فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً


فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً

قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [30الروم]، إن المعنى على التحقيق لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر. فقوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، خبر أريد به الإنشاء إيذانا بأنه لا ينبغي ألا أن يمتثل، حتى كأنه خبر واقع بالفعل لا محالة، ونظيره قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} الآية [2/197]، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ويشهدا لهذا ما ثبت في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء"، وما رواه مسلم في "صحيحه" عن عياض بن حمار بن أبي حمار التميمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم".
فأقم وجهك للدين حنيفا : أي سدد وجهك يا رسولنا للدين الإسلامي بحيث لا تنظر إلا إليه.
حنيفا : أي مائلا عن سائر الأديان إليه، وهو بمعنى مقبلا عليه.
فطرة الله : أي صنعة الله التي صنع عليها الإنسان وهي قابليته للإيمان بالله تعالى.
لا تبديل لخلق الله : أي لا تعملوا على تغيير تلك القابلية للإيمان والتوحيد فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى. وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى ، في مواضع عبادته ، بحال المتهيّىء لمشاهدة أمر مهم حين يُوجه وجهه إلى صَوْبه لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوَجه قائماً ، أي غير متغاضضٍ ولا متوان في التّوجّه ، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال : قامت السّوق ، وقامت الصّلاة ، ومنه قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفاً فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد ، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة ، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك وهذا كما ورد في الحديث : ( المصلّي يناجي ربّه فلا يَبْصُقَنّ قِبل وجهه
الدين القيم : أي المستقيم الذي لا يضل الآخذ به.
منيبين إليه : أي راجعين إليه تعالى بفعل محابه وترك مكارهه.
{ فأقم وجهك للدين حنيفا } فالوجه في كل هذا كما تقدم ، أو على الاستعارة للمذهب والطريق . وفلان وجه القوم كقولهم عينهم ورأسهم ونحو ذلك. ويقال واجهت فلانا جعلت وجهي تلقاء وجهه ويقال للقصد وجه ، وللمقصد جهة ووجهة وهي حيثما نتوجه للشيء ، قال : { ولكل وجهة هو موليها } إشارة إلى الشريعة,والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد  ما دام الأمر كذلك ، وما داموا قد اتبعوا أهواءهم وضلوا ، وأصروا على ضلالهم ، فدَعْك منهم ولا تتأثر بإعراضهم .
كما قال له ربه : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] وقال له : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] .
فما عليك يا محمد إلا البلاغ ، واتركهم لي ، وإياك أن يؤثر فيك عنادهم ، أو يحزنك أن يأتمروا بك ، أو يكيدوا لك ، فقد سبق القول مني أنهم لن ينتصروا عليك ، بل ستنتصر عليهم .
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ] .
 { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ . . . } [ الحج : 40 ] .
 { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ . . . } [ محمد : 7 ] .
هذه قضية قرآنية مُسلَّم بها ومفروغ منها ، وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا ، فإنْ جاء واقعنا مخالفاً لهذه القضية ، فقد سبق أنْ أكدها واقع الأمم السابقة ، وسيحدث معك مثل ذلك؛ لذلك يُطمئن الحق نبيه صلى الله عليه وسلم : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] .
فهنا { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً . . . } [ الروم : 30 ] أي : دعْكَ من هؤلاء الضالين ، وتفرَّغ لمهمتك في الدعوة إلى الله ، وإياك أنْ يشغلوك عن دعوتك بسفاسف الامور .
وقد كرَّم الله أمة محمد بأن يكون رسولُها خاتَم الرسل ، فهذه بُشْرى لنا بأن الخير باقٍ فينا ، ولا يزال في يوم القيامة ، ولن يفسد مجتمع المسلمين أبداً بحيث يفقد كله هذه المناعة ، فإذا فسدتْ فيه طائفة وجدت أخرى تُقوِّمها ، وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك »
وقال صلى الله عليه وسلم : « الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة » .


 حديث رمضان 16
جواد عبد المحسن





إرسال تعليق

0 تعليقات