مفهوم التوبة


مفهوم التوبة عند المسلمين


( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم:8)

تَوَبَ : التوبة ... الرجوع من الذنب ، و التوبُ مثله . و في الحديث ( الندم توبة) تاب إلى الله توبةً ... رجع و أنابَ من المعصية إلى الطاعة . تاب الله عليه ... عاد عليه بالمغفرة .

و الله التوّاب ... يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه .

استتبتُ فلاناً ... عرضْتُ عليه التوبة مما اقترف ، استتابه ... سأله أن يتوب.

قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(النور: من الآية31) معناه :

1. إن تكاليف الله تعالى في كل بابٍ لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها و إن ضبط نفسه و اجتهد ... فلا بد أن يحدث تقصيراً عنده ، فوصى الله عباده على التوبة و دوام الاستغفار.

2. قال ابن عباس- رضي الله عنهما – توبوا إلى الله مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا و الآخرة ، فإن قال قائل الإسلام يجُّب ما قبله فما معنى التوبة ..؟؟ قلنا من أذنب ذنباً ثم تاب عنه يلزمه كلما ذكره أن يجدد عنه التوبة و يلزمه مداومة الندم حتى يلقى الله عزّ و جل .

3. اتفقت الأمة على أن التوبة فرضٌ على المؤمنين لقوله تعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) من الإجماع على وجوبها

4. سؤال هل يجب على الله قبول توبة العبد ...؟؟؟

أ‌. إذا تاب العبد فالله سبحانه و تعالى بالخيار شاء قبلها و إن شاء لم يقبلها .

ب‌. ليس قبول التوبة واجباً على الله تعالى من طريق العقل ... لماذا ...لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه الله سبحانه و تعالى خالق الخلق و فاطرهم و مالكهم و هو الذي كلّفهم . فلا يصحّ أن يوصف بوجوب شيء عليه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

ج. أخبر الله و هو الصادق في وعده (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(النساء: من الآية122) بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَات)(الشورى: من الآية25) و قوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه)(التوبة: من الآية104) وقوله تعالى (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ)(طـه: من الآية82) فإخباره سبحانه و تعالى عن أشياء لم يوجبها على نفسه فلا يقتضي وجوب قبولها ، و في هذه الآيات و في غيرها لا يوجد لفظ دالّ على وجوب قبول التوبة .

د. المفهوم من هذه الآيات و غيرها انه سبحانه و تعالى وعد من تاب بأنه يقبل توبته . يعني إذا فرضنا أن رجلاً تاب توبة نصوحاً تامةَ الشروط فإنه يغلب على الظن قبول توبته ... و لا نقطع بذلك أبداً

هـ. من استقراء الآيات نجد :-

1. قول الله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:17)

2. قول الله تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:102)

ففي الآية الأولى نقرأ قول الله تعالى - فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ – وفي الآية الثانية نقرأ قوله عزّ و جل - عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ – فهل يفهم من قوله تعالى بأن الآية الأولى وعدٌ من الله عزّ وجل ، و في الآية الثانية أن كلمة – عسى – هي للرجاء ... و ليس الوعد كالرجاء .

و رحم الله محمود الورّاق حيث يقول :-

قَدِّم لنفســك توبة مّرْجوَّة قبل الممات و قّبل حبس الألسنِ

بادر بهـا غَلقَ النفوسِ فإنها ذخرٌ و غُنْمٌ للمنيب المحســنِ

قوله الله غزّ وجل (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) خاطب الله بها أهل الإيمان الذين هاجروا و صبروا ...

و علَّق الله الفلاح بالتوبة تعليق المسَبَب بسَببه و (لعل) للترجي أي أنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائب ، وفي البخاري عن سُمرة بن جندب قال ، قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم - : ( أتاني الليلة آتيان فإبتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب و لبن فضة تتلقانا رجال شَطْرٌ من خلفهم كأحسن ما أنت راءِ ، و شَطْرٌ كأقبح ما أنت راءِ قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا ، قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة : قالا لي هذه جنة عدن و هذاك منزلك : قالا أما القوم اللذين كانوا شطْر منهم حَسَن و شطْرٌ منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيئاً تجاوز الله عنهم )

مسألة : هل تُسِقط التوبةُ الحدَّ ...؟؟

قول الحق سبحانه و تعالى (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ )(المائدة: من الآية39) هو شرط و جوابه قوله (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) من بعد السرقة فإن الله يتجاوز عنه ، و القطع لا يسقط بالتوبة ؛ فالتوبة مقبولة (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ) و القطع كفّارة له . فإن السارق و السارقة و القاذف متى تابوا ... و قامت الشهادة عليهم بعد توبتهم , أقيمت عليهم الحدود . و نأتي على ذلك فينا بعد .

وقت التوبة و مداه ... روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه و سلم – قال : ( إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر ) يعني مالم تبلغ روحه الحلقوم ؛ يعني أن يكون بمنزلة الشيء الذي يُتغرغر به .

و قوله الله عزّ و جل (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:18)

إن مدة بقاء الإنسان و إن طالت قليلة فهي محضوفة بين الأزل و الأبد فإذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار عمرك كالعدم ، هذا من جانب و من جانب آخر فيجب أن يتوقع المرؤ نزول الموت به في كل لحظة .

فما هي مرحلة ما قبل فوات الأوان ..؟؟ قال الله تعالى في صفة فرعون (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(يونس: من الآية90) و قال تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (المؤمنون:99) . ففي الآية الأولى لو أن فرعون آمن قبل إدراك الغرق له ، و لو آمن قبل ذلك لَقُبِلَ منه ، و الآية الثانية أن قرب الموت لا يمنع قبول التوبة و إنما الذي يمنع قبولها كما أخبرنا سيدنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – (مالم يغرغر) و إدراك الموت له . و هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس (وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) فلا تُقبل توبة الكافر ؛ لأن التوبة لا تصح إلا من مسلم ؛ فتوبة الكافر هي دخوله الإسلام و إقراره الشهادتين .

و في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – أنه قال : ( يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) و رُب أحمق يسأل يعني أنه كان يعصي في اليوم سبعين مرّة فيتوب عن كل معصية مرّة ...؟؟؟؟

فنقول اسمع قول الله عزّ و جل (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ) (غافر:55) ، فاصبر فإن الله ناصرك كما نصرهم و منجز و عده في حقك كما أنجز وعده في حقهم و أقبل على طاعة الله - وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ -

فالطاعنون بعصمة الأنبياء يتمسكون به و هذا لا يجوز مع كونه معصوماً فيكون المعنى فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر أولوا العزم من الرسل - إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ – بنصرك و إظهارك كما نصرت موسى و بني إسرائيل - وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ – يعني استغفر لذنب أمتك ، و الاستغفار تعبد للنبي عليه السلام بالدعاء . و قول الحق سبحانه و تعالى (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران:194) أي على السنة رسلك و هو ما ذكر من استغفار الأنبياء و الملائكة للمؤمنين ( و الملائكة يستغفرون لمن في الأرض)

قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(الحجرات: من الآية11) وصف الله الذي لم يتب بالظالم لأنه جاهل ؛ إذ التوبة هي رجوع العبد إلى ربه و مفارقته لصراط المغضوب عليهم و الضالين و هذا لا يحصل إلا بهداية الله عزّ و جل ، و لا تحصل الهداية إلا بإعانته سبحانه و توحيده . فعندما نقول -إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ – إقرار بالربوبية له و حده و طلب الإعانة منه و الاعتصام به و التمسك بحبله .

هذه أول معاني التوبة قول الحق جلّ و علا ( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(آل عمران: من الآية101) و قوله (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(الحج: من الآية78) ؛ أي متى اعتصمتم به و التجأتم إليه تولاكم و نصركم على أنفسكم و على الشيطان ، فالانخلاع من عصمة الله هو الخذلان ، و الخذلان أن يكلك إلى نفسك . و العياذ بالله .

و متى اشتدت غفلة الإنسان و استحوذت عليه تنسيه الغفلة الأمر الأساسي لوجوده في هذه الحياة ، و يغرق في الحياة و يتيه فيها ، و تستغرقه الحياة ، و تستغرق وقته وجهده فيصبح يُمسي و يغدو و يروح لا همّ يشغله و لا شيء يؤرقه سوى بلوغ المرام أو تبرير موقف . فتصبح الحياة مركزاً له يدور بدائرتها و يتسارع بتسارعها و يحزن لذهابها و يفرح لإقبالها.

و تشتد الغفلة فيصبح رهين شهوته المحرمة يفرح عند الظفر بها و هذا الفرح دليلٌ على شِدّة الرغبة فيها و الجهل بقدر من عصاه .

فبداية الغفلة تبدأ من هنا ، و تسير في ثلاث مراحل :

1. أولها الفرح : هو خِفة في القلب يشعر بها الإنسان عند بلوغه المرام أو عند حصول ما يحبّ وقوعه ، و الفرح في الدنيا و الحزن فيها لا يكون بمعايير يحددها الإنسان بنفسه بل لابد لها من حدود شرعية يحددها الشارع ، فمن و ضع لنفسه معايير للفرح و الحزن فقد خطا أول خطوة في طريق الانخلاع ، فإذا انخلع من عصمة الله وُكّل بنفسه فوضع معايير لهذه الدنيا .

يقول الحق سبحانه و تعالى ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص:76) فكانت أول خطواته خِفّةُ القلب – الفرح- و هذا يجعله في مخالفة دائمة مع غيره و يضع لنفسه قواعدها و هذا ينقله إلى الخطوة الثانية .

2. الإصرار : وهذا الإصرار على المخالفة و جعلها ديدناً له تنشأ من نظرة علوية كأنه لا يرى الناس شيئاً أو يحاول أن يفسّر النصوص تفسيراً يوافق مصالحه ، فلسان حاله أنه مع ما معه من قوةٍ و مال و جسد ينظر إلى الضعاف من الناس على أنه خيرٌ منهم و أنهم ما وُجدوا إلا لخدمته هذا من ناحية .

و من ناحية أخرى ... تأخذه العزّة بالإثم فهو القوي الغني هل يتنازل ؟؟ إذن يجب عليه أن يثبت صحة خطئه بإصراره عليه فكأن إصراره على الخطأ دليل على صحةِ خطئه ، و خطأ غيره لعدم اتباعه .

و حتى نأتي بالمثال على الأول و الثاني انهم عندما وقعوا المعاهدة في – أوسلو – فرحوا فرحاً لا يمكن أن يوصف و رفعت الأعلام بعد أن كانت محظورة وَصَفَّق الناس كأنهم كانوا في قبر فخرجوا منه و كانت هذه بداية الخِفّة ثم ذاب الثلج و برد السلام و جمدت المعاهدة ...

و جاءوا إلى عزة و أريحا بهمةٍ و فرح الناس و خرجوا لاستقبالهم و كأنهم قد جاءوا فاتحين ... و بعدها ... علت أصوات كثيرة تطالب بإعادة التقييم ... و لكن الإصرار على الخطيئة هو عزّة بالإثم فالإصرار على المعصية معصية أخرى ثم تأتي الخطوة الثالثة ...

3. الاستقرار : و هي أن تجعل المعاصي نهجاً تسلكه و منهلاً ترد إليه ، و مثال ذلك أنهم فرحوا بإصلاح الديمقراطية فرحاً جعلهم لا يفكرون حتى من أين جاء ، ثم أنهم أصرّوا عليه عناداً حتى لا يُقال عنهم بأنهم قد تراجعوا ، ثم أنهم استقروا عليه و جعلوه منهج حياة لهم .

إن المجاهرة بالمعصية – مع تيقن نظر الله جل و علا إليه – عظيم

إن المجاهرة بالمعصية – مع عدم تيقن نظر الله جل و علا إليه – كفر

فالمجاهر بالمعصية دائر بين أمرين :

1. بين قلة الحياء و مجاهرة نظر الله إليه

2. بين الكفر و الانسلاخ من الدين

فلذلك يُشترط في صحة التوبة أن يعتقد أن الله جلّ و علا كان ناظراً و لا يزال مطلقاً مضطلعاً عليه يراه جهرة عند مواقعةِ الذنب و هذا الاعتقاد لازماً لأن التوبة لا تصح إلا من مسلم .

و توبة الجاحد الكافر بنظر الله و اضطلاعه عليه هي دخوله الإسلام و إقراره بالشهادتين .

شروط التوبة :

1. الندم : يعني الندم على ما سلف منه في الماضي و ضبط النفس في الحال و العزم على أن لا يعاوده في المستقبل فلا تتحقق التوبة إلا به فإن من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به و إصراره عليه و في المسند أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم – قال ( الندم توبة ) .

2. الإقلاع : فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب .

3. الاعتذار : و إنه من تمام التوبة أن يقول التائب بقلبه و لسانه : اللهم لا براءة لي من ذنب فأعتذر ... و لا قوة لي فأنتصر ... و لكني مذنب مستغفر . اللهم لا عذر لي و إنما هو محضُ حقك و محض جنايتي فإن عفوت و إلا فالحقّ لك .

حقيقة التوبة :

أ‌- تعظيم الجناية : فإنه إذا استخف بها لم يندم عليها فإن من استهان بإضاعة فلسٍ – مثلاً – لم يندم عليه ... و لكن إذا علم أنه دينار اشتدَّ ندمه و عظمت إضاعته عنده .

ب‌- اتهام التوبة : تعظيم الأمر فلا يؤخذ تهاوناً و إن قلّ ، و يعظم الأمر لعظمة الآمر بهذا الأمر فالله القوي الجبّار القهّار أمَرَنا بأوامر و نهانا عن نواهٍ ، فأوامره و نواهيه تعظمها لأنها أوامر و نواهٍ لله عزّ و جل، و أن تبقى العزيمة قوية فلا تضعف و لا يلتفت القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة و يتذكر حلاوة مواقعته للذنب .

ومن اتهام التوبة جمود العين و قساوة القلب و و ثوقه من نفسه بأنه قد تاب ... فحديث النفس هذا مع استمرار غفلته كأنه قد أُعطي منشوراً بالأمان و هذا من غفلته إن ظن ذلك .

ت‌- الغيرة لله : لا عذر لأحدٍ في معصية الله عزّ و جل و مخالفة أمره ... مع علمه بذلك و تمكنه من الفعل و الترك و لو كان له عذر لما استحق العقوبة و اللوم لا في الدنيا و لا في الآخرة .

أما من يدّعي بأن ذنبه كان قدراً مقدوراً عليه لا يستطيع دفعه فهو ظالم لنفسه وجاهل .

نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... نسأل الله أن يثبتنا على الحق فلا ننخلع و نسأله تعالى بتقبل توبتنا خالصةً لوجهه الكريم و أن لا نكون من الضالين .

في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ، قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم - : (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرضٍ فلاة فانفلتت منه و عليها طعامه و شرابه فآيس منها فأتى شجرة فاضجع في ظلها قد آيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ثم قال من شدّة فرحه : اللهم أنت عبدي و أنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) .اللفظ لمسلم.

أنواع التوبة :

نوعان باطنة و حكمية

1. أما الباطنة : فهي ما كان بينه و بين ربه عزّ و جل فإن التوبة لا توجب عليه حقاً في الحكم ... مثل الخلوة بأجنبية و شرب مسكر و كذب ، فالتوبة منه ندم ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135) و قول الرسول – صلى الله عليه و سلم - : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )

2. أما الحكمية : إن كانت توجب عليه حقاً لآدمي كمنع زكاة و الغصب، فالتوبة تقتضي منه الندم و العزم على عدم معاودته للفعل بالإضافة إلى ترك المظلمة بأن يؤدي الزكاة حَسْب إمكانه أو يردَّ المغصوب أو مثله أو قيمته ... و إن عجز نوى و عقد النية على رده متى قدر على ذلك و للحديث تفصيل :

أ‌- إن كان حقاً في البدن لآدمي كالقصاص و حدّ القذف اشترط في التوبة التمكين من نفسه و بذلها للمستحق .

ب‌- إن كان حقاً لله تعالى كحد الزنا و شرب الخمر فالندم و العزم على أن لا يعود بمثله توبة له و لا يلزمه إلا قرار ... كما في حق الآدمي ، و التوبة بينه و بين الله تعالى لقول الرسول – صلى الله عليه و سلم - : ( من أتى بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى ... فإنه من أبدى لنا صفحة أقمنا عليه الحد ) و قال لِهُزال و كان هو الذي أمر ماعزاً بالإقرار ( يا هزال لو سترته بثوبك كان خيراً لك )

ج- و أما البدعة و ما أكثرها في أيامنا فالتوبة تُلزم صاحبها أن يعود عن بدعته و الاعتراف فيها بخطاه فما أكثر أصحاب البدع الذين يفعلون بالمسلمين الأفاعيل و نحمل تبعات أعمالهم صباح مساء ... فأول الذين دعوا إلى الوطنية و القومية و نادوا بالاستقلال عن جسم الدولة الإسلامية و رفعوا شعارات الحرية و العزة و العروبة ... هؤلاء و أعوانهم و ألسنتهم من علماء السلاطين الذين أخطأوا في حقّ أنفسهم و دينهم و ضَلّوا ابتداءً ثم أضَلّوا أتباعهم و مريديهم و من يؤيدهم .

إن كان ندم الزاني و شارب الخمر و ستره على نفسه ينفعه فإن صاحب البدعة تنفعه التوبة إن شاء الله و إن كان شارب الخمر و الزاني الأولى له أن يستر على نفسه و لا يلزمه الإقرار فإن صاحب البدعة يلزمه الإقرار و يلزمه أيضاً أن يؤدي أمانة حمله للإسلام بأن يعلن ظاهراً بأنه قد أضل الناس و ارتكب بحق نفسه و بحق الله و بحق الناس و أنه نادم و تائب .

هذا بالنسبة له ... وأما بالنسبة للناس فليسوا هم الذين يقبلون توبة صاحب البدعة أو لا يقبلوها ... بمعنى أن المغصوب يجوز له أن يسامح الغاصب إن جاءه نادماً على فعله تائباً لله تعالى سائلاً المغصوب أن يأخذ ماله و أن يسامحه ... و يجوز للمغصوب أن يسامح الغاصب و لكن لا يجوز للأمة أن تسامح صاحب البدعة الذي أحدث في الأمة ما أحدث .

انه يطلب العفو من الله عزّ و جل , و الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة عن عباده ... و لكن الأمة لا يجوز لها تتسامح مع صاحب بدعة

كيف لنا أن نسامح دعاة القومية و نحن نجترُّ إلى اليوم ما أفسدوا

كيف لنا أن نسامح الذين قالوا بجواز الاستعانة بأمريكا و نحن إلى اليوم نعاني مما قالوا ؟؟؟

كيف لنا أن نسامح الذين قالوا بجواز عقد الصلح الدائم ...؟

إن كان لنا الحق بأن نسامح فنحن الذين نضع التشريع وفق أهوائنا و تصوراتنا و هذا ليس لنا و إنما هو لله عزّ و جل .

و ليست المسامحة بقرارٍ يَصْدر عن مجلس النواب أو الشورى أو المجلس الوطني – أو أي تسمية – و ليست المسامحة بقرارٍ رئاسي أو إرادة ملكية ؛ لأنه لا الرئيس و لا الملك هو صاحب حق قبول التوبة , فالخلافات بينهم هي خلافات على مصالح أسيادهم ، فالمقاطعة العربية العربية والمصالحة العربية العربية لا تخضع لأحكام الله و شرعه و إنما تخضع لمصالح الدول .

فكان حقاً علينا نحن كأمة عندما نسامح و نتسامح أن تكون الأحكام الشرعية هي المرجع و المقياس و ليس الهوى و المصلحة .

د- و يندرج مع أصحاب البدع التائبون أُناس كانوا من المتـنفذين في أجهزة الحكم أو من الحكام ... هؤلاء لابد لنا أن نسأل أو نتساءل كيف تكون توبتهم ...؟ و للحديث أمثلة :

1. الرئيس الجزائري الأسبق – أحمد بن بلا – عندما كان في موقع السلطة و السلطان كان على رأس الدولة ... ألم يخطر بباله أن الإسلام هو الحل لكافة المشاكل ..؟ ألم يخطر بباله و هو القادر على التنفيذ بحكم موقعه في السلطة على التغيير إلى نظام الإسلام و أحكامه ...؟ ألم يخطر بباله قول الحق سبحانه و تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: من الآية44) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(المائدة: من الآية45) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(المائدة: من الآية47)..!؟ لو كان الجواب بالإيجاب فإنها الطامة الكبرى و لو كان بالنفي ..؟؟ فنحن كأمة ماذا ننتظر منه بعد ذلك ...؟ هل نصدق توبته ..؟ عندما كان قادر على العمل لم يعمل ...!!! أيستطيع العمل و هو غير قادر عليه ...؟؟؟... سبحان الله . صَدَق الشاعر حين قال

ماذا يضُرّ العود و هو نخالةٌ ألّا يجيء الماء في الميعاد

هذه هي الخطوة المسبوقة ... كان يلزمنا قوله و فعله وهو في السلطة – أن الإسلام هو الحل – و لا يلزمنا قوله الآن . كنا سنكون الأوفياء المخلصين لو قال هذا القول و هو في سُدّة الحكم لكان له معنى أما أن يقول هذا القول في هذا الظرف فلا معنى لقوله هو و لكن الحقّ هو الحق تفوه به هو أو تفوه به غيره .

2. و ما معنى بكاء – أبو عبد الله الصغير – بعد أن سقطت الأندلس ؟؟ لا يوجد له معنى عندنا لو بكى من خشية الله كما بكى أبو بكر و عمر و عثمان و علي لما فَرّط و لما تلاشى المسلمون في الأندلس و نُصِّروا ... أبعد أن حصل ما حصل يبكي ..؟ لا يوجد معنى لهذا البكاء إلا إثبات أخيرٌ على صدق القائل بأنه قد أخطأ مسبقا و هذه هي النتيجة .

3. و ما معنى الطروحات التي طرحها رئيس أركان حرب القوات المصرية – سعد الدين الشاذلي – في هذا الوقت حول الإسلام و قناعاته و ذكرياته و مذكراته حول حرب تشرين و ما حصل فيها ..؟ أيريد أن يُبَرئ ساحته و يتنصل من هذه الأفعال ..؟؟ أيريد القول بأنهم كانوا على خطأ و كان هو على الصواب ..؟ كل هذه الأسئلة و الأجوبة لا تلزمنا كأمة في هذا الوقت .

كان يلزمنا فعله و قوله و هو رئيس أركان الحرب و تحت إمرته آلاف مؤلفة من الجنود المؤتمرين بأمره ... و هو القادر على الفعل . كان يلزمنا جداً و نحن بحاجة ماسة لقوله و فعله و هو قوي قادر و كنا سنجري إجراء الحياة أو الموت على قوله و فعله ، أما أن يجيء بعد أن سُلِبَت قوته و أُكِل حتى العظم بل حتى دُقّ عظمه ... يجيء الآن و يقول – الإسلام هو الحل– لا يوجد معنى لقوله و لا يمكن لنا كأمة أن نسامحه ... أما ربه فهو أولى و أعلم ... يسامحه ... مالك في ملكه يفعل ما يشاء (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23)

أما نحن كأمة ذاقت المرار و ما تزال تذوقه بسبب أفعالهم هو بسبب أفعال الجهاز الذي كانت لهم فيه صولة و صولجان حدث هذا الانهيار و هم شركاء في العمل و بعد أن انتهى دورهم و أُحيلوا إلى التقاعد يأتي آتٍ فيقول ... إني تبت إلى الله ...؟؟؟... فهل يجب علينا كأمة أن نسامحه ....؟؟؟

كيف لنا أن نسامح من أدخلوا الخَراب الفكري لبلادنا و هدموا عقولاً كثيرة ... ثم يأتي بعد ذلك ليقول – إني تبت الآن – و مثال ذلك

(من كتاب الماسونية ذلك العالم المجهول)

- يوسف الحاج : ماسوني عريق و سجله النضالي هو : أستاذ أعظم إقليم فخري ، مندوب عام على شرق سوريا و فلسطين و العراقين . حائز على درجة –33- ( أعلى الدرجات الماسونية العامة) . رئيس أول لدرجة العقد الملوكي ، مؤسس عشرة محافل رمزية و ثلاث مقامات لدرجة (18) ، و مجلس شيوخ حكماء لدرجة (30) . رئيس محفل الحاج في بيروت . حائز على عشرة أوسمة هي من محافل و مقامات و مجالس مختلفة و وسام خاص لدرجة (33) من المجلس السامي العالي المصري . أول من أدخل الماسونية للوطنيين في العراقين العربي و العجمي . أول من استحصل على مأذونية للماسونية النسائية السورية اللبنانية أسوةً بالنساء الغربيات . صاحب جريدة الوقائع الماسونية .

تمعّنوا ما حجم الكارثة التي أحدثها هذا وما حجم التخريب الفكري الذي قام به و كم أضاع من عمره و هو يهدم في الإسلام و بالمسلمين ثم يأتي بعد أن – اقتربت الساعة و انشق القمر – ليؤلف كتابا يفضح فيه الماسونية و يقول إني تبت إلى الله ...؟؟؟!!!

في الوقت الذي كنا بحاجة ماسة لمثل –يوسف الحاج- كان يهدم و يحطم الشباب المسلم ... و ربما أصبح من تلاميذه وزراء أو رؤساء أو قوّاد أو ضباط .. أيأتي الآن و يقول إني تبت ... يتوب إلى الله ... و الله يقبل توبته أما نحن فلا يمكن لنا أن نسامح هذا و أمثاله ... أبعدما تثلّم معولك تتوب ... و تستغفر و نعرف كلامك و بعد أن تُمسي أستاذا أعظم في الماسونية تصبح شيخاً أكبر في الإسلام أنت و غيرك تحت مفهوم – الندم توبة – صدق رسول الله و نحن يلزمنا أن نفهم قول رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا :

خاطب ربنا عز و جل رسوله الكريم صلوات الله و سلامه عليه قائلا (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً .. إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (التوبة:83)

و يقول (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (الفتح:15)

و نفهم من هذه النصوص أفهام عديدة و لكنها جميعاً تدور في دائرة واحدة و هي أن الحاجة في المرّة الأولى أمَس و أشد ؛ فعندما أكون في حاجةٍ ماسةٍ إليك لم تطع فهل يُقبل بعد ذلك منك عُذر ... أو توبة ...؟؟

فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم ... فاليوم لا نقبلكم و لا نلتفت إليكم . فعندما كان الرسول صلى الله عليه و سلم في حاجة ماسة للمتخلفين عنه ما أطاعوه ... أبعد أن أغناه الله عنهم يريدون التوبة ..؟

و هكذا فعل الرسول صلى الله عليه و سلم مع – ثعلبة – عندما رفض اعطاء الزكاة ... ما قبلها منه رسول الله و لم يقبلها صاحباه فلسنا بحاجة لمال ثعلبة و لسنا بحاجة لتكثير سواد فعندما كنا بحاجة لكم تخليتم و بخلتم علينا .

يقول الفخر الرازي رحمه الله ( دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم فإنهم لم يبقوا على ذلك و لم يكونوا من الذين مردوا على النفاق ، بل منهم من حَسُن حاله و صلح باله فجعل لقبول توبتهم علامة ، و هو انهم يُدعون إلى قتال قومٍ أولي بأسٍ شديد و يطيعون بخلاف حال ثعلبة حين امتنع من أداء الزكاة ثم أتى بها و لم يقبل منه النبي صلى الله عليه و سلم و استمر عليه الحال و لم يقبل منه أحد من الصحابة ، كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أنه تعالى بين أنهم يدعون فإن كانوا يطيعون يؤتون الأجر الحسن و ما كان أحد من الصحابة يتركهم يتبعونه ، الفرق بين حال ثعلبة و بين حال هؤلاء من وجهين ( أحدهما ) أن ثعلبة جاز أن يقال ماله لم يكن يتغير في علم الله ، فلم يبين لتوبته علامة و الأعراب تغيرت ) انتهى.

بقيت في الحديث مسألة و هي قول الحق جل و علا :

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:34-33)

و للموضوع تفصيل :

1. ان المحاربة مع الله غير ممكنة ، فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازاً ... لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله . و إذا نُسبت إلى الرسول كانت حقيقة ؛ فلفظ يحاربون في قوله عز و جل (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يكون محمولا على المجاز و الحقيقة و ذلك ممتنع فهذا تقرير السؤال و الجواب ان المحاربة يمكن ان تحمل على مخالفة الأمر و التكليف فيكون المعنى إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله و أحكام الرسول و يسعون في الأرض فسادا ... هذا الأول .

و الثاني : إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله تعالى و أولياء رسوله أن يقتلوا أو يصلبوا و في الخبر ( من أهان لي و لياً فقد بارزني بالمحاربة)

فقول الحق جل و علا (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً) يشمل كل من اتصف بهذه الصفة أكان مسلماً أو غير مسلم .

2. المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون و لهم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضاً و يقصدون محاربة المسلمين و ذكر القوة و الشوكة هنا حتى يمكن التفريق بين هذا الوصف و بين السارق فهؤلاء لهم قوة و شوكة و السارق ليس له قوة و شوكة و منعة.

وهم بمجموعهم لهم هذا الوصف و لكن بمباشرة العمل و الفعل فهناك منهم المباشر بالفعل . و هناك ( الرِدء) و النصير يقول موقف الدين بن قدامى رحمه الله في المغني- ج10 ص 318- ( و لنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء و المباشر كاستحقاق الغنيمة و ذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة و المعاضدة و المناصرة فلا يتمكن المباشر في فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم فيجب قتل جميعهم و إن قتل بعضهم و أخذ بعضهم المال جاز قتلهم و صلبهم كما لو فعل الأمر بين كل واحد منهم ) .

فأنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي يتصفون بهذا الوصف فإن لهم شوكة و منعة و مناصرة فكانوا بالجملة قد تحصّلوا على هذا الوصف و هم يمارسون ما نهى الله عنه فقد أعلن الله الحرب على من خالف حكم واحد حين قال (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)(البقرة: من الآية279) فكيف من عطلوا الشريعة و لبسوا على الناس دينهم و أحلوا قومهم دار البوار فكان حكم المباشر و الرِدء واحد لا ينفصل .

فسعد الدين الشاذلي إن لم يباشر الحكم بغير ما أنزل الله في مصر ، ألم يكن ردءاً للنظام في مصر ... و قد تاب ...؟؟ فليست توبته بعد احالته للمعاش ذات معنى عندنا و لا يجبرنا على تصديقه إلا المغايرة في القيام بالفعل و إليك الصورة .

تسمى عندنا التوبة ، توبة لوجاء و هو في عنفوانه قائلاً أنا تحت أمركم دُلوني على فعل أتوب فيه إلى الله و تعالوا معاً نبني دولة الخلافة ..

هل له تسمية غير ( تائب ) ... لا يوجد غيرها .

أما أن يأتي بعد أن أُحيل إلى المعاش و أصبح على الدواء يعتاش و ظهره قد انحنى و عصاه بيده ذات ارتعاش يقول إني تبت الآن ..!!!

نحن لا يلزمنا قوله بل الذي يلزمنا كأمة الفعل الذي هو أبلغ من القول و أوقع كما قال الشاعر :

و أخو الحزم لم تزل يده تسبق الفما

3. حدد الله حدود التوبة حتى تسمى توبة فما بعد هذا الحد لا يسمى توبة في قوله عز و جل (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)(المائدة: من الآية34)

فالحدّ هو القدرة للمباشر و للردء ، فقول فرعون آمنت بالذي آمنت به بنو اسرائيل و أنا من المسلمين ... لا يُعتبر و لا يؤخذ به بعد الحدّ و لكن لو قال فرعون هذا القول قبل ذلك الحد و ذلك الظرف ... لكان ما كان و يفعل الله ما يشاء .

و قوله عز و جل ( ثم يتوبون من قريب ) و هم في قوتهم و هم قادرون على القيام بالفعل و نقيضه (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)(النساء: من الآية18) فهذا هو الحد و هو القدرة على القيام بالفعل و تركه ...

فأيّ فعل يستطيع القيام به سعد الدين الشاذلي و غيره أو حتى صدام حسين حتى نقول بأنه قد تاب ونصدقه ...؟

فأحمد بن بلا و سعد الدين الشاذلي و غيرهم كثير ، هم أحد اثنين إما مباشر للفعل و إما ردء ... فبعد أن تابوا و قالوا الاسلام هو الحل هل تغيّر نظام الحكم الذي كانوا فيه ...؟ ذهبوا هم أو انتهت أدوارهم و ما عاد لهم وزنٌ و لا ثقل و لا قوة أو قدرة على التأثير و بقي حال النظام هو ...هو

و عندما تقوم قيامتهم بقيام دولتنا إن شاء الله فهي حدّ فما قبلها توبة و ما بعدها لا يُسمى على الإطلاق توبة فهي الطوفان و الغرق فما قبلها نجاة وما بعدها هلاك .

فإن من تاب قبل قيام الدولة و بقي الحال على ما هو عليه من أحكام الكفر و كان هو إما حاكماً أو ردْءاً للحاكم فهذا يدخل تحت (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة:34) فهم إلى ربهم موكولٌ أمرهم و ليس لنا عليهم سبيل . أما الذين حاربوا الله ورسوله و المؤمنين و قامت الدولة و هم على حالهم فلا تُقبل توبتهم و لا يُسمى كلامهم توبة كما لا يُسمى كلام فرعون توبة و دليله النص فإذا حصلت القدرة عليهم فليست لهم توبة .

و هؤلاء الذين يتخصصون في النفاق و التزلف و التسلق ليس لهم عندنا وجه و لا توبة ، فعندما كانت الأمة في حاجةٍ ماسةٍ لجهدهم ما التفتوا إلى الأمة أو إلى مصالحها بل كان كل هَمِّهم منصب على مصلحتهم و أهواءهم و بعد أن ينصرنا الله عليهم إن شاء الله لن يكون لهم شأن أو وزن أو وجه .

قلنا أن قيام الدولة هو الحدّ الفاصل بين التوبة و بين الإصرار على ممارسة أحكام الكفر و تطبيقها ، كما أن الطوفان و الغرق كان الحدّ الفاصل بين فرعون و توبته .

فالقدرة هي قيام الدولة ، فمن تاب قبل قيامها ؛ تاب قبل القدرة عليه و أمره إلى الله ، و من أراد أن يتوب بعد قيامها فتوبته شيء و إخضاعه لشرع الله و الاقتصاص منه شيء آخر ، فالتوبة بعد القدرة لا تسقط الحد و لا تلغيه .

فالغرغرة أيضاً هي حدّ (حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فما قبل الغرغرة توبة و أمره إلى الله و ما بعدها كما أخبر جل و علا فإنها لا تُسمى توبة .


جواد عبد المحسن

حديث رمضان 3

إرسال تعليق

0 تعليقات