موانع الهداية

موانع الهداية       
 
إن موانع الهداية كثيرة قد تجتمع كلها في الواحد مرة واحدة، وقد يتخلف بعضها، وقد يحول بين العبد والهداية مانع واحد من موانع الهداية وابرز هذه الموانع ضعف المعرفة, فإن كمال العبد في أمرين : معرفة الحق من الباطل ، وإيثار الحق على الباطل  فإن من الناس من يعرف الحق لكن إيثاره على الباطل قد يكون عنده ضعيفا فاذا علم من لا يعلم كان قريب الانقياد والاتباع ، وبهذا يكون قد قطع نصف الطريق إلى الحق وما بقي عليه إلا قوة العزيمة على الرشد "(اللهم أسألك العزيمة على الرشد" رواه أحمد (( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) الكهف  68 ، وهذا السبب هو الذي حال بين كثير من الكفار وبين الإسلام ، فإنهم لا يعرفون عنه شيئا، ومع ذلك يكرهونه ، وكما قيل :الناس أعداء لما جهلوا.
ان عدم علم المسلمين بحقيقة هذا الدين في هذا الزمن الذي طغت فيه الامور المادية على كل شيىء تجعل منهم من يقول : إذا التزمت وأنبت إلى الله وعملت صالحا ضيق علي رزقي ونكد علي معيشتي وتعرضت مصالحي للخطرمن قبل انظمة الحكم واتهمت بالاصولية والتطرف عندهم وتعرضت للملاحقة والمسائلة ، وإذا أعطيت نفسي مرادها جاءني الرزق والعون وراجت بضاعتي ولم اتعرض لا لمساءلة ولا لملاحقة ,فكانه يعبد الله من أجل بطنه وهواه والعياذ بالله.
فكم فسد بهذا الاغترار عابد جاهل  ومتدين لا بصيرة له, فيرى ان العبادة تسبيح وتهليل  ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين ، أما قرأت قوله تعالى : ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)) الحج11وعن جابر بن عبد الله  أن أعرابيا بايع رسول الله  - عليه الصلاة والسلام - على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى الأعرابي إلى رسول الله  - عليه الصلاة والسلام - فقال يا رسول الله أقلني بيعتي فأبى رسول الله  - عليه الصلاة والسلام - ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله  - عليه الصلاة والسلام ( إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها) البخاري في صحيحه  ، فكان البلاء بالنسبة للمؤمن للتمحيص والتنقية وصدق الله العظيم (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)العنكبوت .
ومن موانع الهداية قسوة القلب (( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون )) الأنفال 23 ، فمثلهم  كالأرض الصلدة التي يخالطها الماء فإنه يمتنع النبات فيها لعدم قبولها، فإذا كان القلب قاسيا لم يقبل النصائح وأبعد القلوب من الله القلب القاسي وكذا إذا كان القلب مريضا  فلا قوة فيه ولا عزيمة  ولا يؤثر فيه ا لعلم ومن صفاتهم كما وصفهم الله (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الزمر45.
ومن موانع الهداية الحسد والكبر وقد فسره عليه الصلاة والسلام بأنه ("بطر الحق وغمط الناس " ، وضده التواضع ، وهو قبول الحق ممن كان ولين الجانب ، والمتكبر متعصب لقوله وفعله ولا يقبل الحق ممن كان وهذا هو الذي حمل إبليس على عدم الانقياد للأمر لما أمر بالسجود ، وهو داء الأولين والآخرين ، إلا من رحم الله ، وبه تخلف اليهود عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفوه وشاهدوه ، وعرفوا صحة نبوته ((الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)) البقرة  146 ، فذكر سبحانه أنهم يعرفون صفات الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولكنهم قوم بهت . وبهذا الداء امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن الإيمان ، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل ، ولهذا لما سأله رجل عن امتناعه مع أنه يعرف أنه صادق قال : تسابقنا نحن وبنو هاشم على الشرف حتى إذ ا كنا كفرسي رهان قالوا، منا نبي ، فمتى ندركها؟ والله لا نؤمن به ، وكذلك سائر المشركين فإنهم كلهم لم يكونوا يرتابون في صدقه ، ولكن حملهم الكبر والحسد على الكفر والعناد وصدق الله العظيم(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ33)الانعام.
روي ان رسول الله صلى الله علية وآله وسلم انه قال(اللهم اشدد الدين بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبى جهل بن هشام (ابن عساكر عن ابن عمر) وقد اخرج الله من اصلاب هؤلاء ابطال لهم في الفتوح الاسلامية صولات وجولات فعن حبيب بن أبى ثابت : أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبى جهل وعياش بن أبى ربيعة خرجوا يوم اليرموك حتى أثبتوا فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه ، فنظر إليه عكرمة فقال  ادفعه إلى عكرمة ، فلما أخذه عكرمة نظر إليه عياش فقال ادفعه إلى عياش ، فما وصل إلى عياش حتى مات وما وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا (أبو نعيم ، وابن عساكر) [كنز العمال 30255].

ومن موانع الهداية : مانع الرياسة ولو لم يكن في صاحبه حسد ولا كبر عن الانقياد للحق لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد للحق وملكه ورياسته ، فيضن بملكه ورياسته ، كحال هرقل وأضرابه ، فإنه قال في آخر كلامه مع أبي سفيان : "فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين ، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه "، أنه لا يستطيع الوصول إليه لتخوفه على حياته ومملكته من قومه . وما نجا من هذا الداء - وهو داء أرباب الولاية - إلا من عصم الله كالنجاشي . وهذا هو داء فرعون وقومه (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) المؤمنون.
ومن موانع الهداية : مانع الشهوة والمال وهو الذي منع كثيرا من أهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم ، وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته ، فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا  إنه يحرم الزنا ، ويقولون لمن يحب الخمر : إنه يحرم الخمر، وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام ، وأخبروه بأنه يحرم الخمر فرجع وهو في طريقه إلى الرسول ، فوقصته ناقته فسقط فمات .
وقد قال بعض أهل العلم : لقد فاوضت غير واحد من أهل الكتاب عن الإسلام ، فكان آخر ما قال لي أحدهم: أنا لا أترك الخمر وشربها ، وإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربي ، وقال لي أيضا آخر بعد أن عرضت عليه الإسلام : إن ما قلت حق ، ولكني لي أقارب أرباب أموال وإني إذا أسلمت لم يصل إلي منها شيء ، وأنا آمل أن أرثهم . ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار، فإذا اجتمع في حقهم قوة داعي الشهوة والمال مع ضعف داعي الإيمان ، فلا ريب أن العبد يجيب داعي الشهوة والمال (( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض )) الأحقاف32 وقوله تعالى ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)هود,فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم ، وهذا سبب بقاء خلق كثير من الكفار بين قومهم وأهليهم وعشائرهم  وكيف أنهم ينبذون كل من خالف مذهبهم ويعادونه كلهم ، مما جعل كثيرا من أبنائهم وممن ينتسب إليهم يتركون الحق بعد معرفته ويعرضون عنه وسبحان الهادي والمثبت وصدق الشاعر:
             ومن يك ذا فم مر مريض           يجد مرا به الماء الزلال
ومن موانع الهداية  محبة الدار والوطن وإن لم يكن بها عشيرة ولا أقارب ، لكن يرى أن في متابعته للرسول لصلى الله عليه وسلم أو أهل الحق الذين اتبعوه -فيه خروج عن داره ووطنه إلى دار الغربة،فيضن بوطنه على متابعة الحق أو الدخول في الإسلام بعد تيقنه ، ومن قرأ سيرة سلمان رضي الله عنه وما لاقى من المتاعب في سبيل الوصول إلى الحق لعلم أي مجاهدة جاهد بها نفسه ، وكيف ترك أهله وعشيرته ووطنه وهاجر إلى المدينة ، وقد سمي (الباحث عن الحقيقة) ، وكذا الأمر في سائر الصحابة الذين تركوا أهلهم وأبناءهم وأموالهم وخرجوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون
ومن موانع الهداية : من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام فرأوا أنهم إذا أسلموا سفهوا أحلام آبائهم وأجدادهم ، ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب ، فصدوه عن الحق من هذا الباب ، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب فأنهم يأتون الرجل من باب شهوته ، أو من هذا الباب ، ولهذا قال أبو طالب : لولا أن تكون مسبة على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك ، وقد قرر ذلك في شعره :        
ولقد علمت بأن دين محمد        من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة        لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وقد يقول قائل :هذا في قوم قد كانوا فبانوا ولكن مع الاسف فانك لا تزال تسمع مثل هزه الدعوات الجاهلية التي تفاخر بانسابها وعشيرتها واذا ضيقت عليه قال لا أترك عادات آبائي وأجدادي (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (104)) المائدة ، وهذا السبب هو الذي منعهم من الهدايةأو قبول الحق بعد معرفته وتيقنه

ومن موانع الهداية متابعة من يعاديه من الناس أو سيره في طريق الحق أويرى انه سبقه إليه وهذا الامر منع كثيرا من اتباع الهدى بعد معرفة حيث يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب أرضا يمشي عليها ويقصد مخالفته ؛ فيراه قد اتبع الحق فيحمله بغضه له على معاداة الحق وأهله ولو لم يكن بينه وبينهم عداوة،لا لشيىء انما لان من يبغضه معهم .

جواد عبد المحسن

حديث رمضان - 12

إرسال تعليق

0 تعليقات