وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ


{ وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {

      روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها هو أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم ، وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم .و روى ابو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال : سألت الاعمش عن قوله تعالى { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } قال : معناه كما سمعتُ من اشياخي : « اذا فسد الناس أُمِّرَ عليهم شِرارهم . وذلك ان الحكّام يتصرفون في الأمم الجاهلة الضالّة تَصَرُّفَ رعاة السوءِ في الأنعام السائمة » .
     فنحن في هذه الحياة نجد « مالك » و « ملك » وهناك فوق كل ذلك « مالك الملك » ، ولم يقل الله : إنه « ملك الملك »؛ لأننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إلا الله . { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } إنه المتصرف في ملكه ، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله ، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم ، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يطوى الله - عز وجل - السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ » .
إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من الله . إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد . وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه ، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما . إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده .
أي كما صنعنا مع الجن والإِنس ، باستكثار الجن من الإِنس واستمتاع بعضهم ببعض إضلالا وإغواء ، وطاعة وانقيادا ، نجعل من بينهم ولاية ظالم على ظالم ، ولا نولى عليهم واحداً من أهل الخير؛ لأن أهل الخير قلوبهم مملوءة بالرحمة ، لا يقوون على أن يؤدبوا الظالم؛ فهم قد ورثوا النبوة المحمدية في قوله يوم فتح مكة : » اذهبوا فأنتم الطلقاء « ، ولذلك إذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحد من أهل الخير ليؤدبه ، إنه- سبحانه- بتكريمه لأهل الخير لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم . إنه- سبحانه- يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم بعضا .
والتاريخ أرانا ذلك . فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير ، بينما لو تمكن منهم أعداؤهم الحقيقيون لرحموهم؛ لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة .
فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته ، بل جاء به الحق ليؤدب به الظلمة ، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة فهو بجلاله ينزع المهابة من قلوب حرّاسه وبدلاً من أن يدفع عنه البندقية ، يصوّب البندقية إليه .
        وما مِن يَد إلا يدُ الله فوقها             ولا ظالم  إلا   سَيُبلى   بظالم
فإياكم أن تظنوا أن ملكا يأخذ الملك قهراً عن الله ، ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا يسلط الحق عليهم من يظلمهم ، ولذلك يقال : » الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه. { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] كأن ما سلّط على الناس من شرّ عاتٍ هو نتيجة لأعمالهم,, قال الإمام الرازى : " لأن الجنسية علة الضم " فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها فى الخبث . وكذا القول فى الأرواح الطاهرة ، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله فى النصرة والمعونة والتقوية .
 يقول السيد قطب رحمه الله بتصرف( إن الظالمين - وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور - يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى؛ ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به . إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة - مهما اختلفت الأشكال - هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة ، تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس بسن التشريعات وتزيين الديمقراطية ، كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله .
ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا - على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح - إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله . . فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة ، واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء . . وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض من تحالف الكافر مع مغتصب الحكم والغاشم.
وإننا لنشهد في هذه الفترة - ومنذ قرون كثيرة - تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبيين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين - على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها - ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام ، وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها وهو تجمع رهيب فعلا ، تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام ، مع القوى المادية والثقافية ، مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة . . وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانه : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون } . . كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم : { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على نهج رسول الله وتترسم خطاه- صلى الله عليه وسلم - وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين ، وعلى المؤمنين .
إن القهر هو أن يجبر الشيطان الإنسان على أن يفعل شيئا لا يريده الإنسان . أما الإقناع فهو أن يزين الشيطان الأمر للإنسان فيفعله الإنسان بالاختيار ويعلن الشيطان يوم القيامة : لم يكن لي سلطان أقهرك به أيها الإنسان حتى تعصي الله ، لقد زينت لك المعصية أيها الإنسان فاستجبت لي .
إن الشيطان يوم القيامة يقول : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }  ابراهيم  22,ما معنى « مصرخكم »؟ إنها مشتقة من « أصرخ » ، أي سمع صراخك فأغاثك وأنجدك ، فمصرخ : مغيث ومنجد ، والشيطان يعلن أنه لن يستطيع نجدة الإنسان ، ولا الإنسان بمستطيع أن ينجد الشيطان .
إذن ، فثقل النفس البشرية هو ما يوقع الإنسان في الهاوية دون أن يلقيه أحد فيها ، ولا إنقاذ للإنسان من الهاوية إلا بالاعتصام بحبل الله . كأن منهج الله هو الحبل الممدود إلينا ، فمن يعتصم به ينجو من الهاوية .
وما دمنا نعتصم بحبل الله وهو القرآن المنزل من خالقنا والسنة النبوية المطهرة ، وسبحانه يعلم كيد النفس لصاحبها - فلا بد أن يهدينا الله إلى الصراط المستقيم . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ  وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102آل عمران . . }
قوله تعالى:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} النحل 100الآية. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه, و نظيرها الاستثناء في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}الحجر42.
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ}سبأ20, وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}ابراهيم 22.
والجواب: هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه؛ وذلك من وجهين:
الأول: أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه, والسلطان المنفي هو سلطان الحجة, فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان, وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (19)المجادلة اسْتَحْوَذَ - استَوْلَى وَغَلَبَ عَلَى عُقُولِهِمْ واحاطها من كل مكان.
الثاني:أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة, ولكنهم هم الذين سلّطوه على أنفسهم بطاعته, ودخولهم في حزبه فلم يتسلط عليهم بقوة؛ لأن الله يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} النساء 76, وإنما تسلّط عليهم بإرادتهم واختيارهم, ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى.

جواد عبد المحسن - فلسطين
كتاب حديث رمضان - 10 


إرسال تعليق

0 تعليقات