الامة الاسلامية بين الانشاء والهداية

الامة الاسلامية بين الانشاء والهداية

إننا حين نريد ان نتكلم عن اصطلاح الامة فانه لم يرد في النص الظاهر ما يمكن اعتباره وصفاً حصرياً او تعريفاً لمعنى هذه اللفظة، الا انه من الثابت ان اللفظة لا تحمل معنىً واحداً، حيث وردت في القرآن الكريم بعدة معان، وليس في ذلك اي سبب للغرابة، فالاشتراك في اللفظ ظاهرة موجودة في كل اللغات، وان كانت في اللغة بين معنيين اثنين حقيقين تامين أو أكثر، والاشتراك بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي والاشتراك في اللفظ بين المعنى الحقيقي والمعنى الشرعي، والمعاني التي تحملها لفظه الامة في القران هي:
1-              انها تعني الوقت والحين في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} هود 8.
2-      أنها تعني كلمة الامام الذي يعلم الخير ويهدى الى الطريق الصحيح في قوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} النحل 120.
3-              انها تعني الطريقة المتبعة في قوله تعالى {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} الزخرف 22.
4-      انها تعني جماعة من الناس على الاطلاق في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} القصص 23، وقوله تعالى {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ} الاعراف 164.
5-      انها تعني الجماعة المتفقة على دين واحد في قوله تعالى {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً}، وقوله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} الانعام 108.
6-      انها تعني جماعة جزئية من اهل دين معين في قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران104، وكلمة منكم للتبعيض إذ إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية لما تقتضيه من شروط غير متوفرةٍ في جميع المؤمنين 
إن العمل في مكة قد تركز على إنشاء امة وذلك بصهر الافراد في المبدأ صهراً يخرجهم من جاهليتهم ويدخلهم الدين الجديد وهم منخلعين من كل عوالق الماضي الجاهلي وقد وضحت لهم فكرة الولاء والبراء، فهم في مكة ولم يكن لهم دولة ولكنهم حين نطقوا الشهادتين كانوا يسلمونَ قيادتهم من فورهم للقيادة المحمدية ويمنحونَ ولاءهم للعُصبة المسلمة، وكان الرجل حين يدخل الاسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية ويبداً عهداً جديداً منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية.
لقد كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في اسلامه ولقد نشأت هذه العزلة في صِلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله، فكان أن انفصل نهائياً من بيئته الجاهلية واتصل نهائياً ببيئته الاسلامية حتى لو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي، فإنه حين خلع عقيدة الشرك ولبس عقيدة الاسلام كان ينسلخ من القيادة الجاهلية وينزع ولاءه من الأسرة والعشيرة والقبيلة ويترجم ذلك الى واقع وحقيقة من انه قد انتقل من تبعية الاهل والعشيره ليكون مع الامة الجديدة.
إن العربي بفطرته وصحيح فهمه للغة الخطاب قد عقل الفرق بين مفهوم الامة قبل ورود الشرع وبعد وروده فانسلخ من هذا المفهوم والتصق بالمفهوم الشرعي الجديد الذي اتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد حصل عندهم التمييز بناءً على فهمهم هذا بين أمة الدعوة وأمة الاجابة، فامة الدعوة هي الامة التي بعث فيها رسول، وأمة الاجابة وهي مجموع المؤمنين بذلك الرسول.
من هذا كله يتضح ان التصور القرآني للامة يقوم على علاقة بين الطريقة والجماعة، وان الفهم لهذه العلاقة هو تصور الجماعة المتفقة على طريقة واحدة، وضمن هذا الفهم يتقدم معنى الطريقة على معنى الجماعة بحيث ان الجماعة تصبح محددة ومعروفة بالطريقة التي تتبعها، وهذا ما ميز الامة الجديدة في مكة عن غيرها فوصفت بطريقتها ولم توصف بأشخاصها.
وقد يغلب في التصور القرآني للامة معنى الوحده في الاتجاه، يعني الوحدة في العقيدة والطريقة، دون ان يغيب معنى الوحدة في المصدر لسببين: هما طبيعة الرسالة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطبيعة العلاقات الاجتماعية وغيرها السائدة في عصره، فالرسالة الجديدة تقتضي تكوَّن جماعة جديدة تكون الوحدة فيها قائمة على الايمان بهذه العقيدة الجديدة وعلى ممارسة أحكامها ونظامها، وهذه الجماعة الجديدة لا يمكن ان تكون متميزة الا بمقدار ما تتجاوز طبيعة العلاقات القبلية السائدة عند العرب.
إنه لمن اللافت للنظر ان تكون كلمة قبيلة غير واردة سوى مرة واحدة وبصيغة الجمع في القرآن الكريم في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات 13، وربما يمكن الفهم من غياب هذا الامر على ان هذه الرسالة الجديدة تنقض العلاقات الاجتماعية وغيرها المبنية على وحدة النسب لكي يُنقض مفهوم الامة المشترك مع تصور القبيلة.
ان الفرق واضح بين انشاء الامة انشاءً جديداً وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين ايجاد الجماعة التي تحمل مبدأ الامة، ولكن لها وضوح التصور والطريق والغاية بناءً على هذا المبدأ وعملها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهداية الامة للطريق بعد ان فقدت الامة بوصلتها فانها الامة (الجماعة) التي تعمل لهداية الامة بترسم خطى المصطفى.
وأوجه التشابه بين الامة التي انشأها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين الامة التي تعمل لهداية الامة يمكن حصرها في:
1-      ان الاستجابة لم تكن بناءً على هوىً او عاطفة وانما هي استجابة بنيت على قناعة وإدراك من ان هذا الوضع لا يمكن تغييره الا بهذا المسلك استجابة لخطاب الشارع.
2-      التشابه في الغربة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( بدأ الاسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) اي انه في اول الامر كان كالغريب الذي لا اهل عنده ولسوف يعود غريباً عندما يبعد عنه اهله ويحملونَ افكاراً غير افكاره وقناعات ليست منه بل وأصبح المستمسكون به كالغرباء لقلتهم ولغرابة ما يدعونَ اليه ، وما اعظم غربته عندما يتفرق عنه الداخلونَ فيه ، فهم يصلون ويسبحون ولكنهم بأفعالهم وتصرفاتهم يحاربون الله ورسوله بل ويحاولون جاهدين اضلال المسلمين وصرف اهله عنه بتحميلهم مفاهيم غير مفاهيمه من ديمقراطيه وقومية ووطنية حتى يصير فصل الدين عن الحياة مطلباً جماعياً وتحرير المرأة ضرورة بشرية وقطع يد السارق منافية لحقوق الانسان وهذه غربة المفاهيم والافكار.
3-      التشابه بردود افعال المخالفين: وذلك انهم قد رأوا ان يحاربوه بالحط من شأنه وتكذيبه ويقولون ما بال محمد لا يحيل الصفا والمروة ذهبا، ولا ينزل عليه الكتاب الذي يتحدث عنه مخطوطاً من السماء ولم لا يبدوا لهم جبريل الذي يطيل الحديث عنه ولم.... ولم ..... واستعملوا جميع وسائلهم لإرجاعه عن دعوته فلم يفلحوا، واتبعوا نفس الوسائل التي تتبع اليوم من تعذيب ودعاوى داخليه وخارجيه ومقاطعة، فالذي سخر من الامة التي انشأها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالاسلوب التهكمي اللاذع، يسخر من الامة والجماعة اليوم بنفس الاسلوب حين يقول ( هؤلاء يريدون اقامة الدين في مالطه ) ويحارب نفس الحرب بالتضييق والتعذيب والسجن والقتل.
ان حجم المسؤولية على الامة او الجماعة او الحزب لا تقل وربما تزيد على حجم المسؤولية على الامة التي انشأها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ناحية العمل، فقد وجدوا لهم على الحق انصاراً وأنهم قد تعاملوا مع اناس لهم لون واحد ولم يتلونوا فكان العمل هو هدايتهم وبناؤهم، وأما العمل اليوم فانه اشق وأصعب اذ انه عمليتين: هدم للافكار التي لوثتهم ومن ثم افهامهم وهدايتهم.
انهم كانوا أهل لغة يفهمون الخطاب ولا يحتاجون الى كثير جهد للفهم والامة مع الاسف اليوم يتلاعب علماؤها بها بالالفاظ، حتى ان احدهم قال عن مفهوم الامة وما يدخل في دائرتها حين تحدث عن النصارى (فكل القضايا بيننا مشتركة، فنحن ابناء وطن واحد، مصيرنا واحد، امتنا واحدة، انا اقول عنهم: ( اخواننا المسيحيون ، البعض ينكر عليَّ هذا كيف اقول اخواننا المسيحيون؟! ( انما المؤمنونَ اخوة ) نعم نحن مؤمنون وهم مؤمنونَ بوجه آخر) انتهى كلامه.
ان الامة قبل الدولة يعني ان الدولة لا يمكن ان تقوم الا بوجود الامة والتي هي المرتكز الاساسي لقيام الدولة واستمرارها، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالصحابة مهاجروهم وأنصارهم هم الدعائم القوية التي حملت الدولة وبنتها بوصفهم الامة، وهذا ما يقوله حزب التحرير من ان قضيتنا ليست استلام حكم.
فالغاشم ومغتصب السلطة تمكن من الحكم والدولة وأجهزتها، ولكنه لم يتمكن من الامة التي انفصل عنها وانفصلت عنه فلم تكن الامة هي ارتكازه بل كان الكافر المستعمر هو ارتكازه ومستنده.
اننا حين نتكلم عن الامة الاسلامية التي تُعرفُ بتميزها العقائدي ومقياس اعمالها وبمفهوم السعادة عندها، فان هذا التميز لا يمكن بروزه الا بوجود الحاضن الطبيعي له، وهو المجتمع المسلم والدولة الراعية كالتي بناها المصطفى في المدينة بعد ان انشأ هذه الامة في مكة، فإن وجدت الدولة وجد المجتمع وان لم توجد الدولة فلا وجود للمجتمع المسلم او للجماعة الاسلامية التي تعرف برأسها وهو الخليفة وانما هم جماعة من المسلمين.


 حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات