مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبَ

مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبَ

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عيه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبَ، فَإِنَّ مَثَلَ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِبَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَذَا بِعُودٍ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ" رواه أحمد في مسنده وأخرجه النسائي واللفظ له. أي أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت، ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول لشدة تحرزهم عنها فأنذرهم بما قد لا يكترثون به.
وروي عن سعد بن جنادة قال لما فرغ رسول الله من حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيها شيء فقال النبي: " اجْمَعُوا، مَنْ وَجَدَ عُودًا فَلْيَأْتِ بِهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَظْمًا أَوْ شَيْئًا فَلْيَأْتِ بِهِ" قَالَ: فَمَا كَانَ إِلا سَاعَةً حَتَّى جَعَلْنَاهُ رُكَامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذا، فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل فلا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنّها محصاة عليه" رواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد ابن مسلم، ورواه الطبراني.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله من الموببقات" رواه البخاري.
إن المراد بالمحقرات أي الذنوب التي يحتقرها فاعلها، وهي الصغائر، ومقصود الحديث الحث على عدم التهاون بالمحقرات ومحاسبة النفس عليها وعدم الغفلة عنها، فإن في إهمالها الهلاك، لأن المحقرات إذا كثرت صارت كباراً  كما قال ابن بطال –رحمه الله فأن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر كما قال الله تعالى:{ إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ }( النساء 31) وقال:{ الذينَ يَجْتَنِبُونَ كبائرَ الإثْمِ والفَواحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ }( النجم : 32) وقد روى البخاري  عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ).
قَالَ الرَّاغِب: اللَّمَم مُقَارَفَة الْمَعْصِيَة، وَيُعَبَّر بِهِ عَنْ الصَّغِيرَة. وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِاللَّمَمِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه فِي قَوْله تَعَالَى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ) وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي الآيَة الأُخْرَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) النساء 31 فَيُؤْخَذ مِنْ الآيَتَيْنِ أَنَّ اللَّمَم مِنْ الصَّغَائِر وَأَنَّهُ يُكَفَّر بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِر.
وذكر النووي رحمه الله كلام الخطابي ثم قال: "هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي تَفْسِير اللَّمَم، وَقِيلَ: أَنْ يُلِمّ بِالشَّيْءِ وَلا يَفْعَلهُ، وَقِيلَ: الْمَيْل إِلَى الذَّنْب وَلا يُصِرّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَأَصْل اللَّمَم وَالإِلْمَام الْمَيْل إِلَى الشَّيْء وَطَلَبَهُ مِنْ غَيْر مُدَاوَمَة. وَاَللَّه أَعْلَم                والأقوال في تعريف الكبيرة: أنها ما ترتب عليها حد في الدنيا أو توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، وألحق بعضهم نفي الإيمان، أو قيل فيه ليس منا أو برئ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الصغيرة، فقيل: الصغيرة ما دون الحد؛ حد الدنيا وحد الآخرة، وقيل: الصغيرة كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، وقيل: الصغيرة ما ليس فيه حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة، وهذا أرجح الأقوال، أن الصغيرة ما ليس فيه حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة. فكان الحذر من الذنوب والمعاصي وعدم التهاون في شيء منها، فإن الصغائر إذا كثرت ولم تكفر، أو أصر عليها صاحبها صارت سبباً في هلاكه وبواره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله؛ فمنها حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور ... ومنها حرمان الرزق... ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلاً ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام، فلو لم تترك الذنوب إلا حذراً من وقوع تلك الوحشة لكان العاقل حريا بتركها.
قال الغزالي: صغائر المعاصي يجرّ بعضها إلى بعض حتىّ تفوت أهل السّعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة. وإنّ الله يعذّب من شاء على الصّغير، ويغفر لمن شاء الكبير، فتصير الصغيرة كبيرة بأسباب منها الاستصغار والإصرار، فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله وكلما استصغره عظم عند الله لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به واستصغاره يصدر عن الألفة به وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة والمحذور تسويده بالخطيئة، وتواتر الصّغائر عظيم التأثير في سواد القلب وهو كتواتر قطرات الماء على الحجر فإنه يحدث فيه حفرة لا محالة مع لين الماء وصلابة الحجر، فإن مقصود الحديث الحث على عدم التهاون بالصغائر، ومحاسبة النفس عليها وعدم الغفلة عنها، فإن في إهمالها هلاكه بل ربما تغلب الغفلة على الإنسان فيفرح بالصغيرة ويتحجج بها ويعد التمكن منها نعمة غافلا عن كونها وإن صغرت سبب للشقاوة حتى أن من المذنبين من يتمدح بذنبه لشدة فرحه بمفارقته فيقول أما رأيتني كيف مزقت عرضه، ويقول المناظر أما رأيتني كيف فضحته وذكرت مساوئه حتى أخجلته؟ وكيف استخففت به وحقرته، ويقول التاجر أما رأيت كيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته وغبنته؟ وذلك وأمثاله من المهلكات).
إن الفكرة التي وددت طرحها هي إننا عندما نستخف بالصغيرة ولا نعيرها كثير اهتمام ولا نندم على فعلها ونستصغرها ومع الأسف نستمرىء فعلها ومع تكرارها نتجاوزها لما بعدها ولا نكترث بالكبائر فنقترفها كما لو أنها من اللمم، فسكوتنا عن الصغائر قادنا للسكوت عن الكبائر التي تقع منا وعلينا فلا نأمر بمعروف حين يقع اللمم وقادنا هذا لعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين وقوع الكبائر منا وعلينا، فأي كبيرة أعظم من عدم وجود رأس لهذا الجسد وأي كبيرة أعظم من موت المسلمين غرقا في بحار العالم ولا احد يتحرك او يهتز غضبا ولا حول ولا قوة الا بالله.
بقيت في الموضوع مسألة فبقدر صغرها تمر ولا نلقي لها بالا ولكنها عظيمة وخطيرة ألا وهي طريقة تعاطينا مع الصغار وكيف نربيهم ونعاملهم، فعندما يبدأ الطفل بالحركة والتقليد نفرح لأي فعل يقوم به ونحاول تكراره ليقلدنا، وليت هذا التقليد يكون لأمر مهم، فنسمعه ألفاظا حري بنا الترفع عنها، فمثلا نقول له أنت حمار فيعيد من ورائنا فنفرح، وهكذا نربيه ولا نلقي لما نقول بالا ولا ندرك أننا قد فعلنا فعلا يعتبر من اللمم وهكذا .... فنستخف لأجل أن نضحك ونستخف لنتسلى ونستخف في أمور كثيره والشعار (بدنا نمشي امورنا)، ولم ندرك أن الحياة أغلى من أن نستخف بها.
وقال الحكيم الترمذي: إذا استخف بالمحقرات دخل التخلط في إيمانه، وذهب الوقار وانتقص من كلّ شيء بمنزلة الشمس ينكسف طرف منها فبقدر ما انكسف ولو كرأس إبرة ينقص من شعاعها وإشراقها على أهل الدنيا وخلص النقصان إلى كل شيء في الأرض، فكذا نور المعرفة ينقص بالذنب على قدره فيصير قلبه محجوبا عن الله، فزوال الدنيا بكليتها أهون من ذلك فلا يزال ينقص ويتراكم نقصانه وهو أبله لا ينتبه لذلك حتى يستوجب الحرم" أخرج أسد بن موسى في الزهد عن أبي أيوب الأنصاري قال: "إنّ الرّجل ليعمل الحسنة فيثق بها وينسى المحقرات فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال منها مشفقا حتى يلقى الله آمنا").

جواد عبد المحسن
حديث رمضان 15 

إرسال تعليق

0 تعليقات