(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)



(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)


                                                   ال عمران 139

قوله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) فهو نهي للمسلمين عن أسباب الفشل . والوهن : الضعف، وأصله ضعف الذات كالجسم في قوله تعالى ( ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي) ( مريم:4) والوهي شق في الأديم والثوب ونحوهما ومنه يقال وهت عزالي السحاب بمائهاتفتق منها الماء وانبثق ، قال : { وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ }(16)الحاقة  وكل شيء استرخى رباطه فقد وهي .

وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً ، والشَّجاعة جبناً ، واليقين شكّاً ، ولذلك نهوا عنه . وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار . والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة, فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الإعتقاد ، كما يُنهى عن النسيان ، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه ، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله : ( قد خلت من قبلكم سنن) (آل عمران  137) وعقب بقوله : ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).

وقوله : ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل ، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة والرتبة بما يحملون من عقيدة, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه" رواه الدارقطني من حديث عائذ المزني , وخاطب ربنا موسى فقال(قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى) (68)طه, وخاطب كل المسلمين فقال ( وانتم الاعلون).

والتعليق بالشرط فى قوله { إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } المراد منه التهييج لنفوسهم حتى يكون تمسكها بالإيمان أشد وأقوى ، إذ قد علم الله - تعالى - أنهم مؤمنون ، ولكنهم لما لاح عليهم الوهن والحزن بسبب ما أصابهم فى أحد صاروا بمنزلة من ضعف يقينه ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين حقا فاتركوا الوهن والحزن وجدوا فى قتال أعدائكم ، فإن سنة الله فى خلقه اقتضت أن تصيبوا من أعدائكم وأن تصابوا منهم إلا أن العاقبة ستكون لكم .

قال القرطبي في قوله تعالى : {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح ، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال {وَلا تَهِنُوا} أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم. {وَلا تَحْزَنُوا} على ظهورهم ، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة. { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي بصدق وَعْدِي. وقيل : "إن" بمعنى "إذ". قال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين ، يريد أن يعلو عليهم الجبل ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا يعلُنّ علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر" . فأنزل الله هذه الآيات. وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم ؛ فذلك قوله تعالى : {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} يعني الغالبين على الأعداء بعد أحد. فلم يخرجوا بعد ذلك عسكرا إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم ، وهذه البلدان كلها إنما افتتحت على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم بعد انقراضهم ما افتتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتتحون في ذلك الوقت"انتهى كلام القرطبي جزء 4 ص217,فقدكانت معارك المسلمين الفاصلة يقودها صحابي او تابعي اومن تابعي التابعين.

 وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة ؛ لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه ؛ لأنه قال لموسى : {إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} طه68 وقال لهذه الأمة : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} . وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي ، وقال للمؤمنين : {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .          

 (ويقول السيد طنطاوي في الوسيط) إن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا بل اعتبروا بمن سبقكم ولا تعودوا لما وقعتم فيه من أخطاء, فاوجب قوة القلب ، وصدق العزيمة ، والصمود فى وجه الأعداء ، والإصرار على قتالهم حتى تكون كلمة الله هى العليا .

فالآية الكريمة تحريض للمؤمنين على الجهاد والصبر ، وتشجيع على القتال وتسلية لهم عما أصابهم ، وبشارة بأن النصر فى النهاية سيكون حليفهم .

وقال الفخر الرازى : واعلم أن هذا من تمام قوله - تعالى - { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } فبين - تعالى - أن الذين يصيبهم من القرح لا يصح أن يزيل جدهم واجتهادهم فى جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك فى الحرب ، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى .

ويقول الشعراوي والمقصود بقوله : { وَلاَ تَهِنُوا } أي لا تضعفوا ، وهي أمر خاص بالمسألة البدنية؛ لأن الجراحات أنهكت الكثيرين في موقعة أُحُد لدرجة أن بعضهم أقعد ، ولدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر أن يصعد الجبل، وحمله طلحة بن عبيد الله على ظهره ليقوم ، لذلك قال الحق : { وَلاَ تَهِنُوا }، لأنك عندما تستحضر أنك مؤمن وأن الله لن يخلي بينك وبين جنود الباطل لأنك نصير للحق ، والحق من الله وهو الحق لا يسلم نبيه وقومه لأعدائهم فيوم تأتي لك هذه المعاني إياك أن تضعف .

 { وَلاَ تَحْزَنُوا } والحزن مواجيد قلبية ، وهم قد حزنوا فقد استشهد منهم كثير . مات منهم خمسة وسبعون شهيداً ، خمسة من المهاجرين ، وسبعون من الأنصار ، وهذه عملية صعبة وشاقة ، وقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء ، وغضب لمقتل حمزة - رضي الله عنه - وقال ابن عباس قال : لما وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على حمزة فنظر إلى ما به قال " لولا أن تحزن النساء ما غيبته ولتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطيور حتى يبعثه الله مما هنالك قال : وأحزنه ما رأى به فقال : لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين رجلا منهم" المعجم الكبير فأنزل الله عز و جل في ذلك { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }النحل 126.

فقال الحق : { وَلاَ تَحْزَنُوا } ؛ لماذا؟ لأنك يجب أن تقارن الحدث بالغاية من الحدث .

صحيح أن القتل صعب وإزهاق للنفس ، ولكن انظر إلى أين ذهب  وانظر ماذا خلف من بعده . أما هو فقد ذهب إلى حياة عند ربه وهي ليست كالحياة الدنيا . إن الحياة عندنا لها مقاييس ، والحياة عند ربنا لها مقاييس ، فهل مقاييسنا أعلى من مقاييسه؟ لا ، حاشا لله .

إذن فإذا نظرت إليه هو فاعلم أنه ذهب لخير مما ترك ، فلا تحزن عليه بل تفرح له؛ لأنه ما دامت الغاية ستصل إلى هذه المسألة . إذن فقد قصر له مسافة الحياة ، وما دامت الغاية أن يصل إلى رحمة الله وإلى حياة عند الله بكافة معانيها ، فهو سعيد بجوار ربه ، ونحن في الغايات الدنيوية عندما نريد أن نذهب إلى مكان نُسرّ ممن يعجل لنا الزمن لنصل إلى هذا المكان .

      فإذا كانت الغاية مرجوَّة ومحببّة إلى النفس ، وبعد ذلك يجيء لك حدث يقرب لك المسافة من الغاية ، فلماذا تحزن إذن؟ لقد استشهد . إياك أن تقول : إنّ الله حرمني قوته في نصرة الحق ، لا . هو أعطى قوة أخرى لكثير من خلقه نصر بهم الحق ، إنك عندما تعرف أن إنساناً باع نفسه لله ، لا بد أن تعرف أن الغاية عظيمة؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة بدر ، يقدم أهله؛ لأنه يعرف أنه إن قُتل واحد منهم إلى أين سيذهب ، إذن فهو يحب أهله ، لكنه يحبهم الحب الكبير ، والناس لم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ; بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول,ونفهم من هذه الآية امورا:-

1-  أخذ العبرة ممن هم خير منا فقد مر بنا خبر أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام الذين سخر منهم أقوامهم فما أثنتهم هذه السخرية عن المبدأ الذي قاموا من أجله والدين الذي أرسلوا به ,كلا لقد كان قوم نوح يسخرون منه وهو يصنع السفينة ، ويؤذونه بالهمز واللمز والضحك والإٍستهزاء فما زاده ذلك إلا مضياً في طريقه ، ويقيناً بوعد ربه له ، وقوم لوط كانوا يسخرون منه ومن طهارته هو ومن آمن معه ، ويتندرون بذلك قائلين : (( إنهم أناس يتطهرون )الاعراف 82 فما زاده ذلك إلا ثباتاً على الحق ويقيناً بأمر الله الذي وعده: (( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) هود 81 . ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما سخر به من سخر واشتد عليه أذى هؤلاء السفهاء خاطبه ربه بقوله (ولقداستهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون )) الأنعام 10 ، وقال تعالى : (( ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب) الرعد 32 .

2- انه واجب على المؤمن ان يدرك انه هو الأعلى قدراً وشرفاً ومنهجاً ومكانة وواجب عليه عدم موالاة الهازلين الساخرين المستهزئين ، فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا بالبراءة من هؤلاء الأعداء . قال ربنا - سبحانه وتعالى - : ((ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء وأتقوا الله إن كنتم مؤمنين )) المائدة  57 .

وإن من أكبر الرزايا التي ابتليت بها هذه الأمة اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، هم يعيبون ديننا ، وينتقصون نبينا صلى الله عليه وسلم ويهزأون بنا ، والسذج ممن لا خلاق لهم منا يتخذونهم أولياء  وأصدقاء ، وهذا الأمر لا يستقيم في منهج الله الحق الذي قدمت فيه البراءة من الكفر وأهله على الإيمان بالله وحده فقال ربنا  سبحانه  (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) البقرة 256 .

       وفي عصرنا الحاضر ما ترك أهل الكتاب وسيلة من وسائل الإستهزاء بالله وبدينه وبعباده المؤمنين إلا سلكوها ، وهذا واضح في أقوالهم وإعلامهم وخططهم  بل وحتى في منتجاتهم ، فحتى النعال يكتبون عليها اسم الله - تعالى الله وتقدس عن ذلك - وعلى الملابس الداخلية للرجال والنساء بل وصل بهم الحال إلى امتهان الآيات القرآنية وتمزيق القرآن في معسكراتهم.

 3-  الإعراض عنهم وعدم مجالستهم ، قال تعالى : ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ  الأنعام 68 -  , وهدد الله من يجالس هؤلاء الهازلين الساخرين إذا لم يبتعد ويقم عنهم فسيكون منهم ويعذب بعذابهم قال  تعالى  (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ) النساء : 140 .

       لقد كثر التساهل - مع الأسف - في هذه المسألة فرأينا من يتخذ الهازلين أولياء وجلساء وأصفياء وأخلاء ، بل يدافع عنهم ويذب عن أعراضهم ، وكأنه قد نسي قول الله تعالى ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً ) النساء:107، ويقول تعالى (ولا تكن للخائنين خصيماً ) النساء  105 .

إن على أهل الحق واليقين أن يربأوا بأنفسهم عن مجالسة الهازلين المستسخرين حتى يفوزوا برضاء رب العالمين ويحشروا تحت لواء سيد المرسلين .

 4-  الصدع بالحق اقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم فإنه لما كثر عليه الإستهزاء والسخرية ، قال الله له : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الحجر 94-95, أليست قريش هي القائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم  (( يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين )) الحجر: 6 - 7 .

5- كل ذلك حصل فما زاد نبي الله - صلوات الله وسلامه عليه - إلا مُضيّاً في طريق الحق ، والذين يتصدون للدعوة ثم تردهم كلمة ساخرة ، أو غمزة ساقطة ، ليسوا أهلاً لتحمل اعباء هذه الدعوة ، فإن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان وكفى ، وإنما هو حقيقة كبرى لها تكاليفها وأمانتها وأعباؤها وجهادها. فمن ردته السخرية أو ثنت عزمه وسائل الإستهزاء فيجب عليه التنحى عن الطريق ، وليترك الأمر لمن هم له أهل.

 

حديث رمضان 11


جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات