النجاح والفشل


النجاح والفشل


إن أفعال الإنسان مهما تنوعت وتعددت لا تخرج عن إطار إشباع حاجاته العضوية وغرائزه بوصفة إنسان, وهذه الأفعال يقوم بها الإنسان لأجل الوصول لغاية وضعها لنفسه أو وضعت من قبل غيره فآمن بها واعتقدها, وأما أفعال العبث فليست هي موضع البحث ، وإنما الأفعال التي تحقق النتائج أو التي توصل للغايات هي موضع البحث.

لقد كان من جراء وجود العلاقات بين المجتمعات البشرية أن وصفت أفعال بعينها بالمدح وكذلك أفعال أخرى وصفت بالذم, وكانت هذه الأوصاف نتيجة أعراف تواضع عليها البشر من ناحية أنها موافقة للفطرة البشرية كالظلم والعدل أو مخالفة لها ، أو من واقعها فوصف الصدق ممدوح والكذب مذموم والشجاعة ممدوحة والجبن مذموم. ووصف كل فعل يحقق غاية بأنه ناجح وكل فعل لا يحقق الغاية بأنه فاشل ، فعزي وصف نتيجة الفعل بالفشل والنجاح بتحقق الغاية أو عدم تحققها بغض النظر عن الأفعال لعدم وجود قاعدة تضبط هذه الأفعال .

لقد كان ظهور الإسلام الحد الفاصل بين العقل والشرع وأعني بذلك ما هو عقلي وما هو شرعي من ناحية وصف الأفعال ومن ناحية التقييد الشرعي تجاهها بـإفعل أو لا تفعل أو ما ترك على التخيير بين الفعل والترك واستبعد الوصف ( العقلي ) وأعني به الهوى وإتباعه بوصف الأفعال بالمدح أو الذم بناء عليه كقوله (انصر أخاك ظالماً أو مظلوما )الجمع بين الصحيحين و( ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه حين الغضب )جامع العلوم والحكم ، أو وصف نتائجها بالفشل أو النجاح ، وجعل الانتقال من الإحساس إلى الفعل دون عقله مذموم شرعاً, وفعل من أفعال الجاهلية ,وضبط الاسلام كل أفعال الإنسان ضمن القاعدة الواحدة .

إن وصف الأفعال بالخير أو بالشر لا يأتي من ذات الأفعال لأنها مجرد أفعال فقط ، بل يأتي وصفها بالخير والشر والمدح أو الذم بناء على اعتبارات خارجة عن ذات الأفعال ، فالمسلم الذي يؤمن بالله ورسوله وبالشريعة التي تبين أوامر الله ونواهيه وتنظم علاقته بربه وبنفسه وبغيره توصف أفعاله بالخير أو بالشر بناءً على تقيده بعقيدته وما انبثق عنها من مفاهيم تحدد الغاية التي يهدف إليها المسلم وهي نوال رضوان الله عز وجل فيكون لأفعاله مقياس محدد من الله عز وجل, ليس لعبادته فقط وإنما لكل فعل يفعله تجاه نفسه أو غيره أو تجاه ربه وهذا المقياس يستغرق كل الأفعال والعلاقات ولادخل للعقل في هذا الامر.

لا بد أن يكون للعمل قصد وغاية وطريقة للوصول لهذه الغاية وكلها يجب أن تتحدد قبل القيام بالعمل ، ويضاف إليها متعلقاتها حتى يظل العمل ضمن دائرة طاعة الله بأن تدرك الصلة بالله حين القيام بالعمل سواء كان فرض عين كالصلاة والزكاة والحج وحمل الدعوة أو كان فرضا على الكفاية او مندوباً ال مباحا كالتجارة  والصناعة ورطوبة العلاقة مع الغير, فالقصد لتحقيق قيمة عينها الشرع وأباحها وفرضها أو ندبها لا ينفصل مطلقاً عن طريق طلب تحقيق هذه القيمة فلا يطلب رضى الله بالمعصية. فكيفية الوصول معينة من الشرع والفكرة لا تنفصل عن طريقتها .

إن الهم لا ينصب فقط على الغاية ويغض النظر عن طريقة الوصول لها بل لا بد أن يكون كل فعل دق أو جل من أفعال المسلم موافق لأمر الله ونهيه فالغاية وإن كانت مهمة وسامية فان الالتزام بالأمر والنهي مهم وسام أيضا كأهمية الغاية ، ولا يقال بأن الغاية تبرر الوسيلة ، فالغاية وإن كنا نتوق لبلوغها فإننا ملتزمون بما حدد الله لنا من أفعال ووصفها بالمدح والذم, فتعين لنا ميزان من الله لهذه الأفعال وميزان الله ثابت, والأفعال لا يتغير وصفها تبعاً للغاية فتبررها حيناً ولا تبررها أحيانا أخرى تبعاً لهوى أو لمصلحة أو لمراعاة ظروف وقوة وضعف,فالمكروه مكروه بغض النظر عن نتائجه والحرام كذلك .

إن الحكم على الأفعال لا يكون بناءً على نتائجها بل يكون بالحكم على نفس الأفعال من كونها موافقة لأمر الله عز وجل أو مخالفة. فالطاعة هي موافقة امر الآمر فيما أمر فلا توصف الأفعال بالنجاح أو الفشل بناءً على نتائجها, فالمسلم الذي أطاع الله بفعله ووقف عند حده وجاءت النتيجة بعكس غايته التي حددها فلا يوصف فعله بأنه فاشل ، لأن النتيجة لا تتعلق بفعله هو بل تتعلق بأفعال الغير ورد فعلهم وتقبلهم أو عدمه لفكرته, ومثاله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عرض نفسه على القبائل لينصروه ولقد اخذ بالأسباب (واينا ياخذ بالاسباب مثله) وذهب إلى الطائف ودعاهم وبين لهم الحق بياناً لا لبس فيه ولا غموض فكان رد فعلهم هو النتيجة فلا يوصف هذا العمل بالفشل مطلقاً .

إن المسؤولية أمام الله عز وجل فيما يتعلق بإبراء الذمة هي طاعته فيما أمر والتزام نهجه في العسر واليسر وإبراء الذمة يتعلق بالفعل ولا يتعلق بالنتيجة ولو تعلق إبراء الذمة بالنتيجة لكان هذا الأمر تكليفنا ما لا نطيق وحاشا لله أن يكلفنا هذا ومثاله أننا كحملة دعوة حين نقوم بالأعمال ضمن دائرة طاقتنا البشرية نترسم خطى المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ولا نسأل عن النتائج أوافقت ما نصبوا إليه أم أتت مخالفة, فالنتائج متباينة في واقعها وقد تعلقت بردود أفعال أدت إلى نتيجة ومن المغالطة أن نحكم عليها آنيا لان واقعها يختلف عن كنهها وما سوف يحدث في المستقبل وذلك كالحكم على الأمر من أول طرقة ليس كالحكم عليه بعد تتالي الطرق وعدم الكسل عن الطرق فالأثر إن لم يحدث اليوم بالصبر والثبات ودوام الفعل سيحدث غدا لأن وعد الله متحقق قطعاً بالنصر والتمكين .

إن الغاية تختلف عن النتيجة, فالنتيجة ليست غاية فالقصد من العمل ليس تحقيق نتيجة بل هو تحقيق قيمة ... وتحقيق القيمة عبارة عن بلوغ غاية تعينت قبل القيام بالعمل عبر طريقها الشرعي للوصول, ومثاله أن الحصن لا يفتح والعدو لا يرد بقراءة القرآن ولا بقراءة البخاري ومسلم. مع أن قراءة القرآن مطلوبة إلا أنها ليست الطريق الشرعي لبلوغ الغاية ..... فإن فعل وقرأ فإن النتيجة حاصلة, فرد الفعل هو نتيجة للفعل وليس غاية له .

إن المسلم قد ادرك أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الوجود ودبره بنظام محكم يقوم على ارتباط النتائج بأسبابها وأنها لا تتخلف إلا إذا كان سبحانه فعل ذلك كمعجزة لأحد الأنبياء, وأما نظام الوجود, فسنة الله في خلقه هي ارتباط النتائج بأسبابها ، ومثاله أن لا نصر في المعركة دون الأخذ بأسبابه من الإعداد المادي والروحي ، ولا نجاح في الامتحان دون دراسة جادة ولا إنتاجا زراعياً وغيره إلا بالعناية الزراعية .... ففهم القضاء والقدر يوضح للإنسان أن الحياة مفتوحة أمامه بجميع مجالاتها وأنها كلها نتائج رتبها الخالق بقدرته على أسبابها .... وأي تقاعس عن الأخذ بالأسباب يعني وجود مخالفة وكذلك أي انحراف عن الطريق .

إن الإخفاق المتكرر يوجد في النفس البشرية إحساسا عميقاً بالأسى بوصفه كائناً بشرياً يحب ويكره ويرضى ويغضب حين يحمل الخير للغير ويقابل بالصد وغلظة الجواب وكل ما يدور في دائرة الرفض, فكان لا بد له أن يسأل نفسه لماذا ؟؟؟؟ ولا بد له أن يتفقد موضعه وموقعه ودقة سيره على نهجه فإن وجد انحرافا آب والتزم وإلا فإن الأمر قضاء من الله وكل أفعاله ممدوحة من الله ولا توصف بالفاشلة ، ومثل هذه الأمور لا تفت في عضد المسلم المصمم على السير في طريق طاعة الله ولا يؤثر في الحق الذي يحمله بل يزيده عزما وثقة بأن الله عز وجل ناصره ومؤيده وأسوته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وأن الخيرية في هذه الأمة باقية وعمله فيها واجب عليه لإنهاضها,, فلا يجوز أن يوصف أي عمل يقوم به بأنه عمل فاشل.

وكذلك صراعه الفكري وكفاحه السياسي عبر صدامه مع الكافر وأعوانه ومخططاته لكشفها, وان الكافر يحاول وضع الأمة في ظروف مقصودة مصنوعة لإيصالها إلى مرحلة تفقد رجاءها وثقتها, وتصل إلى حاله من الياس والاستسلام ليسهل التحكم فيها وتمرير كل ما يريده عليها دون أن تحرك ساكناً بعد تبلد إحساسها وبعد أن تفقد كل رجاء وحيوية ،وان واجبه تجاه الامة وضخ الحيوية والعزم فيها لا يقل اهمية عن صراعه مع الكافر .

إن عمل حملة الدعوة ليست لمجرد العمل ، ولا لمجرد حمل الدعوة حتى يقال إنه يجب الاستمرار بالحمل والعمل قياماً بالواجب ، وهو مجرد عمل ومجرد حمل دعوة سواء أثمر العمل وحمل الدعوة أم لم يثمر .... لا ليس الامر كذلك ، بل إن العمل وحمل الدعوة واجب لتحقيق غرض معين وبلوغ غاية هي استئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة إلى العالم عن طريق إقامة الخلافة .... وليس إقامة الخلافة هو نهاية المطاف ، لان إقامة الخلافة ليست هي الغاية ، وإنما هي الطريقة الشرعية لتطبيق الإسلام حتى يعيش الناس حياة إسلامية .... والعمل في الأمة حتى تتبلور أذواقهم على الحضارة الإسلامية وتكون أحكام الإسلام ومفاهيمه وأفكاره قريبة منهم وغير غريبة عنهم .... ولذلك فإن العمل ليس لمجرد إقامة الخلافة حتى يقال بأنه يجب أن ينصب كل الهم والجهد الآن لإيجاد أهل النصرة وإنما العمل المهم في الأمة لتحمل الإسلام حملا فكريا بدوام سقيها بهذه الأفكار حتى يصير مفهوم الخلافة والحكم بالإسلام مطلب الناس وهمهم.

إن تطبيق الإسلام سيتصادم مع كثير من مصالح الناس الآنية مع ما أوجده الكافر من أفكار ، ولذلك إذا لم يؤمنوا بالإسلام كما نؤمن ويصدقوا به كما نصدق ويدركوه كما ندركه ويستعدوا للرضوخ له وحمايته كما نستعد سيلقى تطبيق الإسلام صعوبة عند الناس ... وهذا واجبنا ومسؤوليتنا حتى إذا جاء نصر الله وجد له بيتاً يأوي إليه ووجد عند البيت حراساً يحرسونه .

فلا توصف أفعالنا حين تحقق الغاية بأنها ناجحة كما لا توصف حين عدم تحققها بأنها فاشلة ..... لأنها في كل الأحوال كانت أعمالا شرعية لبلوغ غاية شرعية بالطريقة الشرعية, وأما وصف النتائج من حيث واقعها فأمر آخر مع التأكيد أن وصفي النجاح والفشل ليسا ذماً أو مدحاً وإنما هما وصف واقع، والزمن ليس حكما على النجاح أو الفشل , بل دوام العمل الدءوب لبلوغ للغاية ,ومثاله رسول الله نوح فقد لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً ما كل ولا مل وما كسل وما توانى ، وكل أفعاله في هذه السنوات الطوال وتكذيب قومه ما فتت من عزيمته وما اضعفت من قوته ، والأمر الآخر رسول الله يونس أرسله الله إلى مئة ألف أو يزيدون فأمنوا فمتعناهم إلى حين فلا يقال بأن يونس قد نجح وإن نوحا قد فشل . 

 
حديث رمضان 11
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات