التغيير
والإصلاح وما يحدث في البلدان الثائرة
أولا: التغيير والإصلاح
لغة واصطلاحا:
التغيير لغة من غير الشيء أي حوله، وجعله غير ما كان, وقد وردت في القرآن
الكريم في أربعة مواضع هي :
1. قوله تعالى :{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ
مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (الرعد:11).
2. قوله تعالى على لسان إبليس: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللّهِ} (النساء:119).
3. قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال:53).
4. قوله تعالى:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ
مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} (محمد:15).
ويلاحظ ان استعمال القرآن الكريم لكلمة التغيير
أنماط لا تربط بالتحول من السيء إلى الحسن، بل قد يكون العكس، فأي تحول أو جعل السيء
على غير ما كان هو تغيير، فالله تعالى لا يغير ما بقوم إلى الأحسن حتى يغيروا أنفسهم
إلى الأحسن، والعكس صحيح أيضا ويعد من دلالات الآيتين من سورة الرعد والأنفال.
أما الإصلاح لغة فهو: من أصلح ضد أفسد، فالإصلاح
ضد الإفساد، وقد وردت مادة أصلح في القرآن الكريم اثنين وأربعين مرة منها ما يلي:
1. قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي
قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف:142).
2. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} (الحجرات:10).
3. قوله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} البقرة:182).
4. قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} الأعراف:35).
5. قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}
(الأعراف:56).
6. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117) .هذه المواضع وغيرها تبين أن الإصلاح لا يكون
إلا تحسينا لوضع فاسد، وتغييرا إلى الحسن دائما.
أن هذا التغيير يقصد به إصلاح الأوضاع الفاسدة في
الأمة الإسلامية والعالم أجمع، لكن إن استخدمنا مصطلح الإصلاح كان أدق وأكثر دلالة
على المراد بلفظه, وبهذا يمكن أن نحدد الإصلاح اصطلاحا بأنه كل تغيير إلى الأحسن سواء
كان للفرد أو الأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الأمة.
من المؤكد أن التغيير والاصلاح للمجتمعات والامم
لا تحدث بطرق عشوائية ، او وفق اعتبارات الامانى والاحلام والعواطف الهائجة ,وإنما
يستند تغيير واقع الامة الى مبداها الذي وحدها وجعلها متميزة عن غيرها من الامم , يقول
المستشرق الألماني سبرنجر (أضواء على التاريخ الاسلامي ص146) (لم تكن فيما مضى أمة
من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم الاسماء
والرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة
ألف رجل وشؤونهم) وقال الامام مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة
إلا بما صلح أولها"وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفارا
يضرب بعضكم رقاب بعض » ، رواه البخاري ومسلم.
فإنَّ الذي وقع الآن على أرض تُونُس، ويقع على أرض
مِصْروليبيا واليمن وسوريا ، ورُبَّما طال بعض البلاد الإسلاميَّة الأخرى، لَهُو أمر
حَتْم، وكان ولا بُدَّ، نعَم؛ لأنَّ تأريخ العالَمِ الإسلاميِّ والعربي مُشْرقٌ مضيء،
فحضارتنا الإسلاميَّة إنَّما قامت على الإسلامُ بِشُروق شمسه وشريعته، ببعثة النبيِّ
الهادي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولما أنْ تَخلَّفت الأُمَّة الإسلاميَّة اليوم بِبُعدها
عن مصدر سعادَتِها، ومنبع هدايتها، وقَع عليها مِن ألوان الذُّل والاستعمار والقهْرِ
الكثيرُ والكثير، فقد قال تعالى ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ طه 124 -
123.
فالمتأمِّل بنظرةٍ ثاقبة إلى الواقع المعاصر في
العالَمِ الإسلاميِّ والعربي، يرى بِوُضوحٍ أنَّ كل"الحكومات" و"الأنظمة"
و"الأحزاب" التي تَحْكم شعوبَه إنَّما هي أنظمة مُوالِيَةٌ للغَرْب وتدين
بالعلمانيَّة، وهي تستمدُّ قوَّتَها في إنشاء القوانين والدساتير من أصولِ العلمانيَّة
الغربية، وليس من منهج الإسلام وشريعته.
إنَّ العلمانية تَعْني: فَصْل الدِّين عن الحياة،
فَصْلَ المخلوق عن منهج خالقه ومعبوده، فلا دَخْلَ للدِّين في شؤُون الإنسان، لا في
مأكله وملبسه، ولا في اقتصادِه وحُكْمِه وسياسته، فلا يقول الدِّين للإنسان: هذا حلالٌ،
وهذا حرام، ولا يقول أيضًا: هذا شِرْك، وهذا إيمان، فالعلمانية في إيجاز هي: اللاَّ
دين، وكما قال قائلهم: "دَعْ ما لِقَيصر لقيصر، وما للهِ لله"فالعلمانية
تَعْني: الطَّعن في الشريعة الإسلامية، وأنَّها شريعةٌ بالِيَة، ذاتُ طقوس وشعائر لا
تُمارَس إلاَّ في دُور العبادة.وهي تعني: إحياءَ الوثنيَّات القديمة، كالفِرْعونيَّة
وغيرها، وشَغْلَ الأجيال بتعظيم هذا التُّراث البائد، ودَعْم المُؤَسَّسات ودُور الثَّقافة؛
لإحياء الجاهلية من جديد والوقوفَ أمام تَحْكيم الشريعة الإسلامية و تَعْمل على هَدْم
العلاقة بين الخالق والمخلوق، وبين العبد والمعبود .
لقد قدَّمَت العلمانيَّةُ للبلاد الإسلامية والعربيَّة،
بعد حكمها هذه السنوات الطويلة حصادا مرا وما حصدت الامة إلاَّ ضياع الهدف ، وفساد
الأخلاق وانْحِلالها ووقعت الأُمَّة كذلك فريسة للتعامُل الرِّبَويِّ وإعلان الفوائد
المحرَّمة، والإسهام في البورصات العالَميَّة والاستثمارية، فما حصدَتْ إلاَّ انتشارَ
الفقْرِ والبطالة بين الأجيال المتلاحقة، وما حصدَت إلاَّ انتشارَ الفساد الاقتصادي،
والسَّرقة المُعْلَنة في مقدَّرات الأُمَّة وثرواتِها وممتلكاتها.
ووقعت الأمَّة فريسة لتحكيم القوانين الوضعيَّة
المستوردَة، فما حصدت إلاَّ ضياع نِعْمة الأمن والأمان، ، وما حصدت إلاَّ استعباد الأُمَم
الكافرة لها، وتَحكُّمها فيها، وإدارة شؤونها وحياتِها ومقدَّراتِها، والعبَث بِأَمْنِها
وأخلاقها وعقيدتها، حتَّى صارت الأُمَّة قَصْعة مستباحةً لكلِّ أحد، وغنيمةً مُشْبِعة،
ولعبة مسلِّية بأيدي العابثين.
ان الطَّريق إلى الإصلاح والتغيير:كما قال السَّابقون
من قبل: لن يَصْلح آخِرُ هذه الأُمَّة إلا بِما صَلح به أوَّلُها، وكما قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ
مِنْ وَالٍ ﴾ الرعد: 11.فلا هناء لنا ولا سعادة ولا أمْنَ إلاَّ في تطبيق الشريعة
الإسلامية من جديد، وجعْلِها منهجَ حياةٍ، فلا يَكْفي الْمُطالَبة بِما نَمْلأ به البطونَ
الْخَاوية، أو ما نسدُّ به رمقَ الحياةِ وآلامَها العَصِيبة ومعيشتها، كلاَّ، كلا،
إنَّما لا بُدَّ مِن أن نأخذ بيد الناس إلى نور الحقِّ، إلى شَرْع العزَّة والكرامة.
كما ينبغي علينا ألاَّ نترك الأَمْر فضاءً للعابِثين
والطَّامعين والمتسلِّقين على أكتاف الحقِّ؛ ليصلوا به إلى أطماعهم وغاياتِهم الدَّنيئة
الرَّخيصة، وإنَّ تونس الْخَضراء وغيرها من بلاد المسلمين الثائرة لَم تقف بعد ثورتِها
حتَّى الآن على أرض صلبة من التوجُّه الصحيح للمسار الْمُراد،وانما تتقاذفها امواج
مصالح الكافرالمتضاربة والمتقاطعة والتي لا تنتج الا الفوضى ,والعداء للاسلام عبر الصورة
السيئة التي يعطيها من ركب الاسلام عن الاسلام ,وهذا ينذربأن تعود الأمور كما كانت،
ولكن بثوبٍ آخَر، ووَجْه آخر، وهنا مكمن الْخَطر في الصِّراع الدائر بين الكفار علينا.
وهنا يَظْهر لكلِّ ذي لُبٍّ وبصيرةٍ أنَّ هذه الثَّورة
لن تعود بفائدةٍ تُذْكَر، ولا تغيير مؤثِّر،
في حياة النَّاس وواقعِهم اذا فقدت الثورة بوصلتها اواختار أصحاب هذه الثورات ان يَحْملوا
معهم مناهِجَ وتصوُّراتٍ بشريَّةً أخرى بديلةً عن السابقة، وهنا تَدُور الأُمَّة في
دوَّامة مفرغة وخاوية، ليس لَها من دون الله كاشِفَة.
ان الطَّريق إلى الإصلاح والتغيير لا يتم الا بناء
على فكرة سياسية واضحة مستمدة من المبدأ الذي تدين به الامة ,فان طرأ خلل في الفهم
فيمكن اصلاحه بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر,واما ان كان الاصل مخالفا لامر الله
ونهيه فلا يسمى ترقيعه اصلاحا لفساد اصله, فاي حزب او حركة تدعو او تعمل للاصلاح والتغيير
فاشلة ان جعلت الديمقراطية اساسا او مصدرا.
ان طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الحكم طريقة
انقلابية,يعني ان تطبق الأحكام دفعة واحدة،
بصورة شاملة لجميع نواحي الحياة. وبعبارة أخرى ترفع نظاماً فاسداً وتضع بدله نظامها
الصحيح، ولا ترى الترقيع في الاصلاح إلا تعويقاً للإصلاح ,وليس التدرج من الطريقة الاسلامية،
لا في التشريع ولا في التوجيه، فإذا حرّم الإسلام شيئاً أو أوجبه، فإنّما يحرمه أو
يوجبه بتةً دفعةً واحدةً، أي تحريماً وايجاباً انقلابياً.
ان المستفيد الأوَّل من هذا كلِّه هو العالَمُ الغرْبِيُّ
واليهود الصَّهاينة، نعَم هم من سيَجْني ثَمرة هذه الثَّورة بِخَلْق عُمَلاء آخَرين،
وسياسات عربيَّة أخرى تُذْعِن لَهم وتعطيهم بعض الذي مُنِعوا مِمَّن سبقها، وكذلك الاستفادة
الْمُرَّة من فوضى تعمُّ العالَم الإسلاميَّ لا يَحْكمها ضابِطٌ ولا منهجٌ ولا فكرة
سياسة، وكما يُقال عندهم: "فوضى خلاَّقة".
جواد عبد المحسن
حديث رمضان -12
0 تعليقات