التدبر لكتاب الله

{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29

أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعاً لقوله تعالى ( فأنظروا إلى آثار رحمة الله  و ( قل أنظروا ماذا في السماوات والأرض) والأمر هاهنا للوجوب لقوله ( حين نزلت آية ( إن في خلق السماوات والأرض وأختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب ( الآية : (( ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها )) فإنه ( أوعد بترك الفكر في دلائل معرفة الله تعالى ، ولا وعيد على ترك غير الواجب  وهي لا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أيضاً كوجوبه . وفي صحيح ابن حبان لما نزل في آل عمران " { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } " الآيات قال - صلى الله عليه وسلم - : " « ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن ، ويل له ، ويل له » " .
التدبر ورد بالقرآن بعدة مواضع وفي عدة مواضيع من آيات الله جل وعلا، والتدبر هو التأمل والتفكر والنظر في مآلات الآيات ودلالتها وآثارها، وهو في الحقيقة استخدام للعقل والفكر أثناء الاستماع او النظر اوالقراءة ليتواطأ اللسان والعين والاذن مع القلب لعقل الامر و التفكيرفيه, وبهذا نصل إلى الغايات التي من أجلها ورد الخطاب.
ان التفسير خاصٌ بالعلماء،و معرفة أحكام الآيات والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفصل والمبين وغير ذلك من أحكام القرآن التي اختص بها العلماء وبينوها، أما التفكر فهو ارتباط مباشر بين تلاوة الآية ودلالتها وآثارها دون دخول لتفاصيل الأحكام وغايتها، لأن الله جل وعلا سماه قرآن بلسان عربي مبين أي نصل إلى هذا البيان من خلال القراءة لمن يدرك لغة العرب.
أما استغلال مواسم المناسبات كرمضان والأيام الفاضلة في قراءة القرآن فكان السلف يفعلون ذلك حتى أن بعضهم كان يختم القرآن في كل يوم استثماراً لهذه الفرصة الثمينة في التلاوة وكسب الأجر، لكن هذا لا يعد تدبرا لأن القراءة المتأنية لم تحصل في حال القراءة المتعجلة وان حصل ثوابها في قوله تعالى{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}[ص:29] ولذلك كما في حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة كاملة بآية واحدة {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]يكرر هذه الآية في كل ركعة حتى انتهى قيام الليل مما يدل على أنه يتبين له من المعاني والآثار.
وكذلك أحاديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره من الأحاديث عندما يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فيقول حسبك حسبك فإذا عيناه تذرفان، وبعض السلف كانت له قراءتان قراءة للتلاوة وللحصول على الأجر ولختم القرآن وتلاوة للتدبر لأن تلاوة التدبر تحتاج إلى توقف وتأمل وإلى نظر وتحتاج إلى إعادة وهكذا فيختلف التدبر عن مجرد التلاوة التي لأجل الأجر أما أن يقرأ الإنسان من أجل التلاوة فقط فقدعاتب الله أهل الكتاب فقال عنهم عز وجل {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ}[البقرة:78] قال القرطبي رحمه الله والأماني جمع أمنية وهي التلاوة ، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة ، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية ، ومنه قوله تعالى : {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج : 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك :
           تمنى كتاب الله أول ليله          وآخره لاقى حمام المقادر

حكم القراءة السريعة للقرآن الكريم
لا تعارض بين أن يكون للإنسان قراءتان وخاصة الحفاظ حتى لا ينسوا أو لاستغلال مواسم الطاعات في رمضان أو في الأيام الفاضلة أو في الأماكن الفاضلة التي يعظم بها الأجر ، فهنا يكثر من القراءة ويسرع بها حتى روي أن الشافعي كان يختمه في كل يوم مرتين في رمضان وروي أن عثمان رضي الله عنه انه كان يقرأ القرآن في ليلة,وهذا كله استثمار لمواسم الطاعات.
اننا حين نتحدث عن القراءة وعن التدبر وعن العمل فلا يمكن ان يحصل تدبر بدون قراءة ولا عمل بدون تدبر القراءة, وهي التلاوة في قول الله{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ}[العنكبوت:45] فاتلوا ما أوحي إليك هذه تلاوة التدبر وهو ما نحن بصدده وهو التفكر والتأمل والنظر في المآلات والاعتبار والتبصر والخوف والرجاء وكلها قضايا تصاحب إيمانية التدبر, أي الفهم المراد من النص في هذه الآية, والعمل يأتي بعد ذلك, فلا تستطيع أن تعمل عملاً دون أن تفهم المراد وحتى في طبع البشر عندما يأمر رئيس مرؤوس بأمر, إن لم يكن فهم أمره لا يستطيع أن ينفذه تنفيذا صحيحاً ولذلك قال الله جل وعلا {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}[ص:29] وماذا قال بعده؟ {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29] فالتذكر يكون بعد التدبر والتذكر هو العمل, إذن فهي مرتبة ترتيباً ربانياً تلاوة يتلوها و بعد ذلك تدبر مصاحب لها ثم يكون العمل بعد ذلك لكن لا يمكن أن يكون العمل بلا تدبر ولا يمكن أن يكون تدبر دون قراءة وامعان نظر، فقد يتلو الإنسان دون تدبر وقد يتدبر الإنسان دون عمل وقد يحصل عنده كل ذلك ومع ذلك يخالف اتباعا للهوى.
وهنا لا بد من طرح قضية مهمة نقع فيها جميعا الا من رحم الله وهي الانتقال السريع من مشاهدة الواقع الى العمل مباشرة دون اعمال عقل او تدبر فالذي يرى ولده يضرب يهجم ويحاول ان يدافع عنه دون ان يسأل امخطىء ولده او مصيب, وهذه المشكلة النكدة التي وقعت بالأمة مع كل أسف,تحركهم المشاعر يطبلون للقادم دون اعمال عقل ويشتمون الراحل دون تدبر.
ان القضية ليست قراءة للقرآن فقط وانما هي تدبر فقد قال الله عن المنافقين {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] فلم يقل أفلا يقرؤون القرآن لأنه ثبت أن بعض المنافقين يقرؤون القرآن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (عن أنس بن مالك أن أبا موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولاريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها )قال الشيخ الألباني : صحيح) إذن أثبت لهم قراءة وهم يقرؤون القرآن والله جل وعلا لم يستثن أحد من المنافقين فليس هناك استثناء بالنسبة لهم الا في موضوع التدبر لأنهم لا يتدبرون {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] أي كأن القلب مقفل تماماً وكذلك {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا  كَثِيرًا}[النساء:82] ويقول عن الكفار {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}[المؤمنون:68] وكل هذا يؤكد أهمية التدبر ولذلك أثنى الله جل وعلا على آداب أهل الكتاب {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}[البقرة:121].
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}[البقرة:121] يعني مؤمني أهل الكتاب يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم. قال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود قال: والله إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأ حق قراءته كما أنزل الله تعالى، ولا يحرَّف عن مواضعه. ويقال: يقرؤونه حق قراءته. { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } ، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقونه. أي يتدبرونه ويعملون به, فحق التلاوة هو التدبر ثم العمل, فبدون تدبر القرآن لا نصل إلى المقصود، ويكون هذا القرآن كما هو في واقع كثير من المسلمين انه مجرد كتاب للبركة مع أنه بلا شك كتاب مبارك، لا نشك في ذلك لكن مع كل أسف في واقع الأمة اقتصروا على هذا الجانب بل أنه وصل مع كل أسف إلى أنه لا يقرأ الا عند الأموات أو في مناسبات افتتاح الحفلات أو غيرها ونسوا لماذا أنزل هذا القرآن, فتكمن أهمية التدبر أنه ينقلنا بعد التلاوة إلى التدبر والتفكيرثم إلى العمل لتحيا به الأمة من أجل أن القرآن حياة.

في قول الله جل وعلا {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف:146] يعني ان هناك صوارف فالمنافقون لما فقدوا الإيمان أصبحوا لا يتدبرون القرآن لأن القلب أسود، والقلب الكافر بالنسبة لهم حال بينهم وبين أن يتدبروا القرآن فالصوارف كثيرةٌ جداً فالظلم والكبر والتجبر على الناس ، هذه صوارف يصعب أن يتدبر الإنسان معها, فتحول بينه وبين تدبر القرآن لأن تدبر القرآن هو إعمال الفكر والتأمل والنظر في آية القرآن.

جواد عبد المحسن
حديث رمضان - 12

إرسال تعليق

0 تعليقات