العرب قبل الإسلام

 

العرب قبل الإسلام

 

عُرفت الفترة التي سبقت الإسلام بإسم الجاهلية. وهذا اللفظ مشتق من الجهل ضد الحلم لا من الجهل ضد العلم وهذا ما نفهمه من شعرهم ومنه ما ورد في معلقة عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا            فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقد روى مسلم في صحيحه على لسان السيدة عائشة رضي الله عنها أن سعد بن عباده (-وهو سيد الخزرج- وكان رجلاً صالحاً ولكن إستجهلته الحمية)، أي استخفته وحملته على الجهل. (صحيح مسلم ج4 ص2134 رقم56 طبعة الحلبي).

وعندما نقول أن الجهل عندهم هو ضد الحلم وليس عدم العلم فإننا نقول ذلك لوجود العلم عندهم وأدلتنا كثيرة أهمها اللغةُ العربية التي تدل على أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا قوماً جاهلين.

ومنها مثلاً أن العرب قد وضعوا أربعين لفظةً مختلفة المعاني لثمرة العنب منذ أن يكون زهرة إلى أن يصبح زبيباً، أضف إلى ذلك أنهم عرفوا وتكلموا في علم التشريح ولم يدعوا فيه صغيرة ولا كبيرة إلا وقد وضعوا لها أسماء. وقد عرفوا من علم الفلك ما عرفه معاصروهم، بل وضعوا لبعض الكواكب أسماء سواء السيارة منها أم الثابته وصدق الله العظيم {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} النجم 49.

إن الجاهلية ليست فترة زمنية حتى وإن فهم البعض منهم ذلك، فحين يسمع هذه الكلمة ينصرف ذهنه إلى فترة ما قبل الإسلام وذلك لأن الجاهلية حالة مجتمعية معينة تصف مجتمعاً معيناً بناءاً على مفاهيمه وتصوراته العقائدية ونظمه التي يتحاكم إليها وانها ذات تصورات معينة للحياة، فقد وجدت قبل مجيْ الإسلام ويمكن أن توجد هذه الحالة وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان. فوجود الجاهلية متعلق بوجود هذه التصورات وهذه المفاهيم التي كانت سائده.

فالجاهلية هي: مجموعة وجهات نظر آمن أصحابها ودعاتها بها بل ودافعوا عنها دفاع المستميت واتخذوا أجراء الحياة أو الموت في سبيلها.

فالعزة بالنسبة للجاهلي الذي إنعدم عنده الحلم هي وجهة نظر يدافع عنها بحياته، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عائشة رضي الله عنها (هل تدرين لم كان قومك رفعوا باب الكعبة؟ قالت: لا. قال: تعززوا أن لا يدخلها الا من أرادوا).

والذل مفهوم عندهم والشرف والفخر والتباهي بالمال والأولاد والتفاخر بالأنساب كذلك يدافع عنها دفاعه عن وجوده فهذا عنتره بن شداد يقول:

لا تسقني كأس الحياة بذلة               بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

وكذلك كان للجاهلية تصورات عن الإله وأنه يختلف عن الرب فالإله واحد والأرباب كثر وصدق الله العظيم )وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ( (العنكبوت 61) فهم يعترفون بوجود الله الخالق للسموات والأرض ومع ذلك يتخذون من دونه أرباباً، وقد قال الله يبحانه وتعالى عنهم: )وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى( (الزمر 3). فهم يتخذون الأرباب وسطاء لهم بينهم وبين الله عز وجل.

وكل هذه التصورات تعبر عن الكبر والبطر والإستعلاء والنظر إلى الغير من منظور قوته وضعفه وعزه وذله وغناه وفقره وحسبه وعشيرته.

 فلم تكن الجاهلية اصطلاحاً يعبر عن عدم وجود علم وإنما يعبر عن طغيان هوى النفس ويريد هذا الجاهلي أن يوجده حياً في الواقع الذي يعيش فيه فإذا سألته عن دليل لما فعل كان جوابه الأنفة والكبر والفخر وإليك على ذلك قصة قبل أن نكمل حتى تتضح الصوره فقد وفد الشاعر عمرو بن كلثوم على ملك الحيرة عمرو بن هند فقالت أم عمرو بن هند لأم عمرو بن كلثوم ناوليني هذا الإناء أو الوعاء. فصاحت واذلاه. واذلاه فقام عمرو بن كلثوم على مضيفه عمرو بن هند فقتله حين سمع أمه تصيح وقام قومه واقتتلوا قتالاً عظيماً وقال عمرو بن كلثوم معلقته التي يقول فيها:

بأي مشيئة عمرو بن هند          تهددنا الوشاة وتزدرينا

بأي مشيئة عمرو بن هند          نكون لخيلكم فيها قطينا

تهددنا وتوعدنا رويداً          متى كنا لأمك مقتوينا

ملأنا البَر حتى ضاق عنا          وماء البحر نملأه سفينا

فإن هوى النفس والكبر والبطر الذي يصور للجاهلي بأنه أفضل من غيره وهذه الأفضلية كونه إبن كذا وكذا ومن قبيلة كذا وكذا فلا يلزمه دليل بل يوجد الدليل والدافع لفعله بنفسه وفق أهوائه وتصوراته.

فحميته وعصبيته وهذه التصورات التي تخضع لأنفته وعزته وتعاليه هي التي أوجدت عنده قاعده (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) بالمفهوم الجاهلي. ضمن هذا التصور كانت الفترة الجاهلية فترة ً عمياء غليظة الحس، حيوانية التصور هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين، فلا طهارة ولا زكاة ولا بركة بل قتل وإغارة وخمر وغزو وتفاخر. وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب). (ظلال القران سيد قطب).

وتتضح الصورة بالقرآن في قوله عز وجل: )إِذْْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ( (الفتح 26). نعم إنها حمية الجاهلية، حمية لا لعقيدة ولمنهج بل حمية الكبر والبطر والفخر والتعنت، الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه الدعوة وهم الذين كانوا يصفون الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين قبل بعثته، ثم إتهموه بعد بعثته وصدق الله العظيم:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} الأنعام 33، قالوا شاعر وقالوا كاهن يعلمه وقالوا ساحر وسحر يؤثر.

وهم الذين منعوا الرسول ومن معه من أن يدخلوا المسجد ويحبسون الهدي الذي ساقوه أن يبلغ المحل الذي ينحر فيه. مخالفين بذلك أعرافهم التي تعارفوا عليها حتى لا تقول العرب أنه دخلها عليهم عنوة، ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته.

وهذه النعرة الجاهلية ظهرت في رد سهيل بن عمرو لاسم الرحمن الرحيم ولصفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهي تنبع من تلك الجاهلية المتعنتة بغير حق، فعندها قالوا: إنهم يقتلون أبنائنا وأخواننا ثم يدخلون علينا منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبداً.

فالجاهلي الذي ينسب للجاهلية ينسب لها بما يحمل من فكر جاهلي، فكر البطر والكبر والتعالي والتعنت بغض النظر عن الفترة، وتلك الصيغ التي سمعناها في مقالات الجاهلين وشعرهم نسمعها اليوم بنفس الأفكار وإن إختلفت الكلمات.

فالديمقراطية والوطنية والقومية والبعثية والناصرية وغيرها كثير كلها دعاوى جاهلية أثر فيها هوى النفس والبطر وغمص الناس وصدق الله العظيم: )وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا( (البقرة 217).

إن ضبط السلوك وفق قواعد مختلفه تجعل هذه التصرفات تختلف تبعاً للقاعدة التي حددتها فإذا كانت القاعدة واحدة وهي التي تضبط هذا السلوك لم يحصل خلل في هذا السلوك بل تكون كل هذه الأفعال وفق قاعدة واحدة، وهذا الأمر هو الذي وجد في الجاهلية وهو الذي حدد تصرفاتهم وسلوكهم.

إن ضوابط السلوك عند الجاهلي قد قامت على أساس رد الفعل، وليس على أساس ضبط الفعل، فأغلب سلوكهم قام على أساس ردود الافعال التي هي في واقعها مظاهر للغرائز أو إشباعاً للحاجات فظهر الفخر بالأنساب والعمومة والخوولة وانه من قبيلة بكر بن وائل أو من تغلب أو من هاشم أو من قريش، وكان هذا الأمر هو الذي يدفع للإقتتال فيما بينهم فتنشب الحرب الضروس الطاحنة من أجل الإنتصار للعشيرة بغض النظر أكانت على الحق أم لا. فكانت طريقة التفكير عندهم تقوم على أساس الإحساس بالواقع ثم الانتقال إلى العمل مباشرة دون المرور بالتفكير وهذا ما هو موجود عندهم في كل أمورهم فجاءت أقوالهم (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) تقوم على أساس هذه القاعدة.

والمعاندة لاثبات الوجود والانتصار للرأي بغض النظر عن صحته وخطئه هو القاعدة التي تدور عليها ردود الأفعال ضد الغير، فالجوار مثلا قام على أساسها لاثبات الوجود ورد فعل لأمر حصل، فالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول في جواره بعد أن منع من دخول مكة بعد ذهابه إلى الطائف قام بهذا الفعل ولم يكن مؤمناً ليقول لقريش أنه قادر على حماية النبي صلى الله عليه وآله وسم وأنا موجود.

والخوف من العار أيضاً كان سمة بارزة في الحياة عندهم بغض النظر عن الحق والباطل فأبو طالب يقول للرسول (أخاف أن تعيرني نساء قريش) إن هو آمن هو رد فعل قد حسب حسابه.

قلنا إن أغلب سلوكهم قام على أساس ردود الأفعال التي هي في واقعها مظاهر للغرائز واشباع الحاجات وقد تكلمنا قليلاً عن الغرائز وأما ردود الأفعال التي قامت على أساس الحاجات فإن الاقتتال على الماء والكلأ والمراعي قد ظهر ظهوراً جلياً سنستعرضه عند ذكر أيام العرب في الجاهلية ومسألة الحمى أيضاً كانت ظاهرة وهي أن الأمير أو الشيخ أو القبيلة يقول إن منطقة كذا وكذا هي حمىً لفلان أو لآل فلان فلا يرعى فيها أحد إلا إبله وكل من اعتدى على هذه الحمى يحارب ويقاتل.

والخلاصة أن التنافس في هذه الصحراء القاحله كان على مادة الحياة وهي الماء والكلأ ويقول في هذا شاعرهم :

ونشرب أن وردنا الماء صفواً          ويشرب غيرنا كدراً وطينا

والأمر الثاني أن التنازع على الشرف والرئاسة كان أيضاً سمة بارزة، فنرى أن أغلب المعارك والحروب كانت بين أبناء العمومة، والشعراء كانوا هم الذين يوقدون نار الفتنة ويذكرون مآثر شيوخهم وزلات أو مناقص منافسيهم ليلحقوا بهم العار والذل، وهذا العار والذل إذا لحق بواحد من أفراد القبيلة لم تسلم قبيلته من هذا العار.

فالسلوك يوصف بأنه سلوك جاهلي أو سلوك غير جاهلي، فالإنتقال من الاحساس بالواقع إلى العمل دون أعمال فكر هو سلوك جاهلي ويشرح هذا السلوك شاعر جاهلي هو دريد بن الصمة:

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت          وإن ترشد غزية أرشد

فكل من ضبط سلوكه وفق هذا المعنى هو جاهلي، وهذا الوصف هو وصف للسلوك ولا يدل على فترة زمنية كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم أو يكونوا شراً عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها، كلكم بنوا آدم وآدم من تراب، إن الله اذهب عنكم غيبة الجاهلية وفخرها بالأباء، الناس مؤمن وتقي وفاجر وشقي).

وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (أيما رجل شد عضد إمرىء من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع منها).


الأوضاع والتقسيمات السياسية في الجزيرة العربية قبل الإسلام.

1.   الملوك المتوجون وكانوا تابعين لملوك آخرين ولم يكونوا مستقلين إستقلالاً تاماً ومن ممالك بلاد العرب معين وسبا وحمير ومنهم الملوك التبابعة واحدهم (تبع) وكان التبع بمنزلة الإمبراطور أو ملك الملوك لسيادته على عدة ملوك حول اليمن وكذلك كان في جزيرة العرب ملوك قبيلة كنده وكان موطنهم حضر موت.

2.   مملكة سبأ: وكانت بين معين وقتبان وإمتد نفوذها إلى ساحل الخليج شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً وبها كان سد مأرب وقد ذكرت سبأ في القرآن الكريم )لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( (سبأ 15).

3.   مملكة حمير: كانت حمير بين سبأ والبحر الأحمر وتشغل الأراضي التي أطلق عليها إسم قتبان.

4.   مملكة الحيرة: إستوطن بعض القبائل العربية الاراضي القريبة من حدود الدولتين الرومانية ودولة الفرس وتمتعت بإستقلال محدود وإستعان الفرس والروم بهذه القبائل على أغراضهم السياسية التي كانت ترمي إلى الوقوف في وجه القبائل العربية الأخرى حتى لا تغير على بلادهم وتهدد أمن القرى الزراعية والمراكز التجارية. وقد تأثر المناذرة وهم ملوك الحيره بحضارة الفرس لمجاورتهم ولعلاقاتهم معهم.

5.   مملكة غسان: وهم قبائل عربية من قضاعه سارت إلى الشام وسكنت في شمال شرق الجزيرة العربية في الأراضي التي يطلق عليها اليوم إسم شرق الأردن ولما انهار سد مأرب هاجر الأزد إليها وسكنوا على ماء يُقال له غسان فسموا أزد غسان وكانوا حلفاء للروم ومن ملوكهم جفنة بن عمرو وقد كان ملك الغساسنة يقيم حول دمشق وتدمر ومن ملوكهم جبلة بن الأيهم.

كما كانت كل قبيله أو عشيره تؤلف جماعة مستقلة تمام الاستقلال وينسحب هذا الاستقلال أيضاً على أفراد القبيلة، فكل فرد لا يعتبر زعامة شيخ القبيلة إلا رمزاً لفكرة عامة يأخذ هو منها نصيبه وله أن يرفض ما اجتمع عليه رأي الأغلبية من أبناء قبيلته. وكان يختار لرئاسة القبيلة أكبرهم سناً أو أعظمهم مالاً ونفوذاً أو أجدرهم بكسب الإحترام.

ولم تكن في الجاهلية سلطة تنفيذية تضرب على يد المعتدي أو توقع العقاب عليه وإنما كان المعتدى عليه يأخذ ثأره بنفسه وعلى القبيلة أن تساعده وتسانده وتشد من أزره ضد خصمه بمعنى أن العار يلحق بمن لم ينصر إبن عمه وإبن قبيلته إذا قعد عن نصره.

وإذا تشعبت بطون القبيلة الواحده تنافس أفراد كل بطن على الرئاسة والشرف وإن كان يجمعهم أب واحد كما حصل بين الأوس والخزرج وعبس وذبيان وبين عبد شمس وهاشم وبين ربيعة ومضر والصراع بين هذه الممالك يكون بأمر السيد المطاع في المدائن أو القسطنطينية.


من كتاب قراآت سياسية من السيرة النبوية ، جواد عبد المحسن الهشلمون

إرسال تعليق

0 تعليقات