الأفك والافاّك

الأفك والافاّك

الإفك: كل مصروف عن وجهه الذي يجب (يحقُّ) أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب: مؤتفكة. وقال تعالى: ﴿والمؤتفكات بالخاطئة﴾ [الحاقة/9]، وقال تعالى: ﴿والمؤتفكة أهوى﴾ [النجم/53] أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله تعالى  عن ابن عباس ، ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ): يعني المكذبين  ، وقوله تعالى: ﴿قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ [التوبة/30] أي: يصرفون (الناس) عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح، ﴿فأنى تؤفكون﴾ [الأنعام/95]، فأرباب كل دين أرضي ( يأفكون ) أى يخدعونَ بوحيهم الشيطانى أتباعهم ، لذا فهؤلاء الأتباع (يؤفكون) أى يُخدعون ، ويقال لهم (فأنى تُؤفكون ) أى الى متى يظل أئمة الافك يخدعونكم ويأفكونكم . وقوله تعالى: ﴿أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا﴾ [الأحقاف/22]، فاستعملوا الإفك في ذلك لما اعتقدوا أن ذلك صرف من الحق إلى الباطل، فاستعمل ذلك في الكذب ، وقال: ﴿لكل أفاك أثيم﴾ ﴿٢٢٢ الشعراء﴾ الأفاك: الذي يأفك الناس أي يصدهم عن الحق بباطله.
قال العلامة الطبري : الأفاك الكذاب ، وأصل الإفك القلب ، والأفاك الكثير القلب للخبر ، من جهة الصدق الى جهة الكذب ، فالإفك أساسا هو الافتراء فى الدين والذى يمارسه أربابه وشيوخه وأئمته . والأفاك هو ذلك يحترف الاضلال فى الدين بتكذيب آيات الله وإفتراء أحاديث وأقاويل بديلة فهو الذي يأفك الناس أي يصدهم عن الحق بباطله وصدق الله العظيم: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) الجاثية، أي إذا كان القرآن وحيا من الله جل وعلا لخاتم المرسلين فإن أحاديث الإفك والافتراء يوحى بها الشياطين لأوليائهم.
والأفاكون هم أئمة الكفر ، وقادة الضلال ، وهم المغضوب عليهم ، الذين نسأل الله الا يجعلنا منهم ، وهم الغاوون الذين يصفون العدل ولا يطبقونه ، وهم صانعوا القرار في معسكر المستكبرين، وهم ملاْ الفرعون في كل حين واقرأ معي قول الحق: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) الزخرف، فمصدر أفكارهم اهواؤهم التي يعبدونها وانحرافهم وفسادهم انما هو بوعي منهم وسابق اصرار ونهج او قل برنامج عملهم لتفتيت واضعاف الامة، وشياطين الشرق والغرب يوحون إليهم لأنهم اولياؤهم وارباب نعمتهم، وفوق هذا وذاك فهو مدعٍ للكذب كفرعون في قوله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر، فيسوق الفرعون نفسه على انه الحريص كل الحرص على الناس ومصالحهم وانهم همه يسهر ويجتهد لاسعادهم، وبطانته من الملأ يشهدون بانه الصادق المخلص.
ان أشد الأفاكين جرماً وأفدحهم وزراً من آتاه الله من العلم ما يعرف به حرمة الدماء وعظيم خطورة موالاة الظالمين والتبرأ من الأطهار الأخيار وغش الرعية وعدم النصح للمسلمين وليس هذا وحسب بل والمساعدة في افكهم عليهم ، واضلال الناس ويتحدث بعدها عن طاعة ولي الامر وعدم الخروج عليه وتسهيل ما يصعب على الفرعون قوله او فعله باللبس على المسلمين من احكام قطعية كالربا وغيره ويفتي الناس بل ويحضهم بأن يتعاونوا مع الحاكم المتغلب الغاشم.
ان أحد نشاطات العقل هو الاستقراء، حادثة وثانية، ثالثة ورابعة، خامسة وسادسة، سابعة وثامنة يُستنبَط قاسم مشترك بين كل هذه الحوادث وهذا القاسم المشترك هو القانون، بعدئذٍ نعمِّم، نستقرئ ثم نعمَّم، الحديد تمدَّد بالحرارة، والذهب تمدَّد بالحرارة، والفضة تمددت بالحرارة، والنحاس تمدد بالحرارة، إذاً كلُّ المعادن تتمدَّد بالحرارة، فإذا فهمنا هذه الآية بطريقة الاستقراء نستنبط منها قانوناً هو (سنة الله) فأن كل قومٍ انحرفوا عن سواء السبيل استحقّوا الهلاك، فإذا أردنا أن نسحب هذا القانون على حياتنا نجد أن كل منحرفٍ على مستوى فردي وعلى مستوى جماعي هالك لا محالة وصدق الله العظيم ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) النجم. فهناك إهلاك استئصال وهناك إهلاك اضعاف، فمن إهلاك الاستئصال: ﴿وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى﴾  أهلكها إهلاك استئصال، فلم يبقِ منهم أحداً إلا نبيَّ الله صالحاً ومن آمن معه وكذلك نبي الله لوط ونوح، فقد نجاهم الله، فكل إنسان ينحرف عن سواء السبيل هالك، والاخذ بالسنين هو اهلاك اضعاف واختبار في قوله تعالى: (( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ( 130 ) فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون )131 الاعراف.
وكذلك في قوله تعالى: ﴿أئفكا آلهة دون الله تريدون﴾ [الصافات/86] فيصح أن يجعل تقديره: أتريدون آلهة من الإفك (قال الزمخشري (أإفكا) مفعول له، تقديره: أتريدون آلهة من دون الله إفكا، وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية، وقدم المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل)، فمن وضح الحق له ثم عدل لغيره لهوى او لمصلحة ومن تبع من يعلم انه صاحب هوى فهو رجل مأفوك مصروف عن الحق إلى الباطل.
بعث الله تعالى نبيّه لوط عليه السّلام إلى قومٍ فشت فيهم المنكرات، وانحرفوا عن منهج الله تعالى وفطرته التي فطر النّاس عليها، فقد كانوا يشتهون الرّجال من دون النّساء، فخالفوا بذلك ما أودعه الله تعالى في نفوس الجنسين من ميولٍ وغرائز اتجاه بعضهم البعض، وقد تعرّض نبي الله لوط عليه السلام إلى أذى كبير منهم، حتّى راودوه يومًا عن أضيافه من الملائكة، ولم يؤمن منهم بدعوة الله إلا قليل، وقد حذّرهم لوط من مغبّة عصيان الله والكفر بدعوته، فأبوا إلا الإصرار على موقفهم، فبعث الله تعالى ملائكة العذاب لتحمل قريتهم وتنزعها من مكانها ثمّ تهوي بها رأسًا على عقب عقابًا لهم، ثمّ يمطر الله تعالى عليهم زيادةً في العقوبة حجارةً من سجّيل منضود، وليبقى مكان عذابهم آيةً للمجرمين إلى يوم القيامة، وقد سمّيت قرى قوم لوط بالمؤتفكات من ائتفك إي انقلب وسقط أو هلك، والخاطئة هي فعلهم وذنبهم المنكر الذي استحقوا بسببه عذاب الله تعالى وصدق الله العظيم: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) الحجر 65.
أنّ المؤتفكات هي لفظٌ عام للأمم التي أهلكها الله تعالى بسبب ذنبوها وكفرها بدعوة الله تعالى، ومنها قوم ثمود وقوم مدين وقوم عاد وصدق الله العظيم: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) العنكبوت، والرّاجح في كلمة المؤتفكات أنّ المقصود منها هم قوم لوطٍ عليه السّلام لقوّة الدّليل على ذلك إذ أن معنى المؤتفكات المنقلبات وهي قرى قوم لوط التي قلبت رأساً على عقب والله اعلى واعلم.

ان وجود الافاك كان ما كان الحق وباق ما بقي الابتلاء، ولكن الامر المتعلق بتصديقه او تكذيبه وكشفه للامة ومعرفة الامة له ولافكاره كي تبتعد عنه ولا تتاثر بما يدعو له هو المهم فيضمحل هو وكذلك دعوته، فمن يصفق للافاك فهو مثله وان اختلف الحجم والاثم واحد، ومع الاسف فقد كثر الافاكون واشتد عودهم وكثر جمهورهم وطلبتهم واحاطوهم بهالة من التبجيل ما جعل مجرد ذكرهم بما لا يحمد يجعل الاتباع يثورون، فما كان لفرعون ان يكون فرعون لولا الملأ ، فالقضية باختصار شديد ان المشاركة في صناعة الفرعون هي اعانة للافاك في حربه للاسلام وصدق الله العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) الانفال.

 حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات