الزهد
والورع
معنى
الورع اصطلاحًا: هو اجتناب الشبهات؛ خوفًا من الوقوع في المحرمات. وعرفه القرافي
بقوله: (ترك ما لا بأس به؛ حذرًا مما به البأس).
والزهد
أبلغ من الورع، وأشرف منه، والورع داخل في ضمن الزهد، فكل زاهد ورع، وليس كل ورع
زاهدًا، وإن كانا يشتركان في ترك المحرمات عمومًا والمكروهات والمشتبهات، وفعل
الطاعات في الواجبات والمستحبات وأشياء أخرى، لكن الزهد أبلغ من الورع وأرقى منه.
ومن
أجود ما قيل في الفرق بين الزهد والورع ما ذكره ابن القيم رحمه الله في (مدارج
السالكين) بقوله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الزهد: ترك ما
لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. وقال سفيان الثوري: ما
رأيت أسهل من الورع (ما حاك في نفسك فاتركه). وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع خير
من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وقد
جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله بكلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام
المرء تركه ما لا يعنيه" (الترمذي)، فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام،
والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة، والباطنة فهذه
الكلمة كافية شافية فيه.
إن
من السهولة بمكانٍ أن يكون المسلم مصليًا أو صوّامًا أو قوّامًا أو داعية أو
خطيبًا أو معلمًا أو حتى عالمًا، ولكن من الصعوبة بمكان أن يكون وَرِعًا فإن الورع
رتبةٌ عزيزة المنال، ومتى ما ارتقى الإنسان إلى مرتبة الورع فقد نال أسمى المراتب،
وتحلى بأجمل المناقب التي تؤهله جوار الرحمن، فأكثر الناس اليوم إنما يهمه أن يحقق
مآربه في الدنيا وشهواتها وملذاتها دون تريث في الأمر والتفات للشرع وسؤال عن
الحكم، وبعضهم قد امتلأ بطنه، وعظم رصيده، وغذي بالحرام جسمه، وما نلاحظه من قلة
البركة وانتشار الفساد لهو نتيجة لغياب مفهوم الورع.
وأما
الزهد: فقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء. وقال:
إنما الزهد في قوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا
تَفْرَحُوا بِمَا ءَاتَاكُمْ وَالله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} الحديد:
(23) ، فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود.
وليس
المراد رفضها بالكلية، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما،
ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من
أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان عبد الرحمن ابن عوف والزبير وعثمان رضي
الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من
الزهاد، مع أنه كان من أكثر الناس محبة للنساء ونكاحًا لهن وأغناهم، وكان عبد الله
بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، يقول ابن القيم في اعلام الموقعين:
"وقد كان لسفيان شيء من مال ، وكان لا يتروى في بذله ، ويقول : لولا ذلك
لتمندل بنا هؤلاء . فالعالم إذا منح غناء فقد أعين على تنفيذ علمه ، وإذا احتاج
الناس فقد مات علمه وهو ينظر " وأخرج أبو نعيم في الحلية أنه جاء رجل إلى الثوري فقال : يا أبا عبد الله
! تمسك هذه الدنانير ؟؟!! فقال : اسكت ، لولا هذه الدنانير لتمندل [يعني : لتمسح ]
بنا هؤلاء الملوك ...
ومن
أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة
المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب
المصيبة -إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك. فهذا من أجمع الكلام في الزهد
وأحسنه.
ان
المقصود من الورع: أن يُطهَّر القلب من الدنس كما يُطهر الماء دنس الثوب، والشيء
الغريب: أن بين الثياب والقلوب مناسبةً ظاهرة، فالثياب تدل على قلب الإنسان وحاله،
لأن الإنسان يرتدي ثوباً من عمله، فإخلاصه هو ثوبه، وغشُّه ثوب، تواضعه ثوب، كبره
ثوب، فهناك مناسبةٌ بين القلب وبين الثياب، فالمقصود بالورع تطهير القلب من الدنس.
وقال سهل بن عبد الله: (من لم يصاحبه الورع
أكل رأس الفيل ولم يشبع).
فالنبي
عليه الصلاة والسلام جمع الورع كلَّه في كلمةٍ واحدة فقال:((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ
الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ) أخرجه الترمذي في سننه، ومالك في الموطأ،
فالمؤمن مشغول، له هدفٌ كبير، ليس في وقته متسعٌ للسفاسف، هدفه أكبر من وقته، وهذه
حقيقة، وهي أنك حينما تختار هدفاً كبيراً فأنت أسعد الناس، لأن هذا الهدف الكبير
يأخذ كل وقتك، فلا تجد وقتاً لسفاسف الأمور، فعن واثلة بن الأسقع عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ
النَّاسِ ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ
لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحَسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا
، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ) سنن ابن
ماجة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالى الأمور
ويكره سفسافها) الطبرانى
، وابن قانع ، والحاكم ، وأبو نعيم فى الحلية ، والبيهقى فى شعب الإيمان عن سهل بن
سعد. والسَفْسَاف : الردىء من كل شىء والأمر الحقير، وهذا الترك يعم الكلام، ترك
الكلام الذي لا يعنيك، وترك النظر الذي لا يعنيك. وترك الاستماع الذي لا يعنيك،
والتنصُّت على الآخرين، وتقصي أخبار الآخرين، وكل هذا واشباهه من الفضول الذي لا
يعنيك وهذا هو من معنى الحديث.
فتركه
فضول الكلام والنظر والاستماع حينما يعلم ويوقن أن كلامه جزءٌ من عمله يكون ورعاً،
فالعوام يتوهَّمون أن الكلام لا بأس به ويقولون: ما فعلنا شيئاً تكلَّمنا، والكلام
ليس عليه جمرك وغاب عنهم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وَإِنَّ
الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا
بَالا, يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، وكم من كلمةٍ
فرَّقت بين زوجين وكم من كلمةٍ فرَّقت بين شريكين وكم من كلمةٍ فرَّقت بين أمٍ
وابنها وبين أخٍ وأخيه، فالكلمة السيئة وبال على صاحبها وعلى الناس، والطيبة صدقة:
وصدق الله العظيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ
(26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ
مَا يَشَاءُ (27) إبراهيم، فمِلاك الورع كلِّه ترك المرء ما لا يعنيه من الكلام،
والنظر، والاستماع، والبَطش ، والمشي، والفكر، وغير الورع إنسان ليس له هدف ضائع،
كل شيء يشغله، يبحث عن كل شيء، يتقصَّى كل شيء، يهتم بكل شيء، يقف أمام المناظر
يتأمَّلها، أمام الرجال يتفحَّصهم، أمام الحاجات يقلِّبها لأنه فارغ يريد ملا
فراغه، أما حينما يكون لك هدفٌ كبير، فالهدف الكبير هو الذي يسمو بك، ويجعلك
إنساناً عند الله كبيراً.
ومن
جميل ما قرات عن الحسن، قال: بينما عمر بن الخطاب يمشي ذات يوم في نفر من أصحابه
إذا صَبِيَّة في السوق يطرحها الريح لوجهها من ضعفها، فقال عمر: يا بؤس هذا مَن
يعرف هذه؟ قال له عبد الله: أوَ مَا تعرفها؟! هذه إحدى بناتك. قال: وأي بناتي؟
قال: بنت عبد الله بن عمر.قال: فما بلغ بها ما أرى من الضيعة قال: إمساكك ما عندك.
قال: إمساكي ما عندي عنها يمنعك أن تطلب لبناتك ما تطلبُ الأقوامُ، أما والله ما
لك عندي إلا سهمك مع المسلمين، وسعك أو عجز عنك، بيني وبينكم كتاب الله.
وأخرج
ابن سعد بإسناده عن جندب بن سفيان قال : أصابت النبيَّ صلى الله عليه وسلم
أَشاءَةُ نخلة فأدمت إصبعه، فقال: ما هي إلا إصبع دُمِيَت، وفي سبيل الله مالَقِيَتْ، قال: فحُمِل فوُضِع على سرير مرمول
بِشُرُط ، ووضِع تحت رأسه مِرفَقة من أدَم محشوة بليف، فدخل عليه عمر وقد أثَّر
الشريط بجنبه فبكى عمر فقال: ما يبكيك ؟ قال: يا رسول الله ذكرت كسرى وقيصر يجلسون
على سُرُر الذهب ويلبسون السندس والإستبرق – أو قال الحرير والإستبرق – فقال: أما
ترضون أن تكون لكم الآخرة ولهم الدنيا؟
حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن
0 تعليقات