الاستعلاء بالحق



الاستعلاء بالحق


     ان هناك اخلاقا ممدوحة واخرى مذمومة بالوصف البشري فالتواضع ممدوح والاستعلاء مذموم وكذلك الكرم والبخل والشجاعة والجبن لكونها صفات مكتسبة وكل ذلك ضمن الدائرة البشرية بغض النظر عن أي اعتبار آخر,ولكننا كمسلمين لا يمكن لنا ان نتغاضى عن أي امر او نهي خاطبنا الله به,وهذه الآية داخلة ضمن هذا الخطاب فنتخلق بهذه الاخلاق طاعة لله عز وجل, فأول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد المتمثلة في القتال, ويقول سيد قطب "ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة ، بكل ملابساتها الكثيرة,اذ إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن في تصوره وتقديره للأشياء وللافعال والأحداث والقيم والأشخاص على السواء .

إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء ، وكل وضع ، وكل قيمة ، وكل أحد ،انه الاستعلاء بالإيمان وقيمه وفضله وعلوه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان  ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)آل عمران139، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل ، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة والرتبة بما يحملون من عقيدة, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ("الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه" رواه الدارقطني من حديث عائذ المزني,وخاطب ربنا موسى فقال(قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى) (68)طه, وخاطب كل المسلمين فقال( وانتم الاعلون).

يقول سيد قطب رحمه الله "انه استعلاء المؤمن بما يحمل من عقيدة على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان . وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان . وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان . وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان ، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان .

انه الاستعلاء المطلوب شرعا بغض النظر عن ضعف القوة ، وقلة العدد ،وغياب الظهير, وفقر المال ، وهو ذاته الاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء ,فلا يتأثر ضعفا او قوة تبعا لحال او وضع, الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل ، ولا نظام مقبول عند الناس بغير سند له من الشرع,وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم .

ان الاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة ، ولا نخوة دافعة ، ولا حماسة فائرة في لحظة اندفاع ، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المتركز في قلب المؤمن اعتقادا بكونه الحق الباقي وراء منطق القوة ، وتصور البيئة ، واصطلاح المجتمع ، وتعارف الناس ، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت فيستمد العزة والمنعة والقوة منه",فلا يصح للمؤمن ان يضع نفسه ندا لغير المؤمن لتميزه وفضله وعلوه بايمانه وانه حامل مشعل الهدى لكل الناس ,وان رضاه بندية غيره له من غير المؤمنين هو تنازل منه بل خلل لا بد من تصويبه وصدق الشاعر:-

   لم تر ان السيف ينقص قدره     اذا قلت ان السيف خير من العصا

ويتابع "إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل  على من ليس يحتمي منه بركن ركين ، وعلى من يواجهه بلا سند متين  فان للتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤهما وضغطهما الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار ، واستمداد القوة الدافعة من مصدر أعلى من مصدرها الدنيوي المادي وأكبر وأقوى,والذي يقف في وجه المجتمع ، ومنطقه السائد ، وعرفه العام  وقيمه واعتباراته ، وأفكاره وتصوراته وانحرافاته ونزواته,حتى لا يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن ، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس وأثبت من الأرض ، والله لا يترك المؤمن وحيداً يواجه الضغط ، وينوء بالثقل ، ويهدّه الوهن والحزن ، ومن هنا يجيء هذا التوجيه (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)آل عمران 139 وقوله : (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)  محمد : 35 تذكيراً بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة ، ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حبّ إبقاء المال الذي ينفَق في الغزو او الركون الى الدنيا وزينتها، فذُكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نُهُوا عنه وعن الدعاء إلى السلم وانهم ما وجدوا في هذه الحياة الا من اجل امر جلل صاغهم الله ليحملوه ويتحملوا تبعاته" والشعر بيان:-

        وحبّ الفتى طول الحياة يذله      وإن كان فيه نخوة وعِزَام

ان انكار الحقيقة لا يعني عدم وجودها وان حاول البعض ان لا يلتزم بها مبررا ذلك بضرورة مسايرة العصر والحداثة وتجديد الفكر الديني ورفع شعارات الكافر طلبا لرضاه او اخذ حسن سلوك منه,فالحقيقة بكل بساطة اننا مخلوقون لخالق واجب الطاعة في كل امر,وما نراه ونعيشه ونسمعه ما هو الا معارك وهمية يخوضها اللاهثون للفت في عضد الامة لمحاولة حرفها عن طريقها لترفع راية بيضاء مستسلمة لافكار الكافر وطراز عيشه واننا لا نستطيع مطلقا مجاراته او الانتصار عليه فكان هذا التوجيه, ليواجه الوهن كما يواجه الحزن فانهما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام حين تأخر النصر وثقل الاعباء, يواجههما حامل الدعوة بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات وتجرع المرار، فالاستعلاء بالنسبة للمؤمن انه ينظر الى الواقع مترفعا عنه وعن القيم السائدة في المجتمع، والتصورات الشائعة ، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات والجماهير المتجمعة على واقع لا يرضى عنه الله ورسوله, فهذا الواقع محل عمله ليصيغه ويبنيه وفق عقيدته.

إن المؤمن هو الأعلى .. الأعلى سنداً ومصدراً فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى ، هي بذاتها موحية بالرفعة والنقاء والطهارة والعفة والتقوى ، والعمل الصالح والعمل الجاد للخلافة الراشدة واستئناف الحياة الاسلامية بكل تفصيلاتها .

 فضلاً عن الجزاء في الآخرة ,الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعاً ويطمئن إليه المؤمن ، ولو خرج من الدنيا بغير نصيب فما تكون الأرض كلها وما تكون القيم السائدة في الأرض والاعتبارات الشائعة عند الناس,فغايته نيل رضوان ربه ويهون كل امر لتحقيق هذه الغاية.

لقد كان الفارق هائلا جدا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفرس ومع الرومان، وهم صفر اليدين من الوسائل المادية أو يكادون ولكن ذلك الفارق الهائل لم يستوقفهم لحظة واحدة ليفكروا فيه كما قال غيرهم(لا طاقة اليوم لنا بجالوت وجنوده)البقرة 249بل كان هدفهم واضح نصر او استشهاد,وما فت في عضدهم لا كثرة الروم ولا فيلة الفرس,لقد كانت الصورةُ الذهنية المرسومة للعرب كما يصفها ( ول ديورانت ) في كتابه قصة الحضارة جـ 12 ص 46 ( وكان في غرب بلادهم العرب ، ومعظمهم من البدو الفقراء ، ولو أن إنساناً في ذلك الوقت قد قال إن أولئك الأقوام الرُّحل الواجمين قد كُتب لهم أن يستولوا على نصف الإمبراطورية الرومانية وعلى بلاد الفرس كلها لسخر من قوله هذا أحكم الساسةِ وأنفذهم بصيرة ) .

  لقد لامست العقيدة الإسلامية شغاف قلوب هؤلاء بل وسكنت فيها فاطمئنت هذه القلوب ، بل وأدركت سبب وجودها في هذه الحياةِ الدنيا عندما قرأت وتلت {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك2 ، وقرأت وتلت { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } العنكبوت64 .

  لقد فجرت هذه العقيدة الطاقات الكامنة عند عبد الله بن مسعود الذي كانت الرياح تذرو ساقيه فجعلتهما اثقل من الجبال وأصلب ، وجعلت سُمَّية أول شهيدةٍ في الإسلام تحتسب الطعنة في قلبها في سبيل الله توصلها إلى الجنةِ وجعلت آل ياسر يفهمون رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم  ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )

  إنها وان فجرت الصبر على الأذى فإنها قد فجرت التحدي لكل مخالف دون وجل أو خوف ( وأن تقول الحق أينما كان لا تخاف في الله لومة لائم ) وهذا ما قالوه عند بيعة العقبة الثانية بعد ما قيل لهم أتدرون عَلامَ تبايعون

 فانه هو من الله يتلقى ، وإلى الله يرجع ، وعلى منهجه يسير,وهذه صورة واحدة من صور عزته:فقد وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية :

" أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة . ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد . وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه . فقالوا له : ضع سلاحك فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها . فقال له رستم : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .

ان من المبادئ التي وجه إليها الإسلام أتباعه هو أن لا يقبل المسلم الذلة والهوان بعد أن أعزه الله ، وأن لا يعيش في الأرض وهو خليفة الله فيها وهو منكس الرأس مستعبدٌ للغير، وقد وصله الله بمعيته كما قال تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت: 69 وجعل له العزة في العالمين كما قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران: 139، وجعل رزقه وأجله بيده لئلا يطأطئ رأسه لمخلوق قال تعالى:( فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) العنكبوت: 17، وقال أيضا: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات: 58.

حديث رمضان 11

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات