الفرار

الفرار

فرّ: هرب فهو فار وفرور وفرورة وفرار ويقال فر إليه لجأ، وفي التنزيل العزيز (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) الذاريات 50، فَرَّ السَّائِرُ : أَسْرَعَ، وفَرَّ الفَارسُ: أَوْسَعَ الجَوَلانَ لينعطف، وفَرَّ فُلانٌ : جُرِّبَ واختُبِرَ قال الحجاج: (ولقد فُرِرْتُ عن ذكاء، وفُتِّشت عن تجربة).
هل رأى منكم فاراً من مهلكة ...؟ ليتصور كل واحد منا كيف يكون حاله إذا برز له أسد فجأة على الطريق وأخذ يعدوا وراءه، أو برز له عدو مسلح وأخذ يطارده، فكيف يكون ردة فعل المطارد؟! إنه لا يتلفت يمنة ولا يسرة بل ينطلق بكل ما أوتي من قوة يعدو ولا يشغل باله في تلك اللحظات إلا النجاة والأمان من مُطارده.
وواقع الفرار أنه (فرّ من ... الى)، فالذي يفرّ من المهلكة أو من الأسد يفر منه الى المأمن الذي يحميه وهذا واقعه، واما فقهه وفهمه فلا يكون الا هكذا موافق لواقعه، واما اذا لم يدرك الفار ممن يفر والى اين يفر فقد يقع في شر اعظم مما فر منه كالشاعر حين وصف هذا الواقع فقال:
المستغيث بعمر عند حاجته ....... كالمستغيث من الرمضاء بالنار
فالفرار طلب للنجاة، ولا تطلب النجاة من إلا مهلكة، وليس له إلا صورة واحدة ألا وهي الانطلاق بكل ما أوتي الفار من قوة طلباً للنجاة، فهل جرب كل واحد منا الفرار؟ الفرار أمر حتمي لكل واحد منا لأنه أمر رباني أمرنا الله به ، لكن الفرار إلى أين؟ فلا يعتبر الفرار من شياطين الجن الى شياطين الانس فرارا بل لا بد من فقه يحدد وجهة الفرار، والله جل وعلى أرشد وحدد لنا الوجهة ورسم لك الطريق فقال سبحانه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}(50) الذاريات، نعم إنه الفرار إلى الله ، تفر إلى الله لأن خلفك عدوك إبليس يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتي من قوة ليجعلنا من أصحاب السعير {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر 6)، ومع الأسف هناك من الناس من عكس طريق سيره فسار باتجاه عدوه ففرح به ذلك العدو واحتضنه فأصبحت ترى شيطاناً في ثوب إنسان؛ لا يدع طريقاً من طرق الفساد إلا سلكه وبلا تردد وليته سلكه وحده بل قام يدعو إليه ويحبب الناس فيه؛ وأمثلة هذا الصنف في حياتنا عديدة فمنهم المنادون بحرية المرأة وإفسادها ومنهم القائمون على القنوات بفحشها وفجورها والمنادون بضرورة تطبيق الديمقراطية وتحكيم الامم المتحدة في كل شأن من شؤوننا وضرورة مسايرة احكام الاسلام للعصر وتجديد الخطاب الديني والقائمة تطول.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، تفر إلى الله لأن خلفك الدنيا بفتنتها وشهواتها وزينتها ؛ فكم من عبد تباطأ في فراره إلى الله والتفت يمنة ويسرة إلى الدنيا فأسرته فشغل عن الفرار إلى الله بعماراته أو شغل عن الفرار إلى الله بأمواله أو شغل عن الفرار إلى الله بزوجته وأولاده أو شغل عن الفرار إلى الله بمنصبه وجاهه فهلك مع الهالكين. كم من عبد جعل فراره إلى الدنيا فهو يفر إليها بكل ما أوتي من قوة فمنهم من يسير بسيارته مسرعاً حتى لا تفوته مباراة في كرة القدم حاسمة، ومنهم من يفر بكل قوته حتى لا تفوته صفقة رابحة ،ولمثل هؤلاء يقول العليم الحكيم: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(الحديد 20).
وقد يقول قائل أيعني الفرار إلى الله تعطيل الحياة الدنيا؟ فنقول له لا. ولكن الله يوم أن أمرنا بالسعي لطلب الرزق لم يأمرنا بالفرار وإنما أمرنا بالمشي يقول الرزاق الكريم:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك 15)، والمشي له صور عدة فالصغير يمشي والكبير يمشي والشاب يمشي والعجوز يمشي والمرأة تمشي والرجل يمشي ولكل مشيته، فمنهم من يمشي مسرعاً ومنهم من يمشي على مهل، فهل أدرك العباد الفرق بين المشي والفرار ، فالمشي له صورٌ عدة ولكن الفرار ليس له إلا صورة واحدة ، الماشي يمشي وقد يشغل فكره بأمور عدة أو بما يراه أثناء مشيه، ولكن الفارَّ لا تسيطر على عقله إلا فكرة واحدة وهي النجاة.
ومن فضل الكريم الرحيم علينا أنه لم يجعل من عملية الفرار إليه عملية صعبة، ولم يجعلها في طريق وعرة، بل مهد لنا سبحانه وتعالى بفضله وكرمه طريق الفرار إليه. باتباع اوامره ونواهيه، ويسر لنا سبله فأنت تستطيع أن تفر إلى الله على كل حال من أحوالك وأنت سائر وأنت واقف وأنت قاعد وأنت نائم وأنت في بيتك وأنت في حيك وأنت في عملك أو سوقك تستطيع الفرار إلى الله؛ فأنت بخروجك للكسب لتعف نفسك وأهلك عن الحرام تفر إلى الله، بقيامك للصلاة تفر إلى الله ، بذكرك لله تفر إلى الله ، بقراءتك للقرآن تفر إلى الله، بالصدقة تفر إلى الله، بصلتك لرحمك تفر إلى الله ، بأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر تفر إلى الله ، بتربيتك لأولادك وبنياتك على هدى الشريعة تفر إلى الله.
إن من رحمة الله تعالى بنا أنه إذا علم من عبده صدق الفرار إليه أعانه ووفقه ولم يتركه وحده واستمعوا معي إلى وعد من لا يخلف الميعاد {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت 69). ويقول جلت عظمته : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}(النحل 128). وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)). فماذا تنتظر فهذه الطريق ميسرة وهذا ربكم معين لنا ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين.
يقول السعدي رحمه الله تعالى: ُسمّي الرجوع إلى الله فرارًا؛ لأن في الرجوع لغير الله أنواع المخاطر والمكاره، وفي الرجوع إلى الله أنواع المحاب والسرور والسعادة والأمن والفوز، ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (منزلة الفرار): قال الله تعالى : (فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ ) فحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء . وهو نوعان: فرار السعداء : الفرار إلى الله عز وجل . وفرار الأشقياء : الفرار منه لا إليه، وأغلب أقوال المفسرين لا تخرج عن تلك المعاني السابقة في تفسير الآية ، فكلها ترجع إلى معنى واحد في أن المقصود هو الفرار من المعصية إلى الطاعة، أي الفرار من أسباب غضب الله تعالى إلى أسباب رحمته، والفرار من غضب الله عز وجل وما يترتب عليه من العقوبة إلى رحمته وما يترتب عليها من المعافاة.
ومن الآيات التي تدخل في معنى الفرار واللجوء إلى الله عز وجل: قوله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: ( حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ) التوبة 118، وقوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) الصافات 99، وقوله تعالى ( وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران: 133 .
وقال الفخر: عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه ، والله الكريم يقول: عبادي: أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم ، ولكن لا تفروا مني ، بل أقول  (فَفِرُّواْ إِلَى الله) الذاريات : 50  فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم ، وأيضًا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء ، وأنا أفعل ضد ذلك.
والإنسان بإحدى حالتين؛ إِمَّا حالة رغبةٍ في شيءٍ ، أو حالة رهبة من شيء ، أو حال رجاء ، أو حال خوف ، أو حال جَلْبِ نَفْعٍ أو دفع ضُرٍّ. وفي الحالتين ينبغي أَنْ يكونَ فِرارُه إلى الله؛ فإنَّ النافعَ والضارَّ هو اللَّهُ.
ويقال : مَنْ صَحَّ فِرارُه إلى اللّهِ صَحَّ قَرارُه مع الله، ويقال : يجب على العبد أَنْ يفرَّ من الجهل إلى العلم ، ومن الهوى إلى التُّقَى ، ومن الشّكِّ إلى اليقين ، ومن الشيطانِ إلى الله.
ومن أجمل ما قرأت في موضوع الهم والغم ما قاله جعفر الصادق رضي الله عنه : إن مفزعات الحياةِ عند الإنسان الخوفُ والغمُّ والهمُّ والضُرُّ وزوال النعمة, قال:
عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله عز وجل {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} آل عمران173، فإني سمعت الله بعدها يقول {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} آل عمران 174.
وعجبت لمن ابتلي بالضر ولم يفزع إلى قوله تعالى {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الأنبياء 83، فقد سمعت الله بعدها يقول: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} الأنبياء 84.
وعجبت لمن ابتلي بالغم ولم يفزع إلى قوله تعالى {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الأنبياء 87، فإني سمعت الله بعدها يقول {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ } الأنبياء88.

وعجبت لمن أضير ولم يفزع إلى قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }غافر44، فقد سمعت الله تعالى بعدها يقول {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ }غافر 45.

حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات