وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ
مَا قَدَّمَتْ لِغَد
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 18-20]، سورة الحشر مدنيَّة، وآياتها أربع
وعشرون، وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير، فيما روى البخاري عن سعيد بن جُبير
قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: سورة بني النضير.
هذه
الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعظ بها كثيرا، من ذلك ما
ورد عَنْ جَرِيرٍ بن عبد الله قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ
مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ
مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ. فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ
بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ (اتَّقُوا
اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ
مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ،
حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ
كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ
حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ
سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً
كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" مسلم، الترمذي، النسائي، ابن ماجة، أحمد،
الدارمي.
فقوله
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أمر بتقواه، وهو يشمل
فعلَ ما أمرَ به، وترك ما زجر عنه، وقوله: ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَد ﴾ أي: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وانظروا ما ادَّخرْتم لأنفسكم من
الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، ﴿ واتَّقُوا اللهَ ﴾ تأكيدٌ ثانٍ، ﴿
إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي: اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم
وأحوالكم، قال ابن زيد قول الله عز
وجل ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) يعني يوم
القيامة قال : والأمس في الدنيا ، وغد في الآخرة ، وقرأ ( كأن لم تغن بالأمس ) قال
: كأن لم تكن في الدنيا. وقوله: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19]؛ أي: لا تنسوا ذكرَ الله فينسيكم العمل
لصالح أنفسكم؛ فإن الجزاء من جنس العمل ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
﴾ [الحشر: 19]؛ أي: الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة.
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت منظرًا قط إلاَّ والقبر أفظع منه» (صحيح
ابن ماجة). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا،
وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم،
وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية " قال الشيخ السعدي
رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى
كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة
لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشر،
وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي، وأن الله
لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، ودون حلول العلم في ذلك في القلب لا
سبيل إلى ذلك، وروي عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال : "أيسر الناس
حساباً يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا فيقفوا عند همومهم وأعمالهم،
فإن كان الذي هموا به لهم مضوا، وإن كان عليهم أمسكوا، وإنما يثقل الأمر يوم
القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا فأخذوها من غير محاسبة، فوجدوا الله قد
أحصى عليهم مثاقيل الذر، ثم قرأ (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، وقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 20]؛ أي: لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم
القيامة، كما قال تعالى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّار ﴾ [ص: 28]؛ ولهذا قال ها هنا: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ
﴾؛ أي: الناجون المسَلَّمون من عذاب الله عز وجل.
والعلاج
هو دوام محاسبة النفس على كل عمل قامت به او قبل قيامها به للجم هواها حتى لا
يسوقها هواها لغير ما امر الله ومخالفتها له، فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل عن عمر
بن الخطاب أنه قال: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن
تُوزنوا؛ فإنه أهونُ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسِبوا أنفسَكم اليوم، وتزيَّنوا
للعرض الأكبر ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة:
18]" رواه الترمذي ، قال مالك بن دينار: (رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ
صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل،
فكان لها قائدًا).
فحق
على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه، قال تعالى: ﴿
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ آل عمران:
30، وأضَرُّ ما عليه الإهمال، وترك المحاسبة وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول
به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب، ويَتَّكِلُ على
العفو، فيهمل محاسبة نفسه، والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سَهُل عليه مواقعة
الذنوب، وأَنِسَ بها، وعسر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من
الفطام وترك المألوف والمعتاد.
وجِماع
ذلك: أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض؛ فإنْ تذكَّر نقصًا تدارَكه إما بقضاء أو
إصلاح، ثم يحاسب نفسه على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة
والاستغفار، والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة؛ فإن كان قد غفل عما خُلق
له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى، ثم يحاسبها بما تكلَّم به، أو مشتْ
رجلاه، أو بطشَتْ يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أراد بهذا؟ ولِمَ فعلته؟ وعلى أي وجه
فعلته؟ قال تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ﴾ [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ
إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأعراف: 6]، وقال: ﴿ لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 8]، فإذا سُئِل الصادقون وحوسبوا، فما
الظن بالكاذبين؟! قال قتادة: (إن الله سائلٌ كلَّ عبد عما استودعه من نعمه وحقه)،
فإذا كان العبد مسؤولاً محاسبًا على كل شيء حتى سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى:
﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب.
ومن
ضوابط محاسبة النفس الاطلاع على عيوبها، ومَن لم يطَّلِعْ على عيب نفسه لم يتمكَّن
من إزالته، فإذا اطَّلع على عيبها مقَتَها في ذات الله، روى الإمام أحمد بن حنبل
عن أبي الدرداء قال: (لا يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمْقُتَ الناسَ في جنب الله،
ثم يرجع إلى نفسه، فيكون لها أشدَّ مقتًا)، قال محمد بن واسع: (لو كان للذنوب
رائحةٌ، ما استطاع أحد أن يجالسني)، وقال أبو حفص: (مَن لم يتَّهم نفسه على دوام
الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان
مغرورًا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها، فقد أهلكها).
لقد
كان من الدوافع لي للكتابة في هذا الموضوع امر قد مر بي وهو انني قبل حولي خمسة
وثلاثين عاما فتحت دكانا لاعمل به ومن مقتضياته التسجيل في دائرة القيمة المضافة،
واردت في هذه البرهة ان اغلق الملف لانني لم اعد اشتغل في صنعتي، فطٌلب مني دفاتر
الفواتير والارسال والاوراق التي تثبت دفعاتي وتواريخها فارقت وقلقت وتعبت وانا
ابحث لكي اجمعها وارتبها للاستعداد لتقديمها، وهذا جانب من جوانب حياتي، فكيف بكل
جوانبها من علاقات ومعاملات تستغرق كل عمري وليس هذه فقط، وتصورت يوم القيامة والحساب
وهذا بوجود من ساعدني وذهب معي للدائرة، فكيف بي وانا فريد وحيد ومعي اكوام من
السجلات التي تعلقت بها اعمالي.....؟؟؟؟ فازداد يقيني يقين بانني هالك ان لم
يشملني الله برحمته ففي هذه الحياة الدنيا ما استطعت التخلص من الدائرة الا بشق
النفس فكيف بالآخرة ان لم يشملنا الله برحمته وعفوه وتجاوزه عن حسابنا.
حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن
0 تعليقات