الصناعة عند المسلمين




الصناعة عند المسلمين
لم تكن الصناعة مزدهرة في الجاهلية، بل كانت بسيطة، تُركت للعبيد وازدهر منها في اليمن صناعة الرماح والسيوف والمجانيق... ولما جاء الإسلام أولى قضية التصنيع أهمية واضحة، فأوجد ألوانًا من الصنائع ما كانت العرب تعرفها، وأمر بعمران هذه الأرض واستثمار خيراتها، قال جل وعلا في كتابه العزيز: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]. وقد ورد في القرآن الكريم إشارات واضحة إلى العديد من الصناعات والحرف التي تكتمل بها عناصر الحياة الطيبة ومقومات الدولة العزيزة، من ذلك:

 ‏أولاً- الصناعة النسيجية والحياكة: ‏قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26].

ثانيًا- الصناعة الغذائية: ‏قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22]. وقال أيضًا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 71-73]. وقال سبحانه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]‏.

 ثالثًا- الصناعة المدنية والعسكرية: ‏قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25]. فقوله: (فيه بأس شديد) إشارة إلى الصناعات الحربية، وقوله: (ومنافع للناس) إشارة إلى الصناعات المدنية. وأخبر عن داود فقال: {‏وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 10، 11]. وقال أيضًا: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]. وقال أيضًا: {‏وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 12، 13].

رابعًا- صناعة الصيد: ‏قال الله تعالى: {‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]. وقال سبحانه: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. وقال أيضًا: {‏قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]. ‏

خامسًا- صناعة الغوص واستخراج اللؤلؤ والمرجان: قال الله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82]. وقال أيضًا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 19-22].

 سادسًا- الصناعات الدوائية: ‏أشار القرآن الكريم إلى العسل كمادة علاجية يتحقق بها الشفاء، فقال: {‏وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69]. ‏وقد ترجمت السُّنَّة النبوية تلك الإشارات القرآنية إلى واقع عملي في حياة الناس، من خلال التوجيهات الواضحة التي دعت إلى تبني النشاط الصناعي كركيزة من مرتكزات الدولة الإسلامية، من ذلك: ‏صناعة الطاقة: ‏ازدهرت صناعة الطاقة على يد رسول الله ، فقد روى سعيد بن زبّان عن أبيه عن جدِّه عن أبي هند t قال: حَمَل تميمٌ -يعني الدَّارِيّ- من الشام إلى المدينة قناديل وزيتًا ومُقُطًا، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة، فأمر غلامًا يقال له: أبو البزاد، فقام فنَشَط المُقُطَ (الحبال)، وعلَّق القناديل وصبَّ فيها الماء والزيت وجعل فيها الفتيل.. فلما غَرَبت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها، وخرج رسول الله إلى المسجد فإذا هو بها تزهو، فقال: "مَن فعل هذا؟" قالوا: تميم الداري يا رسول الله. فقال: "نوَّرت الإسلام، نوَّر الله عليك في الدنيا والآخرة، أمَا إنه لو كانت لي ابنة لزوَّجْتُكَها" رواه القرطبي في المجلد السادس صفحة 274 ، فكانت تلك مكافأة عظيمة لبطل من أبطال الإنتاج في دولة الإسلام، ما حظي بها أحد كما حظي بها تميم. ‏ثم إن نوفل بن الحارث لما سمع مقالة النبي قال: لي ابنة يا رسول الله تُسمَّى المغيرة بنت نوفل، فافعل بها ما أردت؛ فأنكحه إيَّاها تفسير القرطبي 8‏/457.

 سابعاً - صناعة الاستثمار: ‏كان يشجِّع على الاستثمار فيما ينفع، فيقول: "مَنْ سَبَقَ إِلَى مَاءٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ"، فخرج الناس يَتَعَادَوْنَ يَتَخَاطُّونَ[2]. أي يتسابقون من أجل استثمار ما أذن به رسول الله. ‏وأقطع النبي بلال بن الحارث المُزَنيّ معادنَ القَبَلِيَّة وهي من ناحية الفُرُعِ (موضع بين الحرمين)، فكان يستخرج منها المعادن التي تحتاج إليها الدولة، ، قال مالك رحمه الله: فتلك المعادنُ لا يُؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاةُ[3].

 ثامناً - ‏صناعة الدواء: ‏حض النبي على اكتشاف الأدوية التي ‏يستعان بها في حفظ الصحة ودفع العلل والأمراض، فقال: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إِلاَّ الْهَرَمَ"[4]. وفي حديث آخر: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ"[5]. ‏وكان رسول الله يكثر المشي في الأسواق متفقدًا الأحوال الصناعية والتجارية والزراعية للمسلمين، ‏حتى نعى عليه المشركون ذلك، وأنكروه، قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]. فقال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. ‏وكان كثيرًا ما يحث أصحابه على الحركة والنشاط والعمل والتصنيع والحرفة.. روى ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي قال: "إنَّ اللهَ يحبُّ المؤمنَ ‏‏المُحْتَرِفَ" رواه الطبراني في الكبير والأوسط ؛ أي الذي له ‏صناعة يكتسب منها.

 ونتيجة لهذه الاستراتيجية الصناعية في الإسلام برع في ‏الصحابة صناع مهرة اشتهروا بالعديد من الصناعات، فكان خباب بن الأرتّ حدادًا يصنع السيوف، وكان سلمان الفارسي يعمل في صناعة نسيج السِّلال، وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل، وكان عثمان بن طلحة خياطًا.. ‏وفي أيام عمر وعثمان -رضي الله عنهما- قام المسلمون بتوظيف الهواء في استثمار الطاقة، فصنعوا الرَّحَى الهوائية، وفي زمن سيدنا عثمان أمر ألا يبقى في قرى المسلمين قرية إلا صنع فيها هذه الرحى. ‏وعني عمر بن الخطاب بالتصنيع الحربي، حتى كان بحوزة الجيش الإسلامي الذي فتح فارس عشرون منجنيقًا، على أنَّ أول منجنيق تم تصنيعه في الإسلام أثناء حصار الطائف. ‏واشتهرت صناعة السفن في خلافة عثمان بن عفان، إذ كان أول من أمر بتشييد دار لصناعتها، حتى كانت نواة الأسطول ‏الإسلامي في الفتوحات البحرية.
لقد نشطت الصناعة في عهد الأمويين: في صناعة الأسلحة الفردية والجماعية وتابعوا بناء دور الصناعة في شتى الأمصار العربية حتى كان للمسلمين في نهاية حكم ‏معاوية أسطولاً عظيمًا يتألف من 17000 ‏سفينة. ‏كما برعوا في العديد من الصناعات الأخرى التي انتشرت في ذلك الوقت، كالصناعات النسيجية، والمعدنية، والغذائية، وصناعة السكر، وصناعة الفُرُش، وصناعة الروائح العطرية، وصناعة الطواحين، وصناعة آلات القياس والأخشاب... وغير ذلك من الصناعات التي انتشرت في ذلك الوقت، كدليل على النمو والتطور الذي شهدته الصناعة في تلك الحقبة.

الصناعة في عهد العباسيين: فلقد ‏اعتنى العباسيون بتطوير تقنيات الصناعة، فاستخرجوا المعاد‏ن كالذهب والفضة من مناجم المغرب ومصر والسودان والحجاز وكرمان وما وراء النهر وخراسان، والحديد من غور فلسطين وفارس، والنفط والرصاص من فارس، والزئبق والفحم الحجري من مناجم ما وراء النهر. ‏

الصناعة في العصر الأندلسي: ولقد ‏اهتم المسلمون في الأندلس باستخراج الحديد والذهب والفضة والرصاص والنحاس والكبريت والياقوت والزجاج والإثمد ( الكحل).. وأقاموا في غرناطة وطليطلة معامل الحديد والصلب، وكان الفولاذ الأندلسي في ذا شهرة عالمية، وأنشئوا معامل البُسُط والحرير والفخار والزجاج والفسيفساء ودباغة الجلود والصياغة، وصناعة البارود والسكر والورق... ‏لقد كانت الصناعة العربية والإسلامية في العصور الوسطى –كما تقول زيجريد هونكه في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب)- موضع فخر الأوربي واعتزازه، فعندما يرى بين يديه سلعة كُتب عليها إنها من صنع دمشق أو بغداد أو القاهرة أو قرطبة.. تراه يُفاخر بها مَن حوله؛ لأنها صناعة عربيَّة!! ‏وأما ما اشتهر بعدئذ من احتقار للمهن، فهذا شيء استوحاه المسلمون من قِبل الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يعظمون ‏العمل العقلي ويحتقرون المهن، من ذلك قول الإمام الماوردي: "وأشرف الصناعات صناعة الفكر، وأرذلها صناعة العمل". ولعل هذا من أسباب تخلُّف المسلمين صناعيًّا في العصور المتأخرة في الوقت الذي تقدَّم فيه الأوربيون.. ولقد ‏تفوق العالم الإسلامي على امتداد التاريخ بالعديد من الصناعات التي لاقت رواجًا محليًّا وعالميًّا؛ بسبب الجودة والإتقان في الإبداع والتصنيع، من ذلك: ‏الصناعات النسيجية: وهي نوعان: الحريرية كالخز والديباج.. وقد اشتهرت في فارس والعراق والشام، والكتَّانية واشتهرت في مصر وفارس. ‏الصناعات الصوفية: وكانت منتشرة في كل أرجاء الدولة، لكن فارس امتازت بتصنيع السجاد الفاخر، واشتهرت أرمينية وبخارى بأنواع متميزة من البُسط.

تاسعاً - ‏الصناعات المعدنية: تكفيت المعادن (التطعيم) البرونز والنحاس بالذهب أو الفضة، واشتهرت الموصل بصنع الأدوات النحاسية للموائد، واشتهرت حرّان بصناعة أدوات القياس الدقيقة كالموازين والاصطرلابات. ‏الصناعات الغذائية: كالسكر في الأهواز وبلاد الشام، وماء الورد، والعطور.. وغيرها. الصناعات الزجاجية: وهي من أدق الصناعات الكيماوية وأعقدها، وقد سجل المسلمون فيها نبوغًا وبراعة في كل من فارس، والعراق، وسورية، ومصر.  

عاشراً - صناعة الروائح العطرية: في إقليم فارس، وماء الورد بمدينة جور (التي تقع جنوب فارس)، وكان ماء الورد يُنقل من جور إلى سائر البلدان، فيحمل إلى المغرب والأندلس ومصر واليمن وبلاد الهند والصين.

صناعة الطواحين: المائية أو الهوائية، وكانت تُصنع من ‏الخشب والحديد، وتسمى عربة، وبكل عربة حجران أو أكثر يطحن كل حجر منها خمسين وَقْرًا في كل يوم.

 صناعة الجلود: وقد اشتهرت هذه ‏ ‏الصنعة في المغرب العربي وبلاد الشام والعراق. ‏صناعة الرخام: وقد اشتهر في ظاهر الموصل لكثرته، وكذا في حواضر الأندلس، حيث كانوا يستخرجون منه ما يلزم لبناء الأروقة، والمنابر، والمحاريب، والأعمدة. ‏وثمة صناعات كثيرة اشتهرت في التاريخ الإسلامي كصناعة الحلي وصناعة الشمع وصناعة الجلد الصناعي وصناعة الساعات الرملية والماشية وصناعة الصابون وصناعة العطور وصناعة الورق... وغير ذلك من الصناعات العديدة التي تعكس بشكل من الأشكال النشاط الصناعي الكبير الذي كان رائجًا في تلك العصور، لدرجة أنّ عدد العمال المتخصصين في العديد من المدن الإسلامية بلغ رقمًا كبيرًا مقارنة مع عدد السكان , وذلك لفهمهم من أنَّ كلَّ علم أو صناعة يحتاج إليها الناس في دينهم أو دنياهم فتعلُّمها فرض كفاية على الأمة طلبًا لمرضاة الله تعالى وتكسبًا للرزق، حتى أصبح المجتمع الإسلامي مجتمع الوفرة الصناعية، التي عكست بدورها المكانة الحضارية للمسلمين في تلك العصور؛ إذ إنَّ تطور ‏الصناعة في مجتمع ما "يدل على درجة التحضر والعلم"، كما يقول ابن خلدون.

 رجالات الصناعة في القرآن:
 ‏قدَّم القرآن الكريم نماذج عديدة لرجالات كانوا مضرب المثل في المهارة الصناعية والجدّ والاحتراف، منهم:
 1- ‏سيدنا نوح: ‏كان نبي الله نوح من أعظم الأنبياء زهدًا، ومن أكثرهم بُعدًا عن زخارف الحياة، وقد أخبرنا الله سبحانه أنه حينما أراد أن يهلك قومه أمره فقال: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]. وبدأ نوح بصناعة فلك عظيم، لا يشبهه فلك في العالم؛ لأنه سيحمل فيه من كل صنف من الحيوانات زوجين اثنين عدا أصحابه وأتباعه. ‏لقد كان في قدرة الله أن ينزل تلك السفينة الضخمة من ‏السماء، أو يرفع بنوح وأتباعه الأرض، فلا يصل الماء إليهم، ولكن الله أمره أن يضرب ‏بمسماره على أخشابه، ليبني أعظم فُلك في الدنيا، قال تعالى: {‏وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 13-15].
2- ‏سيدنا داود: ‏أخبر الله تعالى بأنه امتنَّ على عبده داود  بتعليمه مبادئ الصناعة ‏العسكرية، فألان له الحديد؛ ليصنع منه الدروع التي تقي المحارب من الأخطار، فكان له قدم السبق في ذلك، وكان أول من سردها وحلَّقها، وكان إذا أتمَّ صنع درع باعها، فتصدق بثلثها، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله، وأمسك الثلث يتصدق به يومًا بيوم إلى أن يعمل غيرها.. قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]. وقال سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10، 11].
3- ‏ذو القرنين: ‏وهو رجل من الصالحين وقد وود في القرآن الكريم مثلاً للحاكم الصالح، حيث مكَّن الله تعالى له في الأرض، غربها وشرقها، فنشر فيها العدل والسلام، وكان مثالاً في تفوق الصناعة؛ إذ تمكن من بناء سد ‏من زُبر الحديد، يحول به بين شعوب يأجوج ومأجوج وبين الأمم المعذّبة.. فكان سدًّا عظيمًا لم يشهد له التاريخ مثيلاً! قال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 96، 97]. قال قتادة: ذُكر لنا أن رجلاً قال: يا نبي الله، قد رأيتُ سدَّ يأجوج ومأجوج. قال: "انْعَتْهُ لِي". قال: كأنَّه البُرْدُ المُحَبَّرُ، طريقة ‏سوداء، وطريقة حمراء. قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ قَدْ أَتَى الرَّدْمَ، فَلْيَنْظُرْ إلى هَذَا"[7]. ‏إننا إذ نستعرض هذه الأخبار نحسب وكأننا نتحدث عن حضارة في زماننا هذا! ولا عجب في ذلك، فقد كان رسول الله رجل يحمل دعوة يعلمها لاصحابه و ما شغلته دنياه عن آخرته، ولا شغلته آخرته عن دنياه؛ ولذلك حينما رأى شاة ميتة وكان هذا المنظر خليقًا أن يثير فيه نوازع الزهد، ولكنه أثار فيه نوازع الأمل، فالتفت إلى أصحابه وهم يتقزَّزون من المنظر، فقال: "هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ". فقالوا: إنها مَيْتَة. فقال: "إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا"[8].
ان من ‏وصايا النبوة للصناع والعمال ان  ‏قيّد الإسلام الحركة الصناعية بجملة من الضوابط والآداب التي تضفي على الصنعة بُعدًا أخلاقيًّا، إلى جانب ضمان الجودة والإتقان، من ذلك: ‏ضرورة إتقان الصنعة: ‏إنَّ ما يطلب من الصانع في أي مجال هو فيه أن يعمل بما علّمه الله تعالى عمل إتقان وإحسان بقصد نفع الخلق، ولا يصح أن يعمل على نيَّة أنه إن لم يعمل ضاع، ولا أن يربط إخلاصه في العمل بمقدار ما يتقاضاه من الأجر، بل على حسب إتقان ما تقتضيه الصنعة، قاr: "إنَّ الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"[9]؛ أي يُحكِمه. ‏المراقبة والمتابعة: ‏إنَّ أفضل الصناعات ما كان على عين صاحبها، يتابع مراحل تصنيعها، ويراعي مكامن الجودة فيها، لتُقدَّم للناس على أحسن ما يكون، أمَّا عندما يترك حبل الصناعة على غاربه، تكون المادة المصنعة مظنّة للخلل والفساد، وفي القرآن الكريم إشارة لطيفة إلى هذا المعنى، حيث قال الله تعالى في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]. فـ(العَين) في الآية مجاز في المراعاة والمراقبة[10]. ‏الالتزام بالمواعيد: ‏الالتزام بالعهد سمة المسلم، لكنّ بعض الصناع كثيرًا ما يعصون الله في المماطلة بالمواعيد، فيرتبطون بعقود مع الناس لا يقدرون على الوفاء بها، وإنما من باب حجز هذه العقود لصالحهم، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. فلا ينبغي للصانع أن يَعِد الناس بما لا يقدر على وفائه. ‏عدم كتمان العيوب: ‏لقد أذن الشارع بأن تصنّع مختلف أنواع الصنعة، لكنه لم يأذن للصانع بأن يكتم عيبًا يعلمه، بل هدّد كاتم العيب بالمقت واللعن، قال رسول الله: "مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتٍ مِنَ اللَّهِ وَلَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تَلْعَنُهُ"[11]. ‏عدم الحلف الكاذب: ‏يخطئ كثير من الصناع عندما يتبرعون بحلف الأيمان لحاجة ولغير حاجة؛ من أجل ترويج صناعاتهم، وقد قال رسول الله: "ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ...، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أَعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً)"[12]. وإنما خصّ النبي وقت العصر؛ لأنه الوقت الذي يريد فيه البائع أن ينفق سلعته، فيفتري الكذب ويستهين باسم الله، فيستهين الله به يوم القيامة. ‏ عدم ظلم الأُجراء: ‏من أخطاء الصناع أيضًا ظلم الأجراء، وهو باب يتفنَّن فيه ‏كثير من أرباب الصناعة.. فيدخلون على أموالهم ما ينبغي أن يُردَّ على أجرائهم، فيقعون بالشبهة والحرام، وقد قال: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"[14]. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: "قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتوفي مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"[15]. وبعد، ‏فإن اهتمام الإسلام بقضية التصنيع شكَّل فيما مضى حافزًا قويًّا لدى المسلمين نحو العمل والإبداع والتطور حتى كان لهم -في مرحلة زمنية معينة- قصب السبق في الميدان الصناعي. ‏على أن تراجع المسلمين صناعيًّا في العصور المتأخرة لا يعني عجزهم وعدم كفاءتهم عن مضارعة الدول الصناعية؛ فالمسلمون يملكون الإمكانات البشرية والفكرية والمهاريَّة اللازمة لبلوغ ذلك، ولئن كان د‏افع الصناعيين في العالم هو -على الأغلب- ماد‏ي، فأمامنا فرصة لكي نندفع نحو التصنيع الإبداعي بدافع إضافي، وهو: الدافع الديني؛ إذ مِن نعمة الله علينا أن جعل سعي المؤمن وعمله ونشاطه مدخورًا له عند ربه، يُؤجر عليه في الآخرة إذا ابتغى بذلك نفع نفسه وعياله ومجتمعه. ‏وآخر د‏عوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر: مجلة (منار الإسلام) - عدد فبراير 2011م. من المقالات التاريخية - الصناعة في الخلافة الأموية - المصنوعات الإسلامية .. الإبداع والتقنية - جمال وإبداع الاختراعات العلمية في الحضارة الإسلامية [1]. [2] أخرجه أبو داود. [3] موطأ الإمام مالك 2‏/254. [4] رواه ابن ماجه. [5] رواه أحمد في مسنده. [6]. [7] رواه البزار في مسنده. [8] رواه مسلم. [9] الطبراني في الكبير. [10] التحرير والتنوير 9/43 [11] رواه ابن ماجه. [12] رواه البخاري. [13] رواه أبو داود. [14] رواه ابن ماجه. [15] رواه البخاري.

كتاب حديث رمضان 17
جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات