لا غفر الله لك




لا غفر الله لك


بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام وكانت بينهم حنة في الجاهلية (شقاق أو كره والعامة تقول: في صدر فلان عليَّ حِنّة والصواب: إحْنَة)، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله، سر اليوم وغير غدا. فقال عيينة: لا والله، حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي. فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك. فقام وهو يتلقى دموعه ببردية، فما مضت له سابعة حتى مات، ودفنوه، ولفظته الأرض، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم ثم طرحوه في جبل، وألقوا عليه الحجارة، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا}النساء 94. الراوي: عبد الله بن عمر، والمحدث: أحمد شاكر -المصدر: عمدة التفسير -الصفحة أو الرقم: 1/556 حديث عبد الله بن أبي حدرد، صحيح له. هذه القصة فيها من الدروس والمعاني ما نحتاج إلى تأمله هذه الأيام تأمّلاً عميقاً وجاداً. إن الرجل قتل بريئاً تحت غطاء الجهاد، وحاول تبرير فعلته باتهام القتيل بأنه كافر وإن ألقى السلام، واتهمه بأنه يتظاهر بالإسلام كي يمر بسلام، وكل ذلك بسبب خصومة أخرى بينهما مع طمعه في أخذ الغنيمة.

ظنّ الرجل أن خروجه تحت راية الجهاد في نصرة الإسلام سيشفع له في تجاوز هذه الجريمة بمجرد أن يطلب من رسول الله أن يستغفر له، لا سيما أن عشيرة أخواله معروفة بقوة بأسها وكان منهم الأقرع بن حابس.

لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع صوته بقوله: قُم لا غفر الله لك، فقام الرجل وهو يمسح دموعه لما شَعر به من خطورة جريمته إلى حدٍ جعل النبي يمتنع عن الاستغفار له!

وهنا لا بد من وقفة تأمل. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كله رحمة. حتى إنه أخبر أنه لو كان الاستغفار للمنافقين سوف يُقبل لأستغفر لهم. فكيف يرفض الاستغفار لهذا الرجل؟

غضب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرة كان عينَ الرحمة إذ إنه يؤسس في القلوب تعظيمَ حرمة الدماء وهو ما أشعر (مُحلّم) بالندم الحقيقي ليلقى الله نادماً غير مستهتر بالدماء.

ورد عند البخاري ومسلم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّىُّ -وَاللَّفْظُ لاِبْنِ أَبِى شَيْبَةَ -قَالَ حَدَّثَنَا وَقَالَ الآخَرَانِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقِىَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً في غُنَيْمَةٍ لَهُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ فَنَزَلَتْ: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ السَّلاَمَ.

وفي كنز العمال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن بن إسحاق عن يزيد ابن عبد الله بن أبي قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلى أضم، فلقينا عامر بن الأضبط فحيا بتحية الإسلام، فنزعنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، فلما قتله سلبه بعيراً له وأهبا ومتيعا كان له، فلما قدمنا جئنا بشأنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بأمره، فنزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} الآية 94 سورة النساء. قال بن إسحاق: فأخبرني محمد بن جعفر عن زيد بن ضمرة قال حدثني أبي وعمي وكانا شهدا حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ثم جلس تحت شجرة، فقام إليه الأقرع بن حابس وهو سيد حنيف يرد عن ابن محلم، وقام عيينة بن حصن يطلب بدم عامر بن الأضبط القيسي وكان أشجعياً، قال: فسمعت عيينة بن حصن يقول: لأذيقن نساءه من الحزن مثل ما ذاق نسائي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تقبلون الدية؟" فأبوا، فقام رجل من بني ليث يقال له مكتيل فقال: يا رسول الله؟ والله ما شبهت هذا القتيل في غرة الإسلام إلا بغنم وردت فرميت فنفر آخرها، اسنن اليوم وغير غدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نديه لكم خمسون في سفرنا هذا وخمسون إذا رجعنا"، فقبلوا الدية فقالوا: ائتوا بصاحبكم يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئ به فوصف حليته وعليه حلة قد تهيأ فيها للقتل حتى أجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما اسمك"؟ فقال: محلم بن جثامة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيديه -ووصف أنه رفعهما: "اللهم! لا تغفر لمحلم بن جثامة"، قال: فتحدثنا بيننا أنه إنما أظهر هذا وقد استغفر له في السر. قال ابن إسحاق: فأخبرني عمرو ابن عبيد عن الحسن قال: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمنته بالله ثم قتلته"! فوالله ما مكث إلا سبع ليال حتى مات محلم؛ قال: فسمعت الحسن يحلف بالله لدفن ثلاث مرات كل ذلك تلفظه الأرض، فجعلوه بين صدى جبل ورضموا عليه بالحجارة فأكلته السباع، فذكروا أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما والله إن الأرض لتطبق على من هو شر منه ولكن الله أراد أن يخبركم بحرمتكم".

حديث رمضان 18

إرسال تعليق

0 تعليقات