درس من الهجرة


درس من الهجرة

كتب [د. عبد السلام حيدر] وتساءل فقال كيف بدأ التاريخ الهجري...؟؟ كثير من الناس يتصور بداية أن التأريخ الهجري بدأ مباشرة بعد وصول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى واحة قُباء جنوب يثرب يوم الاثنين 23 سبتمبر 622م/ 8 ربيع الأول من السنة الهجرية الأولى. ويقتنعون بصعوبة عندما أخبرهم أن هذا التأريخ لم يبدأ إلا في سنة 16 هجرية في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وأنه مجرد اجتهاد بشري.
والأمر ببساطة - كما بالتأكيد- تعرفون أن عمر بن الخطاب وجد أن الدولة - التي توسعت جدا - تواجه مشاكل إدارية كبيرة بسبب عدم وجود تأريخ كتواريخ الحضارات المجاورة. وتوجد روايات عدة عن هذه الاحتياجات الإدارية، ومن شاء معرفتها بالتفصيل يمكن أن يرجع إلى كتاب "تاريخ الإسلام" للذهبي خاصة باب "ذكر اختلاف الصحابة في التاريخ".
والأرجح أن التفكير في التأريخ بدأ بإقتراح من أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) الذي كتب إلى عمر بن الخطاب "إنه يأتينا من قبلك كتب ليس لها تاريخ فأرخ". واقترح يعلي بن أمية على عمر اقتباس التاريخ وتدوين الدواوين كما يفعل الفرس والروم. وكالعادة جمع عمر كبار الصحابة وقال لهم: ضعوا شيئا للناس يعرفون به التاريخ. فرفضوا بداية أن يتخذوا التاريخ الروماني وقالوا: هذا شيء يطول وأنهم يؤرخون من عند الإسكندر. ورفضوا أيضاً أن يتبعوا تاريخ الفرس وقالوا: "الفرس كلما قام ملك طرح ما كان قبله" أي أن تاريخهم يفتقد الاستمرارية. واستقروا على اتخاذ شيء يخص الإسلام كبداية لهذا التأريخ.
وهنا وازنوا بين الأحداث البارزة في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاتخاذ أحدها كبداية، وركزوا على أربعة أحداث هي: (مولد النبي، ونزول الوحي، والهجرة النبوية، ووفاة النبي)، وتم دحض ثلاثة منها بطريقة عقلانية مبهرة، واستقروا على البدء بهجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان هذا اقتراحا من علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وقال عمر مؤيدا: "إن مهاجره فرق بين الحق والباطل".
ثم قال عمر: فبأي شهر نبدأ فنصيره أول السنة فقال البعض: رجب فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه. وقال آخرون: رمضان وهنا - كما يروي الذهبي- اقترح عثمان (رضي الله عنه) أن يكون "المحرم" أول شهور السنة الهجرية، وقال: "هو أول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس من الحج"؛ كأنه أراد جعل الحج نهاية للسنة الهجرية وخاتمتها الكبرى، وبه تنتهي دائرة الأعياد الإسلامية لتبدأ من جديد مع المحرم، فوافقوا على الاقتراح، وبالتالي أصبح شهر المحرم أول شهور السنة الهجرية رغم أن حدث الهجرة لم يقع فيه. وهكذا أعادوا تأريخ كل ما حدث في السنوات ما بين الهجرة وسنة وضع هذا التأريخ.
وكما نعرف فإن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بقي في قباء، ضيفاً عند الصحابي كُلْثُوم بن الهِدْم، لمدة ثلاثة أيام اجتمع خلالها بكبار المهاجرين وبنقباء الأنصار، وبنى مسجد قباء، وبدأ ينظم أمورهم ويخطط للمستقبل.
وفي صبح يوم الجمعة 12 ربيع الأول/ 27 سبتمبر 622م تحرك ركب النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) باتجاه وسط واحات المدينة حتى استقر وسط يثرب في منازل أخواله بني مالك بن النجار. انتهى كلام الدكتور.
 كانت الهجرة إلى الحبشة أول هجرة في الإسلام سنة خمس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث واجه أتباعه صلى الله عليه وسلم صوراً من العذاب والتنكيل والتضييق لمخالفتهم قومهم في دينهم، فلجأ هؤلاء المؤمنون إلى الخروج من أرضهم وديارهم طلباً للأمن في الدِّين وأنشد عبد الله بن الحارث بن قيس أبياتًا في ذلك فقال:        
    يا راكبًا بلغن عني مغلغلةً                      من كان يرجو بلاغ الله والدينِ
     كل امرئ من عباد الله مضطهـدٍ                    ببطن مكـة مقهـورٍ ومفتـونِ
    أنا وجدنا بلـاد الله واسعـةً                      تنجي من الذلِ والمخزاةِ والهونِ
    فلا تُقيموا على ذُلّ الحياة وخِز               ي في المَمات وعيب غَيرِ مَأمونِ
    إنّا تَبعنا رسول الله واطرَحـوا                     قَول النّبيّ وعالوا في المَوازِين
    فاجعل عذابكَ بالقَومِ الّذيِنَ بغوا                       وعائِذًا  بك    أن يَعلوا فُطغونِي
وقد أشار بعض المفسرين إلى أن المراد من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]؛ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة سنة خمس بعد البعثة، وهذه اول بشرى للمؤمنين وهم في غاية الضعف والكفر في غاية الاستكبار جاء قوله تعالى لهم ولمن هم في وضعهم وحالهم مقررا ومبشرا (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، والحسنة هي التمكين في الدنيا وهذا ما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم مع بداية الدعوة ويحصل حين تؤول امور المسلمين لهذا الواقع الموصوف سابقا، فالبشارة ليست لهم فقط وانما لنا ولهم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أبى أمامة أن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم -  قال: لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء وهم كالإناء بين الأكلة حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال بيت المقدس وأكناف بيت المقدس) وأما قوله كالإناء بين الأكلة فهو كما جاء في الحديث: "يوشك أن تتادعى عليكم الأمم كما تداعى الكلة إلى قصعتها..." أي كالإناء الذي فيه الطعام وحوله الناس دلالة على تكالب الأمم عليهم كما يتجمع الناس على إناء الطعام. (ابن جرير) [كنز العمال 37893] ونحن اليوم مثلهم وربما وضعنا اضيق من ناحية الحركة فمن يريد السفر لا يستطيع وامامه عوائق عديدة والعالم قد رمى المسلمين عن قوس واحدة وحتى حكامها (او شيوخ قبائلها) قد تواطؤا مع الكافر عليها وليس ابو لهب وابو جهل وابو سفيان كهؤلاء.
وصدق الله العظيم﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾( سورة المائدة الآية: 68 ) ويا أيها المسلمون، لستم على شيء حتى تقيموا أحكام القرآن في حياتكم، فالإسلام حركة وسلوك والتزام، عطاء وصلة، مجاهدة، فإذا بقي الإنسان معجباً بالإسلام إعجاباً نظرياً، أو إعجاباً سكونياً، أو إعجاباً لا يؤثر في العمل والسلوك فهذا الإنسان أبعد شيء عن حقيقة هذا الدين.
لقد بلغت صور التعذيب ما ذكره ابن إسحاق عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يُعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضُّرِّ الذي نزل به، حتى يُعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجُعل ليمر بهم، فيقولون له: أهذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم افتداء منهم مما يبلغون من جهده [السيرة النبوية لابن هشام، ج1/225-226.
ان أول شيء يقابلنا في مسألة الهجرة إلى المدينة هي تلك العبارة التي أطلقها الرسول الكريم وهو خارج من مكة ومتجه إلى المدينة: (وَلَولَا أَنَّ أَهلَكِ أَخرَجُونِي مِنكِ مَا خَرَجتُ)[ أخرجه أحمد والحاكم في مستدركه]. وهذه العبارة عند الوهلة الأولى قد تدفع البعض الى القول بان امر الهجرة كانت بترتيب من الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول له لا بل بتدبير وامر من الله، يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في مسالة الهجرة (وما دامت هناك معركة ، فمَن المطحون فيها؟ المطحون فيها هو الضعيف الذي لا يستطيع أنْ يحميَ نفسه، وهؤلاء هم الذين ظُلِموا . . ظُلِموا في المكان الذي يعيشون فيه؛ ولذلك كان ولا بُدَّ أن يرفع الله عنهم هذا الظلم، وقد جاء رَفْع الظلم عن هؤلاء الضعفاء على مراحل . . فكانت المرحلة الأولى أن ينتقلَ المستضعفون من مكة لا إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على نَشْر دينهم، بل إلى دار أَمْن فقط يأمنون فيها على دينهم . . مجرد أَمْن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين. ولذلك استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد كلها لينظر أيَّ الأماكن تصلح دار أَمْن يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فلا يعارضهم أحد ، فلم يجد إلا الحبشة؛ ولذلك قال عنها : « إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَالْحَقُوا بِبِلاَدِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ » السنن الكبرى للبيهقي، وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون ، ففي هذه المرحلة من نُصْرة الدين لا نريد أكثر من ذلك وهكذا تمت الهجرة الأولى إلى الحبشة.
ثم يسَّر الله لدينه أتباعاً وأنصاراً التقوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على النُّصْرة والتأييد، ذلكم هم الأنصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ومَهَّدوا للهجرة الثانية إلى المدينة، وهي هجرةٌ هذه المرة إلى دار أَمْن وإيمان، يأمن فيها المسلمون على دينهم، ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة.
ونقف هنا عند قوله تعالى: {والذين هَاجَرُواْ . . . } [ النحل : 41 ]. ومادة هذا الفعل : هجر، وهناك فَرْق بين هجر وبين هاجر: هجر: أن يكره الإنسانُ الإقامةَ في مكان ، فيتركه إلى مكان آخر يرى انه خَيْرٌ منه ، إنما المكان نفسه لم يكرهه على الهجرة  أي المعنى : ترك المكان مختاراً.
أما هاجر: فهي تدل على المفاعلة من الجانبين ، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان ، ولكن المفاعلة التي حدثتْ من القوم هي التي اضطرتْه للهجرة ... وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكة؛ لأنهم لم يتركوها إلى غيرها إلاَّ بعد أن تعرضوا للاضطهاد والظُلْم، فكأنهم بذلك شاركوا في الفعل، فلو لم يتعرَّضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . . } [ النحل : 41 ] .
وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي :
إِذَا ترحلْتَ عن قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا ... ألاَّ تُفارِقهم فَالرَّاحِلُون هُمُوا
يعني: إذا كنت في جماعة وأردْتَ الرحيل عنهم، وفي إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما يُيسِّر لك الإقامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا، وتركوك ترحل مع مقدرتهم، فالراحلون في الحقيقة هم، لأنهم لم يساعدوك على الإقامة ) انتهى كلام الشيخ.
إن المتأمل لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وما قُصَّ عليه من سير الأنبياء، يجد أن مغزى البعثة والرسالة هو إقامة الحجة الكاملة على الأمة – المرسل إليها. ومن متطلبات هذه المهمة قيام الرسول بين ظهراني قومه يدعوهم ويبيّن لهم ويبلغهم ويحيطهم بنصحه وتوجيهه، وأن يتحمل ويصبر إزاء ما قد يقابله من أذى قولي أو فعلي مادي أو معنوي، طالما أن هذا الأذى داخل في قدرته وطاقته البشرية؛ لأن من طبيعة تغيير المجتمعات وإصلاحها أن يكون مُكلِفاً وصعباً وبطيئاً في التأثير.
ان الرسول لم يخرج يطلب لجوءا سياسيا كما يفعل كثير من معارضي الانظمة في بلدانهم، فلم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم لجوءا سياسيا لان اللجوء يمنح بشكل فردي ولكن هجرة رسول الله هجرة جماعية عملية فاعلة منظمة باحثة عن سبل لانتشار الاسلام بعد ان حوصر في ازقة مكة ودروبها .

ان الهجرة هي أكبر مشروع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من الاتباع المهاجرين معه، انه مشروع جميع الانبياء والمرسلين من قبله ، انه مشروع اقامة دين الله على وجه الارض وهو مشروع المخلصون الجادون العاملون لاعادة حكم الله على ارض الله وصدق الله العظيم: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) الشورى :/13  كان هو إقامة دولتهم على منهج الله.

حديث رمضان 15
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات