وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ

 



وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ

{وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِ  شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ* وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ* وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}   (القصص 57 - 61).

قريش تبرر كفرها بالخوف على موقعها من العرب

إنهم يفكرون الآن في مواقعهم، كموقعٍ اقتصاديٍ يحافظون على قوّته، وكموقعٍ سياسيٍّ يعملون على الحفاظ على سلامته، وهذا ما يناقشه القرآن في هذا الفصل.

{وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} هذه هي الحجة التي خرجوا بها بعد أن أبطل القرآن في آياته، والنبي في أحاديثه، كل ما قدموه من حجج مضادة في مسألة العقيدة؛ فها هم الآن يتحدثون عن موقعهم الثابت كقوَّةٍ كبيرةٍ مهيمنةٍ على الواقع كله، وعلى الناس كلهم، في ما حولهم من المناطق، وفيمن حولهم من العرب، وذلك من خلال قيادتهم لخط الشرك، وإشرافهم على القيم المنحرفة التي تتحكم بالذهنية العامة للناس، بالإضافة إلى الكعبة التي تكرّست كموقع توحيدي من لدن إبراهيم، ولكنها تحوّلت كمركزٍ للأصنام في دائرة الجاهلية، وذلك في مزجٍ غامض بين الإيمان بالله الذي تمثله الكعبة، وبين الشرك به، الذي تمثله الأصنام. وقد استطاعوا أن يستفيدوا من ذلك موقعاً اقتصادياً متقدماً، وموقعاً ثقافياً بارزاً، فكانوا سادة العرب، وأشراف المنطقة.

إنهم حرّاس القيم العربية المنحرفة المتخبِّطة في أجواء الشرك والجاهلية، ولأن كل امتيازاتهم تقوم على هذا الدور، فقد كانوا يراجعون حساباتهم المادية قبل أن يفكروا بالدخول في الإسلام، لأنهم بذلك سوف يفقدون كل دورٍ مميّز، لأن الدين سيكون لله، وستكون الحياة كلها في خدمة القيم التي أوحى بها الله؛ وستتحرك قيمٌ جديدة لا مجال فيها للباحثين عن ذواتهم في حركة الواقع، لأن الذات سوف تكون في دائرة الإيمان في خدمة الله والحياة لتؤكد وجودها لدى الله، بقدر ذوبانها في خدمة عباده في ساحة رسالاته.

ولكنهم كانوا يريدون التعبير عما في داخلهم بطريقةٍ أخرى، فهم يحتجون بالخوف من التشريد والابتعاد عن أرضهم عندما يهجم عليهم الناس انتقاماً منهم، لأنهم تركوا الشرك واتبعوا التوحيد وتحوّلوا من دائرة الضلال إلى رحاب الهدى.

{وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} فلا يبقى منا أحدٌ فيها، ولا يبقى لنا شيءٌ منها عندما تهجم علينا العرب من كل جانب فتقتلنا وتنهب أموالنا، لأننا سوف نواجههم معك عندما تنشب الحرب بينك وبينهم، فنكون في موقع الضعف، ويكونون في موقع القوّة. وهذا ما يمنعنا من الدخول في دينك، لأننا لا نتحمل النتائج الصعبة المترتبة على ذلك، ولكن، هل هم جادّون في ذلك؟ وهل أن العرب ستقف هذا الموقف لو دخلت قريش في الإسلام؟ أو أن المسألة ستتطور لمصلحة الإسلام، باعتبار التأثير الكبير لقريش على القرار العربي ـ آنذاك ـ لما تمثله من موقع متقدم في مصالح الناس هناك؟

إن منطقهم هو منطق التهرب من المسؤولية، لأنهم يعرفون أنهم يملكون أكثر من موقع قوّةٍ في المنطقة المحيطة بهم، وأن العرب سوف تدخل في الإسلام إذا سارت قريش معه. فإن أكثر الحروب التي خاضها النبي(ص) كانت بتدبير قريش وتآمرها على الإسلام والمسلمين، وإذا كان النبي قد انتصر على العرب بدون قريش، فكيف إذا كانت معه؟!

القرآن يرد عليهم بمنطق الإيمان والواقع

ولكن الله يرد عليهم بطريقةٍ أخرى، ليوجّه تفكيرهم إلى جانب الثقة به، فهو الذي أعطاهم من فضله الكثير، وسهّل لهم العسير من أمورهم، وهو القادر على حمايتهم كما هو القادر على حماية دينه، فلا بد لهم من أن يتجهوا في اتجاه الثقة به في تركيز مستقبلهم على أساس قويّ، فهو الأساس للقوة والأمن والثروة والجاه الكبير.

وإذا كان الإيمان هو الحقيقة الأصيلة، كما يعترفون به بمنطقهم التبريري، فما قيمة الدنيا أمام عمق الحركة الإيمانية التي تربطهم بالله من أقوى المواقع وأوسع الأبواب؟ ففيه الخير كل الخير، والطمأنينة كل الطمأنينة، والحياة كل الحياة، فأين يذهبون بعيداً عنه، وكيف يهربون منه إلى من دونه؟

{أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} فمن الذي جعل لهم هذا البلد الحرام الذي يشعر أهله بالأمن من خلال احترام الناس لهم، في ما تعبدهم به من الحج إلى بيته المحرّم، فهل حققوا لأنفسهم ذلك الموقع، ولبلدهم ذلك المستوى، أو أن الله هو الذي حقق لهم ذلك؟ فكيف يخافون الضياع إذا ساروا مع الله؟ {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} مما يجلبه الناس من أرزاقهم وأرباحهم وزروعهم وصناعاتهم، {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} مما سهّل الله لهم أمره، ويسر لهم مصادره وموارده، فهو الرازق لعباده بأسبابه، وهو اللطيف بهم في رحمته، {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ولا يلتفتون إلى عمق التدبير الإلهيّ في امتداد حياة الإنسان، فيحسبون أن الأسباب الظاهرة المتحركة في سطح الواقع هي كل شيء، ويشتبه عليهم الأمر في ما يألفونه من ذلك، فيخيّل إليهم أن الشرك وعبادة الأصنام هما السبب في النعم التي يتقلبون فيها، ويخافون أن تزول عنهم عندما يتحولون إلى عبادة الله وحده، انطلاقاً من الجهل الكامن في شخصيتهم على أساس التخلّف الروحي والعقلي الذي يطبق عليهم من كل جانب.

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} فاتخذت الترف قيمةً اجتماعية، يتفاضل الناس بها، وتحركت في ألوان البطر كأسلوب من أساليب انتفاخ الشخصية بين أفرادها، وامتد الأمر بهم حتى خُيِّل إليهم أن الحياة قد استسلمت لهم بكل لذائذها وشهواتها، وأنها باقية لهم في ما يستقبلونه من الزمن في رحاب الخلود، في غفلةٍ من وعي القلب والفكر لحقائق الحياة والإيمان؛ فماذا حدث لهم؟

{فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} فقد تركوها جميعاً، وسيطر عليها الخراب والدمار، ولم تتماسك من بعدهم إلا زماناً قليلاً، ثم تساقطت على عروشها، وأحاط بها الموت من كل مكان.

{وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} الذين نرث الأرض وما عليها، لأننا المالكون للحياة ولمن يتحرك فيها، وكل الخلق مملوكون لنا، ونحن الباقون، والآخرون من عبادنا يسقطون تباعاً في امتداد الموت في أجسادهم ومساكنهم، وكل ما يتعلق بعلاقتهم في الدنيا؛ ونحن الذين نرث الكون كله، فلا يبقى إلا الله. وإذا كانت القضية هي هذه النهاية، فما هي القيمة في كل هذا البطر الذي تتقلبون فيه، وهذه النعم المادية التي تستغرقون في لذائذها وشهواتها؟ وما هو جانب الخلود فيها؟ فإذا لم تبق القرى التي طغت في معيشتها في أجواء البطر، فهل يبقى لكم ما أنتم فيه، وهل تبقون ـ أنتم ـ في ما تتمنون من الخلود؟ فكيف تفضلون القيمة الفانية، التي هي المادة، على القيمة الباقية التي هي رسالة الإيمان؟

إهلاك القرى بعد إقامة الحجة عليها

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنَا} أي حتى يقيم عليها الحجة بإرسال الرسول في عاصمة القرى التي يرجع الناس إليها في أمورهم، وينطلقون منها في انتماءاتهم العقيدية، وخطوطهم العملية، باعتبارها ملتقى الأفكار، وقاعدة القيادات، وبهذا كانت الدعوة التي يقوم بها الرسول، منطلق تأمّلٍ وحركة حوارٍ، وقاعدة حجّةٍ، حتى لا يبقى لأحدٍ عذرٌ في كفر أو ضلال.

{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} بما يأخذون من أسباب الكفر ويتحركون من أوضاع الضلال، فيظلمون أنفسهم لما يعرّضونها له من الانحراف عن خط الاستقامة ومن العذاب في يوم القيامة، فتكون الحجة من الله عليهم، ولا تكون لهم حجّةً على الله. {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} فهي مجرد حاجةٍ طارئةٍ تعيش مع الناس برهةً من الزمن، في ما يستمتعون به منها من شهوات، وما يتزينون به من زينةٍ، ثم تتبخر الشهوات مع الموت، فتموت، وتزول الزينة، مع كل غبار العمر ورياح الفناء. {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} لأنه النعيم الخالد في جنة الرضوان وفي رحمة الله ورضوانه، فليس هناك موتٌ يفني النعمة، وليست هناك طوارىء تزيل الزينة وتفسدها، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} لتفكروا كيف تختارون مواقعكم في ما تختارونه من مواقفكم، وكيف تميِّزون بين ما تبقى تبعته وتزول لذته، وبين ما يفنى تعبه وعناؤه ويبقى أجره وثوابه؟! وليست المسألة هي أن تتركوا طيبات الحياة كأساسٍ للقرب عند الله، ولكن المسألة هي أن لا تتركوا الإيمان في فكره وحركته، لتأخذوا بالشهوات وتفضلوها عليه على أساس النظرة الحسية التي ترتبط بالأشياء بشكل مباشر من خلال السطح، بدلاً من النظرة المعنوية الرسالية التي تنفذ إلى عمق الأمور، فتنفتح على الخير كله في رحاب الله.

{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ} في ما أردناه من الإيمان والعمل الصالح والالتزام بالرسالة والرسول، ليحصل على الجنة والرضوان في ما يلتقيه في يوم القيامة، {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فذاق من لذائذها وشهواتها، واستمتع بزينتها وزخارفها، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه، وترك الإيمان وخط التقوى، {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} الذين يقفون بين يدي الله ليحاسبهم على مواقفهم في الكفر والعصيان، فلا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً، فكيف يفكر هؤلاء الكافرون؟ وكيف يفضلون النتائج الزائلة على النتائج الدائمة؟!

إرسال تعليق

0 تعليقات