سنة الله

سنة الله

أن لفظ (السنة) يعني الطريقة أو القاعدة .. وكل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده فهو الذي سنه,و السنة في الاصطلاح الشرعي (كل ما صدر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير).
     وأما ( سنة الله في الخلق  فإنها تعني حكم الله في خليقته ، فأن الله عز وجل قد سن لكل أمر في هذا الوجود حكماً (أو قانوناً) لا يحيد عنه .. فالسنن التي فطر الله عليها أمور خلقه ، هي ( مجموعة القوانين التي سنها الله عز وجل لهذا الوجود ، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً ، على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها ) ، ويوضح هذا الامر اختلاف معنى سنة الله في الخلق عن معنى السنة في اللغة ، وفي الاصطلاح الشرعي كذلك على الرغم من المعنى الجامع لها,فالقوانين التي اوجدها الله في مادة الكون والانسان والحياة هي سنن الله في خلقه وهي سنن مشاهدة محسوسة يقع عليها حس الانسان ويدركها ويمكننا ان نصفها بالسنن المدركة بالحس وهذه الاولى,واما الثانية وهي التي نؤمن ونصدق بها اعتقادا كقول اللّه تعالى‏‏ ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}‏فاطر43،‏{‏إنما بغيكم على أنفسكم‏ْ‏}يونس23، ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه )الفتح10  ",فلا تختلف هذه عن تلك ,وهذه السنن واجب على كل آدمي جاءه بلاغ ان يتفكر فيها حتى يحصل عنده الرضى بقضاء الله واطمئنان قلبه ,في قوله تعالى(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا(55)الكهف ,وقوله (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)الاحزاب,وقوله(سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)الفتح وغيرها كثير من الآيات.
         وتتصف السنن الربانية بثلاث خصائص مميزة هي : الشمولية ، والثبات ، والاطراد ، وهذه الخصائص تنطبق على جميع السنن التي بثها الله في هذا الوجود وسوف نفصل فيه فيما يلي:
1- الشمولية:   عندما يعيش الإنسان في هذا الوجود بقلب سليم ، وعقل متفتح ، وبصيرة نافذة ، فإنه يجد في حياته على هذه الشاكلة سعادة غامرة ، لا يعرف حلاوتها البشر ، الذين عطلوا حواسهم عن رؤية ما في الكون من تكامل يدل على الإعجاز في الخلق ، كما يدل على قدرة الخالق,وإن من يتأمل هذه الخلائق المبثوثة في الكون من حوله ، يجد أنها جميعاً ترتبط بمنهج موحد من السنن الربانية ، التي تقرب بعضها إلى بعض ، فتجعل منها عالماً أنيساً متكاملاً ، يسوده الانسجام والاستقرار والتوازن .. والأدلة على هذه الحقيقة الباهرة لا يكاد يحصرها عد وصدق الله العظيم(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) النساء .
      2 - الثبات :وثبات السنة يعني أنها لا تتبدل ولا تتحول ، مصداقا لقوله تعالى  (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً )(فاطر 43)والتبديل ( لغة ) التغيير ، قال تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية )(النحل: 151) ، وقال: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) (الأعراف 95) فالتحويل ( لغة ) فهو التحول من حال إلى حال ، يقال : تحولت القوس ، أي صارت معوجة بعد استقامة ، ويقال حوله : أي نقله من موضع إلى آخر .
فهذان الأمران ( التبديل والتحويل ) لا يطرأن أبداً على ما بث الله من سنن في هذا الوجود، فإن سنن الله باقية على حالها ، منذ خلق الله السموات والأرض ، وهي مستمرة على هذه الحال من الثبات إلى أن يشاء الله,فقانون الجاذبية هو هو والتسارع هو هو الكثافة النوعية للمعادن هي هي منذ ان خلقها الله الى ان يرث الله الارض ومن عليها, وفي هذا ما فيه من دلائل بالغة ، توحي برحمة الله عز وجل بالعباد ,فلولا ثبات السنن على هذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها ، ولما كان استخلاف البشر في الأرض ممكناً ، إذ كيف يمكن أن يستخلفوا في عالم هلامي لا يثبت على حال ، وكيف يمكن أن يسخروا مثل هذا العالم الذي لا يحكمه قانون ، ولا تضبطه سنة,وهذا تكليف لما لا نطيق وحاشا لله ان يفعل .
ومن جهة ثانية .. لو لم تكن سنة الله ثابتة على هذه الحال ، لما كان في هذا الوجود توازن ولا استقرار ، ولكانت الفوضى حينئذ هي سمة الخلق كله ,وهذا ما يتنافى مع الواقع المشهود ، الذي تدلنا كل صغيرة وكبيرة فيه على آيات التوازن والاستقرار، كما قال تعالى في وصفه: (وكل أمر مستقر )(القمر: 3).
  3- الاطراد:والاطراد في ( اللغة ) : التتابع والتسلسل,والاطراد في السنة تتابع حصولها ، أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها .. ونضرب مثلاً لهذا تركيب الماء ، فالماء يتركب من اندماج غازين مختلفين هما الأكسجين والهيدروجين وفق المعادلة الكيميائية التالية: H2 + O = H2O .
     وقد أصبح في مقدورنا اليوم أن نعيد تشكيل الماء من هذين الغازين بطرق اصطناعية ، بعد أن عرفنا الشروط التي تتحكم باندماجهما ، أهم هذه الشروط أن ندمج العنصرين بمقدارين متناسبين ، وفق قاعدة النسب التي اكتشفها العالم الكيميائي ( دالتن ) والتي تقول : ( إن الاتحاد الكيميائي بين العناصر يجري طبقاً لنسب معينة من هذه العناصر ، في ظروف وشروط خاصة بكل منها ) فهذه القاعدة تعد سنة مطردة تخضع لها جميع التفاعلات الكيميائية التي تتم بين مختلف العناصر  وكلما وفرنا شروط هذه السنة حصلنا على نتائج التفاعل المطلوب ، حتى ولو أعدنا التفاعل مئات المرات.
     وهذا ما نعنيه باطراد السنة ، فجميع السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق قابلة للتكرار والإعادة - بإذن الله - كلما توافرت شروطها ، وانتفت الموانع ، التي تحول دون تحقيقها .. فالمطر يهطل بإذن الله كلما تبلدت الغيوم في السماء وتهيأت الظروف الجوية المواتية ، والحجر يسقط إلى الأرض كلما ألقينا به في الفضاء ، واليد تحترق كلما لامست النار ، والمرض يحصل كلما صادفت الجراثيم جسماً قابلاً للعدوى والمرض  وهكذا .
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى صفة الاطراد في سنن الله ، منها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) (محمد) وقوله(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) (آل عمران)وقوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) (النحل) ،وقوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)( النساء: 123)وقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) (النور).
فهذه كلها سنن ربانية مطردة ، لا تتخلف بإذن الله إلى يوم القيامة ، وأمثالها كثير في القرآن الكريم .. وإن من يدقق النظر في أحكام الشرع المختلفة ، يجد أنها تعبر عن نوع من السنن المطردة ، التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها ، فإن ترك شيء مما أمر به الشارع الحكيم يترتب عليه عاقبة وخيمة دوماً ، في الدنيا قبل الآخرة ، وإن الإتيان بشيء قد نهى الله عنه يترتب عليه كذلك عواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة ، وفي هذا غاية العدل والحكمة والتدبير .
      وقد ذكر العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله بهذا الصدد ما يلي : ( .. لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة ، والمعاني المعتبرة ، في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية ، ليدلك على تعلق الحكم بها أين وجدت ، واقتضائها لأحكامها ، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ، ويوجب تخلف أثرها عنها) وتكون المعجزة, ومن هنا يتبين أن سنن الله في الخلق تقوم على الاطراد ، بحيث تمضي السنة إلى غايتها المقدرة بإذن الله، كلما توافرت شروطها ، ولم يكن ثمة ما يحول دون تحقيقها
وكما أننا نفقد السيطرة على الطلقة بمجرد خروجها من الفوهة ، فكذلك نفقد السيطرة على نتائج السنة فور أن نوفر لها شروطها ، لأنها ستمضي بعد ذلك لتحقيق أهدافها شئنا ذلك أم أبينا .

 جواد عبد المحسن
حديث رمضان 14
2016



إرسال تعليق

5 تعليقات

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  2. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  5. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف