حبل
الله وحبل الناس
في قوله تعالى:
(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي
الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) الاسراء، قضى الله
تعالى على يهود قضاء كونيا مبرماً، باللعنة، والغضب، والذلة، والمسكنة. والقضاء في
هذه الآية قضاء حكم، فيكون المعنى ان الله حكم ولا ينقض أحد من البشر حكما لله،
فقال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ
مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ
اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) آل عمران/112].
وهذه الآية،
وإن جاءت في عموم (أهل الكتاب)، فالمراد به خصوص اليهود، عند عامة المفسرين. قال
ابن عاشور، - رحمه الله -: (وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى، لكن المقصود الأول
هنا هم اليهود ، لأنَّهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة ... وهو خاص باليهود
لا محالة) التحرير والتنوير (ج 3)، وأما معناها، فكما قال إمام المفسرين، ابن جرير
الطبري، (ألزِم اليهود، المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذلة أينما كانوا من
الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها، من بلاد المسلمين والمشركين) الطبري (ج 7 ص 110).
ويقف المسلم
حيرانَ أمام هذا التمكين اليهودي في أرض فلسطين، والصلف، والتغطرس الذي تمارسه
آلته السياسية، والعسكرية، تجاه المسلمين الواقعين تحت سيطرتهم، والمحيطين بهم،
ويتساءل: أين وعد الله؟ فلا يرد عجبه، ولا يزيل لبسه، إلا تتمة الجملة: (إِلَّا
بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ). فيدرك أن الواقع استثناء من أصل،
ووضع طارئ توافرت له مسببات عارضة، عما قليل تزول حتى وان طال يبقى استثناء لامر
اراده الله.
فما ذانك
الحبلان اللذان تتشبث بهما يهود؟
قال الطبري،
رحمه الله: (وأما "الحبل" الذي ذكره الله في هذا الموضع، فإنه السبب
الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين، وعلى أموالهم، وذراريهم، من عهد، وأمان،
تقدم لهم عقده، قبل أن يُثْقَفوا في بلاد الإسلام). فالله تعالى قدَّر عليهم
الإذلال بسبب كفرهم وفسادهم، وحكم به عليهم شرعاً بما ضربه عليهم من الجزية، ومن
هذا الباب قول تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) الأعراف 167.
وقال ابن
عاشور رحمه الله: (والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهد من الله،
أي ذمّة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولي بأس شديد، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر
لهم) التحرير والتنوير - (ج 3 / ص 191).
وقال السعدي،
رحمه الله: (فلا يكون اليهود إلا تحت أحكام المسلمين وعهدهم، تؤخذ منهم الجزية
ويستذلون، أو تحت أحكام النصارى) تفسير السعدي (ج 1 ص 143).
ويفهم مما
تقدم، من أقوال المفسرين، أن اليهود لا ينفكون عن حال الذلة، إلا بعقد ذمة من أهل
الإسلام، يأمنون فيه على أنفسهم، وأموالهم، مع الصغار الحاصل ببذل الجزية، أو بسبب
حاصل من سوى أهل الإسلام، يستقوون به.
وقد حصل
لليهود بالحبل الأول فترة أمان، طوال التاريخ الإسلامي، ما التزموا بعقد الذمة
وكان عصرهم الذهبي في ذمة المسلمين في الاندلس، وهاهم اليوم يتشبثون بحبال الناس
التي تلقى إليهم من وراء البحار، والمحيطات، في مصالح متبادلة بينهم وبين النصارى،
وهذه الحبال البعيدة واما الحبال القريبة فهي التي تلقى إليهم من الدول الحاضنة
لهم حولهم يحتضنهم وتذود عنهم وتتآمر ضد الامة لصالحهم.
أن "
المسكنة " ليست هي " الفقر "، بل لعلهم أغنى الناس، لكن المسكنة
التي ضربها الله عليهم هي إظهار فقرهم، وبُخلهم بما في أيديهم، وقد أخبرنا نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم أنه (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ
الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) رواه البخاري ومسلم، وأنَّى لهؤلاء هذا الغنى.
وهنا لا بد
لنا من وقفة أخرى مع هذه الآية حيث يقول سبحانه (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ
أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ)،
فالذلة ملازمة لهم، أينما أقاموا أو ارتحلوا، وهذه الذلة ستُرفع عنهم مرتين،
لتُستبدل بالعلو، أينما أقاموا أو ارتحلوا، على امتداد سطح كوكب الأرض، فالعلو
اليهودي لمرتين، حدث عارض في تاريخهم ومصيره إلى الزوال، أو حالة استثنائية.
أما حبل الله
سبحانه وتعالى فيشرحه جل وعلا في قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص. وهذه
الحالة كانت ثم أذن الله فزالت، بغض النظر عن مدتها طالت أم قصرت، وهذه الاولى
وكانت بحبل من الله. وستزول هذه الحالة الاستثنائية كذلك عنهم عندما يأذن رب العزة
بزوال علوهم في المرة الثانية، وليعود كل يهود العالم أفرادا وجماعات، في شتى بقاع
الأرض، إلى حالة الذلة، التي هي في الأصل الحالة التي يستحقون بحكم رب العزة.
والسؤال
الآن لماذا كان هذا الفصل وهذا الاستثناء
إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ، وَحَبْلٍ مِنْ النَّاس؟!ِ إن الاستثناء هنا يفيد
رفع حالة الذّلة لتصبح حالهم من ( الذل والصغار والخضوع والانخفاض ) إلى العكس
تماما أي ( العز والاستكبار والسطوة
والارتفاع )، وهذا مما يفيد معنى العلو، وهذا الاستثناء يوضح أن العلو سيكون على
حالين، وأن العلو الأول كان بحبل الله، أي
باتكالهم على الله في نشأته وتمكينه من خلال الوحي والنبوة، وأن العلو الثاني سيكون بحبل الناس، أي باتكالهم على الناس، في
نشأته وتمكينه من خلال المساعدات المالية والعسكرية.
وتمعنّ في
جمال ودقة التعبير القرآني، واستخدام كلمة (حبل) في هذا المقام، فالحبل يُرفع به
دلو الماء، من قعر البئر إلى قمته، فهو وسيلة لانتشال الشيء، من أدنى حالاته
وإيصاله إلى أعلاها، فنجد أن الحبل وسيلة ربط لإحكام الشيء وإبقاءه على حاله. وهذا
ما تحقق في الواقع، فقد استطاع اليهود بعد أن كانوا في القاع، من تسلق الحبل
الأمريكي البريطاني، ليصعدوا إلى قمة تمثال الحرية، فما أن يتفوه الرئيس الأمريكي
(الدمية)، بتصريحات غير محسوبة، ويشير إلى قيام دولتين متجاورتين، على أساس حدود
هزيمة 1967م، حتى يتحرك اللوبي الصهيوني، ومن ورائه (الإنجيليون) و (المحافظون
الجدد المتصهينون من عجم وعرب واوروبيون)، فيعدل عباراته، بطريقة اعتذارية
منسفَّة، ثم يقْدُم (نتنياهو)، ويطأ بساط البيت الأبيض، ويعلن تحديه، بشكل سافر،
ثم ينتقل إلى (عش الدبابير) الكونجرس، ليقول أكثر، ويستمطر التصفيق الحاد، من
أعضائه، مؤكداً يهودية الدولة، وضرورة إلغاء الاتفاق بين فتح وحماس، والحؤول دون
استصدار قرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطين وهكذا يلقي
(الناس) بأنشوطة المدد ليهود.
وثمَّ حبال أخرى
دون ذلك من المحيط العربي، تحمي حدود إسرائيل، وتتملق الغرب مفتخرة بأنها لم تطلق
رصاصة واحدة تجاه إسرائيل منذ قرابة نصف قرن، في حين تمطر العّزل من مواطنيها،
المتظاهرين سلمياً، ضد ظلمها وتعسفها بوابل من الرصاص أسقط الكثير ودمر الكثير
وهجّر الكثير، ويقوم المخذولون المنهزمون نفسياً، ممن يسمون (سلطة) وما هم بسلطة،
بمحاولة يائسة لتمتين هذه الحبال، بالارتماء في الحضن اليهودي النتن، فلا يزيدهم
ذلك إلا ركلاً وبصقاً واستهجاناً تحت شعار المصلحة الوطنية بالتنسيق الأمني.
إن القضية ليست
داخلة في التحليلات السياسية وإنما هي قضية عقائدية نؤمن بها فهذه الحبال
الواهية سوف تتقطّع وإن يهود سترتكس في
الذلة والصغار مجدداً، وإن شرف تقطيع هذه الحبال لأهل الإسلام أصحاب القلوب المؤمنة النقية (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) الروم/4 5.
عندما أخبرنا الله تعالى عن "بني إسرائيل" أعلمنا بقانون قضاه
سبحانه عليهم فقال: "ضـُربت عليهم الذلة أينما ثـُقفوا إلا بحبل من الله وحبل
من الناس"، فواجب علينا أن نعلم ونعتقد أن هناك حبلان: حبل الناس وحولهم
وقوتهم ومكرهم وعملهم وخطتهم وتآمرهم، وحبله سبحانه القاهر الغالب الذي يليق بعزته
وجبروته وقوته وأنه جلت قدرته لن يتركنا هكذا حيارى بين الحبلين، بل طمأننا أنه
يمد حبله لكل عامل مخلص، ولكل مجاهد صادق، ويزيد في مد هذا الحبل على قدر انقطاع
أحبل الناس وصدق الله العظيم (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴿111﴾ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ
النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ
الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿112﴾آل
عمران، فوعد الله قائم دائم حق، حتى وإن انقطعت عن العاملين المخلصين كل الحبال،
ولم يبق لهم إلا أن يتعلقوا بقلوبهم بحبل الله، حانت "اللحظة الربانية"
التي انتظروها طويلاً.. فيكون النصر في قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا
فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
(110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ
حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) " يوسف.حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن
0 تعليقات