى إيراد الظنون والفرضيات، ولم يقل أحد أن حسن الأدب هو السكوت عن الذنوب ، وإنما حسن الأدب هو رده وتنقية سيرة الصدر الأول منه ، كما أن حسن الأدب يقتضي السكوت عن الظنون والكف عن اقتفاء مالا علم لنا به يقيناً، ولم يفعل هذا مؤرخ فاضل يعتد بعلمه، وكثيراً ما تلحّ على المرء في هذا شهوة الاستنتاج ودعوى التحليل، وقد أمرنا الشرع أن تكون شهادتنا يقينية لا استنتاجية فيما نشهد من حاضرنا، ففي الآية: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف 86، فكيف بمن يشهد بالظن والهوى فيمن أدبر من القرون، فالإسلام له منهجه في الحكم على الرجال والأعمال، فهو يأمر بالشهادة بالقسط وعدم مسايرة الهوى في شنآن أو في محبة ، ويأمر باتباع العلم لا الظن ، وتمحيص الخبر والتثبت فيه لئلا يصاب قوم بجهالة ، وهذا في حق كل الناس ، فكيف بخير القرون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المائدة 8.
لا بد لكل باحث معرفة ضوابط الأخذ من كتب غير المسلمين، إذ إن للتاريخ الإسلامي قواعد وأصول وضوابط شرعية يجب على المؤرخ المسلم أن يلتزم بها، مثل الفرق بين الحوادث التاريخية والحقائق التاريخية وعدم الخلط بينهما، وذلك يعني الاحتياط عند الأخذ من كتب غير المسلمين، خصوصاً وأن الحرية عندهم بلا قيود وبلا ضوابط تلقاها العلمانيون في الغرب أو الشرق، وطبقوها على التاريخ الإسلامي بسبب الاختلاف في التصورات والمفاهيم والمبادئ ، مما جعل نتائج أبحاثهم ودراساتهم مناقضة للأحكام الإسلامية، وواقع المجتمع الإسلامي، لهذا فإن القضايا التي تطرحها كتب غير المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم، والتي تعالج التاريخ الإسلامي –خصوصاً الصدر الإسلامي الأول– ينبغي أن تدرس بعناية وحذر شديدين، مثل كتب روايات تاريخ الاسلام لجرجي زيدان، لأنهم لا يصدقون في كثير مما يقولونه عن الإسلام ونظمه ورجاله، ولا يحل وفق ذلك لمسلم أن يروي عنهم أو يأخذ منهم، لا سيما وأن من شروط البحث في هذه القضايا عرض الأقوال والأعمال على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمثلة التي تعاطى معها أصحاب الاهواء وتناقلتها العامة للتندر عن عدم علم لا بتاريخ ولا للاحكام الشرعية بهاء الدين قراقوش حتى جرى بين الناس أن منتهى الظلم الممزوج بالحماقة يوصف بحكم قراقوش.
أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي الملقب بهاء الدين (597هـ) (وقراقوش هو لفظ تركي معناه بالعربي العُقاب او النسر الأسود (قوش : نسر، قرا : أسود)، ويعرف قراقوش لدى غالبية الناس مقترنا بالأحكام العجيبة والتي تصوره ظالما تارة وغبيا تارة أخرى، وهي أحكام يتناقلها الناس ويزيد عليها البعض نوادر وطرائف نسبت قبل قراقوش إلى الكندي وجحا وأشعب حتى أصبح البعض حين يرى تصرفا ظالما أو غريبا يطلق عليه "حكم قراقوش"، وكلها روايات لا أصل لها.
كان قراقوش خادم صلاح الدين الأيوبي وقيل خادم أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين فأعتقه. ولما استقل صلاح الدين بالديار المصرية جعل له زمام القصر، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية، وفوّض أمورها إليه، واعتمد في تدبير أحوالها عليه. كان رجلاً مسعودًا، حسن المقاصد، جميل النية، وصاحب همة عالية، فآثاره تدل على ذلك، فهو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة، ومصر وما بينهما، وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، وعمّر بالمقدس رباطا، وعلى باب الفتوح بظاهر القاهرة خان سبيل، وله وقف كثير لا يعرف مصرفه.
وعندما أخذ صلاح الدين مدينة عكا من الفرنج سلمها إليه، ثم لما عادوا واستولوا عليها وقع أسيرًا في أيديهم، وافدى نفسه منهم بعشرة آلاف دينار في سنة 588هـ، ففرح به السلطان فرحًا شديدًا، وكان له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين، واستأذن في المسير إلى دمشق ليحصل مال إقطاعـه فأذن له. والناس ينسبون إليه أحكاماً عجيبة في ولايته، حتى إن للأسعد بن مماتي له جزء سماه "الفاشوش في أحكام قراقوش"، وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، حيث إن صلاح الدين كان معتمدا عليه في أحوال المملكة، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته مافوضها إليه، وتوفي بالقاهرة سنة (597هـ).
وقراقوش.. كان موضوع كتاب صدر حديثا للأستاذ / صالح محمد الجاسر تحت عنوان: (قراقوش.. المظلوم حيا وميتا). بدأ المؤلف كتابه بمقدمة تطرق فيها إلى ماتعرضت له سيرة العديد من أعلام المسلمين من تشويه وانتقاص، وتطرق إلى ماتعرضت له شخصية بهاء الدين قراقوش من تشويه وقال: "أما بهاء الدين قراقوش فعلى الرغم من أنه شخص شبه مغمور لا يعرف سيرته إلا من يبحث في سيرة صلاح الدين الأيوبي وأعماله حيث يرى بصمات واضحة لقراقوش في تلك الأعمال، إلا أنه تعرض لتشويه جعله ينتقل من قائمة المحاربين والمهتمين بالعمارة إلى قائمة الحمقى والمغفلين وأحيانا الطغاة".
وأشار المؤلف إلى أنه على الرغم من قسوة التهم التي تعرض لها قراقوش "إلا أنها كانت سبباً في شهرته وتداول اسمه بين الناس، مما دفع بالكثير من المؤرخين إلى التطرق إلى سيرته ونفي ما يُنسب إليه من أحكام". وأتبع المؤلف مقدمته بمدخل أبان فيه أن دافعه لتأليف هذا الكتاب تقديم سيرة قراقوش كما كتبها المؤرخون الثقاة وليس كما صورها ابن مماتي ومن جاء بعده من العامة.
وتناول المؤلف في الفصل الأول وعنوانه: (بهاء الدين قراقوش.. الخادم الأمين) سيرة قراقوش واتصاله بصلاح الدين الأيوبي وبدأ الفصل برأي أو على الأصح بشهادة من صلاح الدين قالها في قراقوش حين عهد إليه ببناء سور عكا حيث قال صلاح الدين: "ما أرى لكفاية الأمر المهم، وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم، الهمام المحرب، النقاب المجرب، المهذب اللوذعي، المرجب الألمعي، الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي، الكافل بتذليل الجوامح، وتعديل الجوانح، وهو الثبت الذي لا يتزلزل، والطود الذي لا يتحلحل، بهاء الدين قراقوش، الذي يكفل جأشه بما لاتكفل به الجيوش".
ثم أشار المؤلف إلى أن المؤرخين لم يذكروا شيئا واضحا عن نشأة قراقوش وإنما أشارت بعض المصادر إلى أنه فتى رومي خصي أبيض ولد في بلاد آسيا الوسطى وفيها عاش فترة طفولته ثم في ظروف غامضة اتصل بأسد الدين شيركوه عم صلاح الدين، وبعد وفاة شيركوه سنة 564 هـ التحق قراقوش بخدمة صلاح الدين الأيوبي حيث برزت مواهبه منذ أول يوم تولى فيه صلاح الدين الوزارة في مصر وتمثل ذلك في سعي قراقوش مع الفقيه عيسى الهكاري لإقناع معارضي تولية صلاح الدين الوزارة، ثم قيام صلاح الدين بتولية قراقوش إدارة القصر الفاطمي الذي كان مصدر إزعاج لصلاح الدين بسبب ما كان يضمه القصر من حاشية كبيرة زاد نفوذها وأصبحت ذات دور مؤثر في إدارة البلاد ولم تكن راضية على تعيين صلاح الدين في الوزارة وقد استطاع قراقوش إدارة القصر بحنكة واقتدار.

كما أشار المؤلف إلى ما تولاه قراقوش بعد ذلك من أعمال منها تولي أمور عكا وعمارة سورها لصد هجمات الصليبيين ثم تكليفه ببناء العديد من القلاع والحصون منها قلعة صلاح الدين بالقاهرة وبناء القناطر الخيرية. وأشار المؤلف إلى الأعمال التي قام بها قراقوش بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي سنة 589 هـ حيث عمل في خدمة الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فكان ينوب عنه حين يسافر خارج القاهرة، وحينما غدر بالعزيز بعض أمراء الأسدية بقي قراقوش الذي كان نائبه في القاهرة مواليا له فعاد العزيز إلى الديار المصرية للقضاء على ذلك التمرد، كما أوكل إليه العزيز مهمات أخرى حيث كان يتولى حفظ أموال الزكاة ويتولى النظر في المظالم. وبعد وفاة الملك العزيز أصبح قراقوش وصيا على ابنه الملك المنصور محمد الذي كان عمره تسع سنين حتى عزل قراقوش من الأتابكية (الوصاية) إلا أن قراقوش بقي على أهميته حتى وفاته في رجب سنة 597 هـ.

حديث رمضان 15 
جواد عب المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات