الاستقامة

الاستقامة

قال تعالى:{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) هود، قال ابن جرير رحمه الله " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاستقم أنت ، يا محمد ، على أمر ربك ، والدين الذي ابتعثك به ، والدعاء إليه ، كما أمرك ربك ، ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره ، ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه ، إن ربكم بما تعملون من الأعمال كلِّها - طاعتها ومعصيتها - ذو علم بها لا يخفى عليه منها شيء وهو لجميعها مبصرٌ فاتقوا الله ، أيها الناس ، أن يطَّلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره ، فإنه ذو علم بما تعلمون وهو لكم بالمرصاد " "تفسير الطبري.
ان قضية الاستمرار في الامتثال لأمر الله (تعالى) في المنشط والمكره من القضايا الجوهرية في الإسلام، ومن القضايا الجوهرية كذلك في بنية التشريع، وليس أدل على ذلك من وصية الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية وفي غيرها بـ (الاستقامة) ، التي هي: (المداومة على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه)، وقد جاء في الصحيح : أن سفيان بن عبد الله (رضي الله عنه) قال : قلت : (يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك ، قال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم).
إن الاستقامة ليست سوى تمحور المسلم حول مبادئه ومعتقداته، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة، ومهما ضيع من فرص ومكاسب وينبغي أن يكون مفهوما أن المرء إذا أراد أن يعيش وفق مبادئه ورغب إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى، فإنه بذلك يحاول الجمع بين نقيضين، وسيجد أنه لا بد في بعض المواطن من التضحية بأحدهما حتى يستقيم أمر الآخر.
إن تحقيق المصلحة على حساب المبدأ يُعدّ انتصاراً لشهوة أو مصلحة آنيّة، أما الانتصار للمبدأ على حساب المصلحة فإنه الاثر الظاهر لرسوخ العقيدة وادراك الصلة بالله الخالق، وأما الجري خلف الشهوات دون قيد ولا رادع فأنه يحقق نوعاً من المتع والمكاسب الآنيّة  لكنه يرتد على صاحبه فتقهره شهوته.
إن المبدأ أشبه شيء بـ (النظارة) إذا وضعناها على أعيننا ، فإن كل شيء يتلّون بلونها ، فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم ، إنه حين يرى الناس يتسابقون على الاستحواذ على منصب يستغرب من ذلك ، ويترفّع ؛ لأن مبدأه يقول له شيئاً آخر غير ما تقوله الغرائز للآخرين ، وإذا رأى الناس يخبطون في المال الحرام تقززت نفسه ؛ لأنه يعلم ضخامة العقوبة التي تنتظر أولئك ، وإذا أصيب بمصيبة فإنه يتجلد ويصبر ؛ لأنه يرجو المثوبة عليها من الله (تعالى) .
إذا قلّبنا النظر في اهتمامات الناس ومناشطهم اليومية فإن من السهل الوقوف على المحور الذي يعلقون عليه توازنهم العام، ويدورون بالتالي في فلكه، وهناك تشاهد من همّه الأكبر النجاح في عمله والمحافظة على سمعته فيه، كما تشاهد من يتمحور حول المتعة، فهو يبحث عنها في كل نادٍ وواد، ومن يتمحور حول المال، فهو يجوب العالم بحثاً عنه، ومن يبحث عن السيطرة والنفوذ، فهو مستعد لأن يفعل أي شيء في سبيل التمكن والتحكم .. وتجد ثلة قليلة بين هذا الطوفان من البشر استهدفت أن تحيا لله ، وأن تبحث عن رضوانه ، ومن ثم فإنه يمكن تفسير كل أنشطتها ومقاصدها في ضوء هذا المحور ، وهذه الثلة هي التي أُمِر النبيّ - صلى الله عليه وسلم- أن يفصح عن محورها باعتباره رائدها وهاديها: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} الأنعام  162 ، 163.
ان هناك فرقاً بين الاستقامة الهندسية وبين الاستقامة المنهجية، وهذا هو ما نود طرحه، فالخط المستقيم المرسوم هو مستقيم هندسيا وليس هو المقصود، وانما المقصود هو ما خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَسَارِهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ تَلَا : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ سورة الأنعام آية 153) الحاكم في مستدركه والبزار.
وعن تعريف الاستقامة: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: "أن لا تشرك بالله شيئاً" يريد الاستقامة على محض التوحيد. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب"."وقال عثمان رضي الله عنه استقاموا أخلصوا العمل لله""وقال علي رضي الله عنه استقاموا: أدوا الفرائض""وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة" "وقال ابن القيم رحمه الله: "فالاستقامة كلمة جامعة" آخذة بمجامع الدين. وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء. والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات. فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله"."وقال القرطبي رحمه الله بعد سياق الأقوال:"وهذه الأقوال وإن" تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقداً وقولاً وفعلاً وداوموا على ذلك". في قوله تعالى "إن الذين قالوا ربنا الله ثم" استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" (فصلت: ٣٠")، وقوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف" عليهم ولا هم يحزنون" (الأحقاف: ١٣")، وقوله تعالى: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا "(الجن: ١٦")، وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال قلت يارسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسئل عنه أحداً غيرك. قال صلى الهن عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم". وفيه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الهه عليه وسلم قال: "استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة "ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". "وقال ابن القيم رحمه الله: والمطلوب من العبد الاستقامة – وهي السداد – فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الهن عليه وسلم قال: "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل". فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها. فأمر بالاستقامة – وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال – وأخبر في حديث ثوبان أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة – وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه – ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله، ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله.
ان للاستقامة ثمرات ينعكس اثرها على الجوارح في امور منها:
1-              اطمئنان القلب قال بعض السلف " إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة." فقرآنه في صدره يناجي ربه وقتما يشاء، وقد تمثلت في حياة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فقال " أن جنتي وبستاني في صدري أن رحت فهي معي، إن قتلي شهادة وسجني خلوة وإخراجي من بلدي سياحة"، وما اجمل قول البوصيري في البردة:
لولا الهوى لم ترق دمعاً على طللٍ        ولا أرقت لذكر البانِ والعلمِ
فكيف تنكر حباً بعد ما شهدت         به عليك عدول الدمع والسقمِ
يعني ان جوارحه كلها ودموعه شهود عدول لا يطعن في صدقهم على حبه لله ورضائه بقضاءه.
2-              التسليم : فأهل الاستقامة مسلِّمين أمرهم لله تعالى يؤدون واجباتهم في الأرض، ويتوكلون على الله، يستعلون على الدنايا ويتركون مصيرهم إلى الله، يسعون للرزق بكل ما أوتوا من قوة ويتركون النتيجة لله . وينفقون مما أعطاهم الله، ويتركون حساب الغد إلى الله، ويسيرون مع الأقدار، مؤمنين بأنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، ويحتملون الشدة ويصبرون على الضراء، في سبيل الله ويرجون من الله الخير لحسن ظنهم بالله.
3-              السرور بالمقدر والرضا به وعدم السخط مما نزل بهم فهم المستقيمون رُسخ الإيمان بما قدره الله فيعلمون أن ما وصل إليهم على أي صفة كان فهو منه عز وجل، فيحصل لهم بذلك الرضا بقدره، ومثاله ان عروة بن الزبير بن العوام رحمه الله كان في سفر فظهرت غرغرينة ثم ترقى به الوجع، وقدم على الوليد وهو في محمل، فقال يا أبا عبد الله اقطعها، قال دونك الطبيب. فقال اشرب المرقد – الخمر – فلم يفعل. فقطعها من نصف الساق، فما زاد أن يقول: حس حس، فقال الوليد ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا ... وأصيب عروة بابنه محمد في ذلك السفر، ركضته بغلة في اصطبل، لم يسمع منه في ذلك كلمة. فلما كان بوادي القرى قال: " لقد لقينا من سرنا هذا نصبا" اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت.
4-              سلامة الصدر: ومن ثمرات الاستقامة على دين الله سلامة الصدر، وعدم حمل الغل والبغضاء والحسد والحقد لعباد الله المؤمنين، فهو يحب لهم ما يحب لنفسه. وانظر إلى سلامة صدر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حيث قال عن المعتصم يوم فتح عمورية: "هو في حل من ضربي" وقال "كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً وقد جعلت أبا إسحاق في حل، ورأيت الله يقول: ""وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم". وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بالعفو في قصة مسطح. ثم قال: " وما ينفعك أن يعذب الله أخاك في "سبيلك؟! .
5-              البصيرة في الدعوة إلى الله: قال الله تعالى:" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) يوسف. والبصيرة هي قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة. فمن استقام على دين الله رزق البصيرة في الدين والدعوة فصار يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان وعلم وهذه من الامور التي يحتاجها كل حامل دعوة ليحبب الاسلام للناس ولا يكرههم فيه لسوء تأتيه فواجب عليه تعلم حسن التأتي لانه من لزوم عمله ورحم الله الشافعي:-
شكوت الى وكيع سوء حفظي      فارشدني الى ترك المعاصي
واخبرني بأن العلم نور                ونور الله لا يهدى لعاصي
6-              الاستعلاء بالحق: وهذه سمة من سمات أهل الاستقامة ففي الحديث: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها ) السلسلة الصحيحة، ورحم الله الإمام الشافعي يوم قال " والله لو  كان الماء البارد يُنقص من مروءتي لشربته حاراً "، فالاستعلاء الحقيقي هو الاعتزاز بالله والاعتزاز بالنفس وصيانتها عن كل مذلة لغير الله، وكل دنس يصيبها، وكل خضوع لما يملك الإنسان دفعه من الأذى والضر. وهذا الاستعلاء من أبرز سمات الإنسان المؤمن يصاحبه في كل موقف من مواقف حياته، فيملي عليه السلوك الذي ينبغي أن يسلكه. فهو مستعل في وجه المغريات ولو كان في حاجة لأنه لا ينبغي له – وهو المتصل بالله - أن يحيد عن منهج الله ويخالف دستوره، من أجل عرض مهما يكن فهو حقير بالنسبة لعلو همته، ومهما يكن من كثرة فهو زائل، وهو في وجه الشهوات مستعل ولو أحس بلذعها في أعصابه وهو في وجه القيم الزائفة مستعل لأنه يملك القيم الحقيقية المستمدة من منهج الله وهو في استعلاءه بالحق الذي يحمله لا يحتقر الناس لانهم شغله وهو من دونهم لا شيىء، ولا يشكو الله لخلقه.

7-              القدرة على الحب الخالص: نعم فالحب الخالص سمة بارزة وثمرة يانعة من ثمرات الاستقامة على دين الله "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ومن حبه للناس أنه يحب الخير لهم، ويدعوهم إلى الخير فإنه حين يأمر وينهى يصنع ذلك لأنه يحب للناس الهدى ويحب الخير لهم، وهو كريم ذو مروءة تنفعل نفسه بآلام الناس فيسرع إلى نجدته، وكرمه لا يتعلق بمال مطلقا بل هو متعلق بغير المال فالكلمة الطيبة والنصيحة والدعاء واقالة العثرات والتجاوز عن الزلات هي من قدرته على الحب، ومن جميل ما قرأت: قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل ( من السبعة البكائين ) وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما قال جئنا رسول الله ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحاً له ( أي جملاً يستقي عليه الماء ) فارتحلاه وزودهما شيئاً من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق : وأما علبة بن زيد ( أحد البكائين ) فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله ، ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به ، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أين المتصدق هذه الليلة؟» فلم يقيم أحد! ثم قال: « أي المتصدق؟ فليقم » فقام إليه فأخبره . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « أبشر ، فوالذي نفسي بيده ، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة » المفصل في احكام الهجرة.


 حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات