مفهوم البكاء


مفهوم البكاء

فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)الدخان
     قال محمد بن علي الترمذي : البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت ،البُكا يُمَدُّ ويُقْصَرُ، فإذا مددت أردت الصوتَ الذي يكون مع البكاء، وإذا قَصَرْتَ أردت الدموعَ وخروجها. قال الشاعر:
بَكَتْ عَيْني وحَقَّ لها بُكاها ... وما يُغْني البُكاءُ ولا العَويلُ
       ان الله جلت قدرته قد اوجد الحاجات العضوية في الانسان وجعل اشباعها حتميا لبقاء هذا الانسان كالاكل والشرب وقضاء الحاجة،واوجدفيه الغرائز وجعل لهذه الغرائز مظاهر تتجلى حين تبرز هذه الغرائز فتنبأ مظاهرها عنها، فالحب والكره والشوق والوجد والابوة والبنوة مظاهر لغريزة النوع،والخوف والخشية والرهبة والتقديس مظاهر لغريزة التدين،والطمع والجشع والبخل مظاهر لغريزة البقاء،فكانت المشاعر والاحاسيس عند الانسان، وهذه غير متساوية،فقد تزداد عند البعض وتنقص ولكنها لا تنعدم في كل الجوانب.
        ان البكاء هو دفق لهذه المشاعر فالخشية مثلا مظهر لغريزة التدين والبكاء من الخشية هو هذا التدفق عند كل من يخشى الله اكان مسلما ام غير مسلم،اويكون من اثر فقد عزيز او ولد،او من خسارة مال ،وهذا كله في موضوع الغرائز،وقد يكون البكاء من الم في جهاز من اجهزة الجسم ككسر عظم اومرض . 
وبَكَيْتُهُ وبَكَيْتُ عليه بمعنى واحد. ، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت ، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت ؛ لأن المؤمن نور ومعه نور الله ؛ فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك ، فان فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت  .                                                               وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. اذ ان الله جلت قدرته قد خلق وقدر واوجد في الانسان هذه المشاعر المتفاوتة بين انسان وآخر،فالبكاء والضحك والسرور والانقباض وغيرها عبارة عن ترجمان لهذه المشاعر المتاججة في النفس البشرية، فلا بد من ضبط هذه المشاعر وفق امر الله ونهيه فلا نعصي الله لشدة تدفقها، وإن قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد ،  وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " ان القلْبُ يَحْزَنُ ، والعَيْنُ تَدمَعُ ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا ، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون ".
قوله تعالى : {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} أي لكفرهم. {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض ؛ أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق ، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر : 
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
وقال آخر
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
   أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : لما نزلت أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينهم بكى فبكينا ببكائه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم "
        لما نزلت هذه الآية أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون ما ضحك النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك إلا أن يتبسم ولفظ عبد بن حميد فما رؤي النبي عليه الصلاة و السلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا وفيه سد باب الضحك عند قراءة القرآن ولو لم يكن استهزاءا والعياذ بالله .
والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وقيل : في الكلام إضمار ، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة ؛ كقوله تعالى : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] بل سروا بهلاكهم ، قاله الحسن. وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه - ثم تلا - {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}. يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله ، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد : إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى : فعجبت من قوله فقال : أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل !. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما : إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا : فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه : أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شريح الحضرمي قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال - هم الذين إذا فسد الناس صلحوا - ثم قال - ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - {فما بكت عليهم السماء والأرض} ثم قال : ألا إنهما لا يبكيان على الكافر.
     لِلْبُكَاءِ أَسْبَابٌ ، مِنْهَا : خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْحُزْنُ ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ . الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبُكَاءِ فِي الْمُصِيبَةِ :
الْبُكَاءُ قَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلاَ صَوْتٍ ، أَوْ بِصَوْتٍ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ كَصُرَاخٍ أَوْ نُوَاحٍ أَوْ نَدْبٍ وَغَيْرِهَا ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْبُكَاءُ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ الْحُزْنِ ، وَيَمْلِكُ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَشَاعِرِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مُجَرَّدًا عَنْ فِعْل الْيَدِ ، كَشَقِّ جَيْبٍ أَوْ لَطْمٍ ، وَعَنْ فِعْل اللِّسَانِ ، كَالصُّرَاخِ وَدَعْوَى الْوَيْل وَالثُّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَمِنَ الرَّحْمَةِ ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ رواه احمد
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ) . البخاري
الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى :ان الانسان في           جِهَادٍ مَعَ نَفْسِهِ ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ ، وَيَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى ، فَهَذَا مِنَ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }  الحج(34) وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } .الانفال (2)
وَمِمَّا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ ، مَعَ الإِْشَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الآْيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَعْنَى : وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الآْيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَل عِنْدَ ذِكْرِهِ ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الآْيَةِ { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وَقَال : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ }الرعد (28) ، فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كَمَال الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ ، وَالْوَجَل : الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ، فَلاَ تَنَاقُضَ ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }الزمر (23) أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينُ ، وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ . وَالْبُكَاءُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَل ، وَفِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ ، وَيَدُل لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيل اللَّهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ، وَلاَ يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى وَدُخَانُ جَهَنَّمَ) رواه الترمذي      
الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ :الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الإِْسْرَاءِ(109) { وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا }
قَال الْقُرْطُبِيُّ : هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ ، وَحُقَّ لِكُل مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ ، وَحَصَّل مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، فَيَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعُ وَيَذِل  . وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } أَيْ يَزِيدُهُمْ لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ.
وَقَال الطَّبَرِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى هَذِهِ الآْيَةِ : يَقُول تَعَالَى ذِكْرُهُ . وَيَخِرُّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَابَيْنِ ، مِنْ قَبْل نُزُول الْفُرْقَانِ ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لأَِذْقَانِهِمْ يَبْكُونَ ، وَيَزِيدُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ خُشُوعًا ، يَعْنِي خُضُوعًا لأَِمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ اسْتِكَانَةً لَهُ . وَيُفْهَمُ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ أَيْضًا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَل بِحُزْنٍ ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا .
  ان     بُكَاءُ الْمَرْءِ لاَ يَدُل عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ } . () فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ تَصَنَّعُوا الْبُكَاءَ لِيُصَدِّقَهُمْ أَبُوهُمْ بِمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ ، مَعَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوهُ بِهِ كَذِبٌ ، هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوهُ وَفَعَلُوهُ . قَال الْقُرْطُبِيُّ قَال عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الآْيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لاَ يَدُل عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا ، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِمْ مَنْ لاَ يَقْدِرُ ، وَقَدْ قِيل : إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لاَ يَخْفَى . كَمَا قَال حَكِيمٌ :
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ       تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
(42)( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)النجم
            وتحت هذا النص تكمن حقائق كثيرة . ومن خلاله تنبعث صور وظلال موحية مثيرة ،أضحك وأبكى . . فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء . وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما ، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد ، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي . والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء .
وأضحك وأبكى . . فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء . وجعله - وفق أسرار معقدة فيه - يضحك لهذا ويبكي لهذا . وقد يضحك غداً مما أبكاه اليوم . ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس . في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة . والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على الحال!
وأضحك وأبكى . . فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين . كل حسب المؤثرات الواقعة عليه . وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق . لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك . . وهو هو في ذاته . ولكنه بملابساته بعيد من بعيد!
وأضحك وأبكى . من الأمر الواحد صاحبه نفسه . يضحك اليوم من الأمر ثم تواجهه عاقبته غداً أو جرائره فإذا هو باك . يتمنى أن لم يكن فعل وأن لم يكن ضحك وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة حيث لا ينفع البكاء!

حديث رمضان 16
جواد عبد المحسن



إرسال تعليق

0 تعليقات