النفس التواقة

النفس التواقة

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ؟ كَلا بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَعَمْ إِذًا. رواه البخاري.
وهذا الحديث يحمل دلالات هامة أولها مآل الصبر على الضراء أو الضجر منه والتشاؤم بالموت وأثر ذلك في وقوعه، فلما اعترض الأعرابي على تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم بزوال البأس والطهور من المرض فقد استحال اعتراضه لواقع ضار يهلك صاحبه فيكون مآل مرضه الموت لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم (فنعم إذاً) معطوف على قول الأعرابي وكأنه يقول: إذا كنت ترى ذلك فأنت من يحقق الضرر على نفسه وسيتحقق قولك.
لا شك أن حال الضراء يترافق معه يأس من وقع عليه الضر فدرجات إيمان الخلق متفاوتة ومن الناس من يكون متماسكاً قوياً فيما يظهر ولكن خوافي الأنفس ودواخلها في علم الله جل وعلا، ولكن السنة الربانية التي يريد صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا بها أن نحسن الظن بالله لتكون السراء خيرا ويستحيل الضر خيراً أيضاً فهنا دليل على أن الأقدار هي أعمال العباد وإن آمنوا واستحضروا كيف أنهم قادرين بتأييد من الله وتوفيق على تجنب الشرور القادمة واستجلاب الخيرات الخافية بإصلاح أنفسهم وتطهير ذواتهم من الشك وسوء الظن وضعف الإيمان.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (إن لي نفساً تواقة، وما حققت شيئاً إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنة فأرجو أن أكون من أهلها). فالنفس التواقة أنالت بقدرة الله كل خير في الدنيا لعمر بن عبد العزيز فلما رأى أن الدنيا مقبلة عليه بحسن ظنه بالله زهُدَ فيها وارتفعت همته لثقته بربه وعظيم كرمه وغزير عطاءه فصرف علمه بالله وجهد نفسه التواقة لأن تتوق للجنة بدلا من الدنيا فلم يعد في طلب الدنيا ما يسعده ويشبع نفسه الصالحة.
فإن صفت أنفسنا وعظُمَ إيماننا بربنا واستحضرنا سنته في خلقه وسعة ملكه وأنه يؤتي من يشاء بغير حساب لا تنفد خزائنه ولا ينقص ملكه فإننا سنحيل أنفسنا لأنفس تواقة تثق بكرم الله وجزيل عطاءه سبحانه. عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه َقَالَ : "اسْتَعِينُوا عَلَى نَجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ" صححه الألباني.
فقد جرى بين الناس أن من له حاجة سائرة ينتظر إنجاحها وأخبر بالأمر ولم يكتمه إلا فشلت وردت حاجته، ذلك أن تشاؤم الناس من قضاء حوائج ونجاح المطالب لسواهم شائع فإن تشاءم الرجل من حصول مطلوب فقد يحصل المنع، لذا حث صلى الله عليه وسلم على كتمان الحوائج حتى نجاحها في قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
إن لأحوال نفس ابن آدم تأثير وسبب على وقوع السوء واندفاعه وجلب الخير وابتعاده فنفهم كيف أن الناس يستجلبون الشر لأنفسهم فما أصابهم من سوء فمن أنفسهم، لأنهم يستجلبون الشر ويخضعون لوساوس النفس فيصيبهم ما كانوا منه يحذرون. روى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْحُو بِالدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنَ الْقَدَرِ". إذا فالقدر يمحوه ويغيره الدعاء ولكن القضاء كما أسلفنا لا يرد ولا يتغير، وطالما دعى الداعي وهو في شك من الإجابة ونفسه تفيض بالقنوط واليأس من وقوع المطلوب أو دفع المحذور، لذلك حصر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أمر المؤمن فقال (وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ) فالإيمان شرط وقوع المطلوب ودفع المحذور.

ولا شك أن المؤمن الذي تتواتر الأحداث عليه فيجعل من نفسه نفساً تواقه ويمتلئ قلبه بالإيمان والامتنان لله جلت قدرته ويستقر في نفسه هوان الدنيا وسهولتها للمؤمن ويسر الله لعباده آنذاك سترتفع همتك وتبحث عما هو أعظم وأثمن وهو الجنة وستتعرف على شعور عمر بن عبد العزيز عندما اتجهت نفسه التواقه لنفي الدنيا والطمع في الجنة.

حديث رمضان 15 
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات