البال




البال

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)محمد,في خضم الحياة المتسارعة يشتكي كثير من الناس شغل البال وهَم النفس، فيراوح المرء في مكابدة مشاغله الدنيوية مُعْرِضًا عن إدراك أهمية صلاح بَالِه. فصلاح البال طريق السعادة التي ينبني عليها الفوز في الدنيا والآخرة ، لذا أحببت أن أقف مع هذا المعنى العظيم من خلال ما ورد في كتاب الله المجيد وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما فهمه العلماء من ذلك.
معنى البال في اللغة العربية:               
قال ابن منظور: "بَالَى بالشيء يُبَالِي به إذا اهتمَّ به، وقيل: اشتقاقُ بَالَيْتُ من البَالِ بَالِ النفسِ، وهو الاكتراثُ . ومنه أيضا : لم يخطرْ بِبِالِي ذلك الأمر أي لم يُكْرِثْنِي"
وقال ابن فارس : "البَالُ بَالُ النفسِ، ويقال ما خطر ببَالِي، أي ما أُلْقِيَ في رُوعِي..، وممَّا حمل على هذا : البَال، وهو رخاء في العيش- يقال إنه لراخِي البَال، وناعم البَال".
وقال أبو عبيدة : في معنى قوله تعالى : "سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ" [محمد:5] ،‏ "أي شأنهم‏"وذكر الراغب الأصفهاني : "البال : الحال التي يكترث بها، ويقال ما بَالَيْت بكذا بَالَةً أي ما اكْتَرَثْتُ بِهِ.
وذكر الكفوي : "البَال : الحال والشأن والقلب. وأمر ذو بَال : أي شرف يهتم به، كأن الأمر لشرفه وعِظَمه قد ملك قلب صاحبه لاشتغاله به".
وحقيقة لفظ البال أنها بمعنى الفكر، والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب، فإذا صلح ذلك فقد صلحت حاله، فكان اللفظ مشيرا إلى صلاح عقيدتهم
قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد قال ابن عباس ومجاهد : هم الأنصار . وقال مقاتل : إنها نزلت خاصة في ناس من قريش . وقيل : هما عامتان فيمن كفر وآمن . ومعنى أضل أعمالهم : أبطلها . وقيل : أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق . وعملوا الصالحات من قال إنهم الأنصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم . ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة . ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الأعمال التي ترضي الله تعالى . وآمنوا بما نزل على محمد لم يخالفوه في شيء ، قاله سفيان الثوري . وقيل : صدقوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به . وهو الحق من ربهم يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم . وقيل : أي : إن القرآن هو الحق من ربهم ، نسخ به ما قبله كفر عنهم سيئاتهم أي ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان . وأصلح بالهم أي شأنهم ، عن مجاهد وغيره . وقال قتادة : حالهم . ابن عباس : أمورهم . والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم . وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم ، ومنه قول الشاعر :
                 فإن تقبلي بالود أقبل بمثله        وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
وهو على هذا التأول محمول على صلاح دينهم . ( والبال ) كالمصدر ، ولا يعرف منه فعل ، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه : بالات . المبرد : قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب ، يقال : ما يخطر فلان على بالي ، أي : على قلبي . الجوهري : والبال رخاء النفس ، يقال فلان رخي البال . والبال : الحال ، يقال ما بالك . وقولهم : ليس هذا من بالي ، أي : مما أباليه . والبال : الحوت العظيم من حيتان البحر ، وليس بعربي . والبالة : وعاء الطيب ، فارسي معرب ، وأصله بالفارسية بيلة . قال أبو ذؤي
كأن عليها بالة لطمية       لها من خلال الدأيتين أريج
أنَّهُ مِن أعْظم النِّعَم صلاح البال، في قوله تعالى: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (5) محمد .
يقول الشيخ الشعراوي (البال هو الخاطر الذي يخطربالعقل) يعني في باله ويديم التفكير فيه كيف اصنع بكذا وكيف افعل وكيف اتصرف وماذا ....وكل ما يدور بهذه الدائرة فاذا اصلح بالهم صلح حالهم.
وذكر سيد قطب في قول الله تعالى : "سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ" [محمد:5]،"الله ربهم الذي قتلوا في سبيله، يظل يتعهدهم بالهداية-بعد الاستشهاد- ويتعهدهم بإصلاح البال، وتصفية الروح من بقية أَوْشَابِ الأرض؛ أو يزيدها صفاء لتتناسق مع صفاء الملأ الأعلى الذي صعدت إليه، وإشراقه وسناه. فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون، وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملأ الأعلى، ويزيده هدى، ويزيدها صفاء، ويزيدها إشراقا، وهي حياة نامية في ظلال الله، وأخيرا يحقق لهم ما وعدهم : "وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ" ( فأنَّ صَلاح البال نِعمةٌ يَخْتصُّ بها المؤمن، لأنَّ الله يُعطي الصِّحة والذَّكاء والجمال للكثيرين مِن خِلْقِهِ ولكنَّهُ يُعطي السَّكينة والطُّمأنينة لأصْفِيائِهِ المؤمنين، قال تعالى: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)) [ سورة قريش ] وقال تعالى:( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (81)الانعام, فالأمْن لهم وَحْدهم، وهذه نِعمةٌ يَختصُّ بها المؤمن، وأسباب هذه النِّعْمة أنَّهُ مُوَحّد ؛ لأنَّهُ يرى أنَّ الأمْر كلَّهُ بيَدِ الله والله سبحانه وتعالى أسماؤُهُ حُسنى، وصِفاتُهُ فُضْلى، والله غنِيّ قَوِيّ رحيم وعادِل رؤوف، والأفعال كلُّها أفْعاله، والأمْرُ كُلُّه له عائِد،ولا واسطة بينه وبين خالقه . قال تعالى: (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (2)محمد.
لو بلغَتْ ذنوبُكَ عنان السَّماء ثمَّ جِئتني تائِبًا غفَرْتُها لك، ولا أُبالي فباب التَّوبة مَفتوحٌ على مصارِعِه، إلا أنَّ التوبة مفتوحة قبل أن يأتِيَ مَلَكُ الموت في قوله تعالى:( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (18)النساء.
 صلاح البال لا يُقدّر بِثَمَن، وهو يخْتصُّ به المؤمن دون غيره وليس له علاقة بمال ولا بجاه ولا بكثرة ولا قلة بل علاقته الوحيدة هي حسن التوكل على الله والتسليم المطلق له في كل حال وحين وصدق الله العظيم: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم)محمد
 قد يسأل السائل: ما بالُ الأغنياء ؟ وما بال المُلوك ؟ يقول الله عز وجل:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(124)[طه ]
فالمعيشة الضَّنك للأغنياء والأقوياء والمستكبرون وضّيقُوا الصدر، ولو وُزِّع هذا الضِّيق على أهل بلدٍ لقَتَلَهم وصدق الله العظيم:(ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) (3)محمد.
ان القلق والارق لا يمس من توكل على الله ,بعكس من كانت له حساباته الخاصة به وكيف يتصرف وكيف ينمي ماله وينتصر على منافسيه او يثبت ملكه ممن يكيدون له ويريدون اخذه منه ونفيه او قتله.
ان الأمة الإسلامية-إلا من رحم الله- في مشارق الأرض ومغاربها وضعًا لا تحسد عليه من الغفلة عن الدعوة إلى الله تعالى، وشرح حقائق الإسلام والكشف عن وجهه النير المشرق للعالم في الوقت الذي تقوى فيه دعوة الباطل ويكثر فيه تشويه سمعة الإسلام وتبديل حسناته سيئات، في الوقت الذي يشتد فيه عطش العالم البشري إلى التوجيهات الربانية التي توفر له ركنًا شديدًا وملجأ آمنا من لظى القوانين والأنظمة الوضعية الإنسانية التي حوَّلت العالم جحيما وغابةً يتسابق فيها الوحوش الضواري إلى نهش جسد البشرية وامتصاص دمها، وتمزيق أوصالها.
إن أحدنا لايهمه إلا أن يقضي نهمته ويشبع حاجته، فيخرج من بيته في الصباح الباكر ليقضي سحابة نهاره في عمل لايعود على الأمة الإسلامية ولاتخدم قضاياها إلّا ما شذَّ وندَرَ، ثم يعود إلى بيته آخر النهار وقد أنهك قواه التعب، وأرهق جسده تقلبُ النهار في كسب العيش، ثم يقبل على رعاية بيته و شؤون أهله وولده بقية يومه، ثم ينام حتى الصباح ليبدأ مشوارًا جديدًا من العمل لأجل الدنيا و حطامها. وقد لايخطر بباله خلال ذلك أن عليه – بصفته مسلمًا- مسؤولية عظيمة، مسؤولية الدعوة إلى الله تعالى، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ولانغالي لو وصفنا هذه الحياة بما وصف به الحطيئة في هجائه للزبرقان بن بدر حيث قال:
دع المكارم لا تـرحـل لبغيتها          واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ولقد حذرنا الله- جل وعلا- من فتنة المال والولد، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون:9-11].
وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه»(سنن الترمذي: 2416).
إننا مسؤولون أمام الله تعالى يوم لاينفع مال ولابنون عن أعمارنا، هل أفنيناها فيما يرضي الله تعالى من الأعمال والأقوال، أم ضيعناها في اللهو والتفاخر والتكاثر بالأموال والأولاد حتى زرنا المقابر.
إننا مسؤولون أمام الله تعالى عن أجسادنا فيما أبليناها؟ هل أبليناها بالصلاة والصيام والقيام و غض البصر وحفظ اللسان، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و في الدعوة إلى الله تعالى.. أم أبليناها فيما لذ وطاب من الطعام والشراب.
والسائل هو الله تعالى العليم الخبير الذي لايخفى عليه ولايعجزه شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة:7].
إنه ينقضي عام تلو عام من حياتنا بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه دون أن نقوم بعمل جاد و تخطيط دقيق لدعوة البشرية التائهة الحائرة إلى ما فيه صلاحها وفلاحها وإلى الخير الذي منَّ الله تعالى به علينا.  

جواد عبد المحسن

كتاب حديث رمضان 17

إرسال تعليق

0 تعليقات