واجبات الأمة الوسط

واجبات الأمة الوسط

(1)

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} لبقرة 143

1 – إن الله سبحانه وتعالى أكرم المسلمين واصطفاهم وصنعهم ليكونوا أهلاً لحمل الرسالة في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ}البقرة ،والفرق بين الخلق والجعل ، أن الخلق هو الإيجاد من عدم وأن الجعل هو التصبير بعد الخلق ، فالله سبحانه وتعالى أوجد الخلق من عدم ومنهم بنوا آدم ..... وصبرَّ أمة محمد من بني آدم لأن تكونَ الأمة الوسط ...... وأوسط الشيء أعلاه وأعدله ، وهذا التصبير ، وهذه المرتبة العليا السنية هي من أجل أمر قضاه الله وقدرهُ {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} البقرة .

لقد كان هذا التصبير لامرٍ ولم يكن عبثا ، وهذا الأمر يقتضي إختلافنا عن غيرنا في قضية نظرتنا لهذه الحياة وسبب وجودنا ، إذ أننا نحن الذين نحمل أمر الله ونهيه إلى الناس ، ونحن الذين نحمل المسؤولية بكوننا نحن الشهداء على الناس ، فقد روى أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يارب ، فيقول هل بلغت ...؟؟؟؟ فيقول نعم ، فيقال لإمته هل بلغكم ..؟؟؟ فيقولون ما أتانا من نذير ..!! فيقول من يشهد لك ...؟؟؟ فيقول محمد وأمته فيشهدونَ أنه قد بلَّغ ) وفي مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ) .

إن المرتبة التي وضعنا فيها ربنا هي مرتبة الشاهد وفي كل أمر فإن مرتبة الشاهد أسمى من مرتبة المتهم بل ولا تقارن بها ، والله جعلنا الشهود العدول ، والشاهد العدل غير مطعونٍ في شهادته ، فكان حمل الإسلام مرتبة تعلو وتسمو بصاحبها ويسمو صاحبها بها .... فإذا تخلى عنها سقط وانزلق في ظلمات الجهل والوحل وصدق الله العظيم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110 ، وقوله تعالى {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأنعام122 .

2 – إن طغيان المادية على العلاقات والتعامل يجب أن لا تؤثر مطلقاً على القضية التي نحملها وهي قضية ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ولا يمكن الفصل بين ( لا إله إلا الله ) و ( محمد رسول الله ) فالخالق عز وجل أوجد الوجود من العدم ، وأرسل لنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً ، فصرنا بهذه العقيدة في منزلة الشهداء العدول على الناس وحاشا الله ان يخذل شهداءه ، والشهداء العدول لابد أن تتَّضح لهم فكرة الثمن وضرورة فصلها عن الأفكار والمقاييس والقناعات التي يحملونها ، فهذه الأفكار والمقاييس والقناعات لا تدرج مطلقاً في خانة الثمن ولا تخضع للمساومة ، ذلك ان الفرق واسع شاسع بين عروض التجارة وبين حمل الإسلام كمبدأ عقيدة وأحكام شرعية ، إذ يمكن لعروض التجارة أن يساوم المرء فيها وعليها ، بعكس المفاهيم والمقاييس والأفكار .

إن فكرةَ الثمن أو ما يمكن لك ان تحقق من مكاسب هي فكرة قديمة قدم الدعوة وظهورها فقد قالتها بنو عامر بن صعصعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ( ارأيت أن نحن تابعناك فاظهرك الله على من خالفك ان يكونَ لنا الأمر من بعدك ) ثم عللوا فقالو ( اتنهدف نحو دنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الامر لغيرنا .....؟؟؟ لا حاجة لنا بأمرك ) فإن هذه الأقوال وغيرها ممن يشابهها إنما هي أفكار مادية محضة .... فلا يمكن ابعادها او نفيها إلا بالاعتقاد الجازم .... بأن هذا الأمر لا يخضع لمثل هذه الأفكار وأنه ليسَ من جنسها ولا يقاس بمقاييسها وأن هذا المبدأ الذي يحمله لا يحتمل مطلقاً ولا يخضع لميزان الربح والخسارة ، بل له إحتمال واحد فقط عز الدنيا والأخره وصدق الله العظيم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }آل عمران142 ، وقوله تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ }المؤمنون111.

هذا هو جزاء الصبر على حمل الإسلام وتبليغ دعوته وهداية الخلق إليه ، فلم تسأل سمية ولا عمار ولا ياسر ولا بلال ولا عمر ولا أبو بكر عّما يمكن تحقيقه من حمل الإسلام ، بل هي القناعات فقط ولاشيء غيرها وأن الله الذي أوجد الخلق من عدم واجب الوجود وواجب العبادة والطاعة فيما أمر فنعبد الله عز وجل كما أراد لا كما نريد .

3 – {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } البقرة143 ، ذلك ان الله عز وجل جعلنا الشهداء على الناس وحاشا لله ان يخذل شهداءه فكان حُسن الظن بالله عز وجل هو الزاد لطريق حمل الدعوة وأنه عز وجل معه يرافقه ويعينه في كل حركة وسكنة ، بل أن فكرةَ ( المعَّيةِ ) يجب أن لا تفارق حامل الدعوة ولا أن تغيب عن فكره لحظة ..... وأنه بمعية الله .

إن المعية إما أن تكون خاصة أو أن تكونَ عامة ، فأما المعية العامة فإنه جل وعلى لا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السماء وصدق الله العظيم {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }الأنعام59 ، وقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }المجادلة7 ، فلا يقع في ملكه أمر إلا يعلمه ويدركه {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى }الأعلى 7، وأنه جل وعلى مع كل مخلوق بغض النظر عن دينه وإعتقاده .

وأما المعصية الخاصة فإنها لعباده المؤمنينَ وهي معية إعانةٍ ونصر وتأييد والفَصْلُ لازم هنا بين المؤمن وغيره في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } الحج 28 ، فدفاعه عز وجل عن المؤمنين الذين يحبهم ويحبونه ، وليسَ عن غيرهم فميزهم بحبه ودفاعه عنهم لأنهم بمعيته عز وجل وقد وضعهم بأوصاف متعددة وأثبت معيته عز وجل في كل وصف وصفه فقال عز وجل{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة153 ،وقال {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }النحل128 فالصبر والتقوى والإحسان أوصاف إتَّصَفَ بها هؤلاء فكانوا بمعية الله عز وجل .

أنه لابد لكل حامل دعوة أن يستشعر عظمة الله عز وجل وأن يعتقد جازماً أنه بمعية الله ، وأن هذه المعية هي الزاد الكافي لهذه الحياة وما فيها من سنين عجافا وأنه من كان في معية الله فإن الله عز وجل ناصره ومؤيده وحارسه وحاميه وأن يكون لسان حاله وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ{45}} غافر 44 – 45 ، فلم يثن موسى كيد فرعون وجمعه وملأه بل مضى يبلغ رسالة ربه وهو يدرك أنه بمعية ربه ، بل ظهر هذا الأمر جلياً وهو في موقفٍ البحر أمامه وفرعون وجنوده خلفه ويصف الله هذا الموقف في قوله تعالى فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ{61} قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ{62}الشعراء 61-62 ، وقبلها قال موسى وأخوه هارون في قوله تعالى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى{45} قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى{46} طه 45 – 46 ، وكذلك عندما كلفه القيام بأعباء تبليغ الرسالة فشرح موسى لربه ما كان منه سابقاً في قوله تعالى {13} وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ{14} قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ{15} الشعراء 13-14-15 .

وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما هاجر مع أبي بكر وجلسا في الغار ، وقريش وما أدراك ما قريش وهي تبحث عنهما وفي هذا الموقف يقول أبو بكر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم : لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا فيجيبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الفور : ما ظنك بإثنين الله ثالثهما ...؟؟؟ فنزل قوله تعالى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا }التوبة 40 .

إن هناك فرق بين أدعائنا بأننا في معية الله عز وجل وأننا من الصابرين وبين قوله عز وجل {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة153 ، {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }النحل128 ، فقوله عز وجل تقرير بأنه معهم وليسَ قولنا ولكننا بحسن ظننا به عز وجل نسأله أن يكون معنا .

4-{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}البقرة143

إننا أصحاب قضية ونتعامل مع غيرنا على أساس قضيتنا نحن ونظرتنا لهم تكون عبر قضيتنا وعبر زاوية نظرنا نحن وها التعامل مع الغير لا بد أن تنتج عنه مشاكل وتضاربٌ في الآراء, وهذه المشاكل الناتجة لا بد من التعامل معها وعلاجها على أساس المبدأ الذي نحمله والفرق واضح بين نشوء مشكلة وتشخيصها وبين كيفية التعامل معها

إننا إذا أردنا أن نعرف المشكلة فإنها اختلاط أمر بأمر .وهذا يؤدي إلى عدم وضوح الرؤيا مما يؤدي إلى إصدار أحكام خاطئة تبعاً للمعطيات الخاطئة التي صدر الحكم أو استند إليها

ا- إن تشخيص مشكلة المسلمين على أساس العقيدة الإسلامية هو تشخيص خاطئ لمشكلة قائمة بل ويؤدي حتماً إلى إضافة مشكلة أخرى للمشكلة القائمة , فلا بد من تشخيص مشكلة المسلمين من المسلمين أنفسهم على أساس عقيدة الإسلام وليس على أساس عقيدة أخرى, فمشكلة الحكم والشورى والبطالة والتضخم والفقر والمرض لا بد للمسلمين من تشخيصها على أساس عقيدة الإسلام وأحكامه وليس على أساس عقيدة الرأسمالية والاشتراكية وأحكامها.

ب- إن الفرق واضح بين تشخيص مشكلة مادية تعتمد الخبرة والتجربة والاستنتاج لاستخلاص عبرة و وبين هذا الأمر المتعلق بالعقيدة وبالفكر الأساسي فرب طبيب يحمل الفكر الرأسمالي ويكون أمهر من الطبيب المسلم في تشخيص مرض وليس هذا ما نبحثه أو ما نحن بصدده , وإنما الذي نحن بصدده أن العلاج لا بد ان يمارسه المسلمون بعد أن يشخصوا مشكلتهم وأن لا يلجـأوا للغير لعلاج مشكلتهم

إن غير المسلمين يعتمدون الحلول للمشاكل ولا يعتمدون العلاج إذ أن الحل يتعامل مع أعراض المشكلة ولا يوجد العلاج الناجع لأصل المشكلة .... فالفقر مثلاً يحلونه بالاقتراض ولا يتعاملون مع أسباب الفقر لعلاجها هي فينتج عن هذا الحل الآتي مشكلة أخرى وهكذا فلكل مشكلة تحل تُنتج مشكلة

عن أي علاج لمشكلة ما لا بد له أن يستند إلى حكم شرعي منبثق عن العقيدة الإسلامية فالحكم والفقر والجوع والبطالة والثروة والمادة الخام والجهل وغيرها من المشاكل قد عالجها الإسلام بالأحكام الشرعية , فلا يجوز للمسلمين أن يلجأوا لغيرهم لحلها لهم , بل لا بد لهم أن يعالجوا مشاكلهم بالأحكام الشرعية التي انبثقت عن عقيدتهم

ج- إن الأمة الوسط التي اختارها الله وحباها وأنعم عليها بنعمة الإسلام عقيدة ونظام حياة لا يجوز لها بحال من الأحوال أن تستعير فكراً أو مفهوماً أو مقياساً أو وجهة نظر من الغير لتحل مشكلة طرأت أو تقضي حاجة استجدت, بل واجب عليها أن تعالج ما استجد, فمثل هذه الأمور لا تستعار مطلقاً .... فيمكن استعارة ماعون من الغير لقضاء حاجة وهذا ممكن ومعقول ولكن أن تستعير الأمة الوسط فكراً أو مقياساً فهذا غير معقول

4- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} لقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال( تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ) فكان مَرَدَّ كل أمر أو رأي للشرع وللشرع فقط وهذا هو الحق الذي تحمله الأمة الوسط, فالحق لا تقرره أقلية أو أكثرية وإنما الذي يقرر الحق هو الشرع فكان كل رأي أو مفهوم أو وجهة نظر أو مقياس وضع على أساس غير الشرع مردوداً وحامله آثم .... فالأمة الوسط لا تقرر موقفها تجاه أي أمر سواء أكان في الحكم أو القضاء أو الاقتصاد أو الاجتماع أو البطالة أو الفقر إلا على أساس الشرع لإظهار الحكم الشرعي في هذا الأمر بغض النظر أوافق الهوى أم خالفه لأنه الحق

إن الأمة الوسط والتي تحمل الحق لا يعطيها حملها لهذا الحق أن تتنازل عنه أو عن جزء منه ولا أن تتذرع بذريعة التنازل عن هذا الجزء أو التغاضي عنه إنما هو للحفاظ على الكل.... فلا يملك أي حامل للحق أن يتنازل أن أن يفرط بما يحمل, فالحق كلٌ لا يخضع للتجزئة وكذلك الباطل فلا يوجد حامل لنصف حق أو حامل لنصف باطل

إن الباطل يعمل بكل ما أوتي من قوة ومال ونفوذ وعملاء فكريين ممن يلبسون على الناس دينهم حتى يأخذ مشروعية وجوده من الحق.... حتى يصبح وجود الباطل شرعياً باعتراف (ازلام) الحق به ومن يفعل ذلك فإنه قد سلخ نفسه عن الأمة الوسط, وهذا ما نراه في العراق حول التصويت على المعاهدة الأمنية مع أمريكا وفي فلسطين في اتفاقية أوسلو وفي باكستان باتفاقية محاربة الإرهاب وفي اتفاقيات حكام الجزيرة العربية مع الكفار

لقد قلنا إن الباطل حين يطلب الحق لا يطلبه لأتباعه وإنما يطلبه ليأخذ شرعيته منه حتى يصير وجود الباطل شرعياً فالربا باطل.... ويحتاج صاحبه أن يجعله نوعاً من أنواع المعاملات الجائزة شرعاً .... فلا يملك أحد أن يعطي هذه الصفة للربا.... وكذلك الأرض الإسلامية فإنها أرض لا يجوز ولا يستطيع أحد أن يغير صفتها

5- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وهذا الجعل مرتبة شرفنا الله بها فلا بد من المحافظة عليها فدلنا ربنا على هذه الكيفية فقال{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}آل عمران 110 فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مقومات استمرار تلبسنا بهذه الصفة التي وصفنا ربنا عز وجل بها فنحن خير أمة أخرجت للناس ما دمنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض فرضه الله على الأمة الوسط حتى يبقى الإسلام صاحياً في قلوب حامليه فالإسلام عقيدة ونظاماً هو القاسم المشترك الذي لا يختلف عليه اثنين من المسلمين .., فأي خروج أو تنكبٍ قد يطرأ ولا يقمع في بدايته أو لا يجد من يردعه أو يرجعه أو يقمعه قد يؤدي بعد فترة إلى انحراف شديد وكبير وقد يختلط فيه بعد فترة ما ليس منه بل ويحسب عليه, فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الضابط وهو القيد والأمر به للوجوب في قوله تعالى{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }آل عمران104 وقوله تعالى{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }العصر3

إن الواجب يقتضي أن يبدأ المرء بنفسه بأمرها وينهاها قبل أن يأمر الغير وينهاه فقد روى الشيخان عن أسامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول( يؤتى بالرجل يوم القيامة, فيلقى في النار, فيقولون يا فلان!مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ...؟؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن أبي الدنيا والبيهقي ( أتيت ليلة أسريَ بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل..؟؟ قال خطباء أمتك الذين يقولون مالا يفعلون ويقرؤؤن كتاب الله ولا يعملون به) وصدق الله العظيم {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف3

إن الأمر بالمعروف يكون بالمعروف ولا يكون بالغلظة والفظاظة فقد روى البيهقي عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال( إن الله رفيق يحب الرفق, ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف, وما لا يعطي على سواه ) وروى البخاري عن أبي هريرة قال( بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم ! دعوه وأريقوا على بوله سجلاً (دلواً) من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)

إن الأمة الوسط حين تتلبس بمجموعها أو بأفراد منها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تبحث في مآلات الأفعال ولا تكون مآلات الأفعال عائقاً عن الفعل, فالفرض الذي فرضه الله علينا واجب تأديته فبغض النظر عن النتائج المتصورة لأن هذه النتيجة في الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله , وصدق الله العظيم{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }لقمان17 والنص القرآني هنا لم يقيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخوفٍ من عاقبة قتل أو نحوه

وفي هذا الأمر يقول أبو بكر بن العربي في شرح شرعه الإسلام للشيخ على زاده ص497( أن من رجا زواله( المنكر) وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام) ثم يعلق( والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي) وقد روى ابن خزيمة في صحيحه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم, فقال رجل من القوم : هذا من أشد ما أنبأتنا به قال( أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة وحملك على الضعيف صلاة, وإنحاؤك القذر عن الطريق صلاة, وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة)

إن الأمر بالمعروف لا ينفصل عن النهي عن المنكر فلا يكتفى بواحد دون الآخر, فلا يكتفى بالأمر بالمعروف فقط كأن يقول قائل أنا أحضُّ الناس على صلاة الفجر وهذا أمر بمعروف, ويقول آخر أنا أدعو الناس لقراءة القرآن وحفظه وهذا أمر بمعروف, أو أن يكتفى بالنهي عن المنكر فقط كأن يقول قائل أنا أنهى عن التعامل مع البنوك فقط, أو يقول آخر أنا أنهى عن سفور النساء فقط, وهذا الأمر لا يمكن فصله عن النهي.... فالذي يأمر بالمعروف لا بد له أن ينهى عن المنكر وكذلك الذي ينهى عن المنكر لا بد له أن يأمر بالمعروف

كما أنه لا يجوز تخصيص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أحكام محددة دون أحكام وبأمور دون أمور فيتناول مثلاً قضية الصلاة وأحكامها ويصول فيها ويجول ولا يتطرق لغيرها.

لقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الميزات التي تتميز بها الأمة الوسط منذ بداية الدعوة وإلى الآن ولقيام الساعة إن شاء الله وأحببت في نهاية البحث أن أروي قصة ذكرها عبد الله علوان في كتابه( تربية الأولاد في الإسلام) ج1ص372 ( روي أن أبا غياث الزاهد كان يسكن المقابر ببخارى, فدخل المدينة ليزور أخاً له, وكان غلمان الأمير( نصر بن أحمد) ومعهم المغنون والملاهي يخرجون من داره, وكان يوم ضيافة الأمير فلما رآهم الزاهد قال( يا نفس وقع أمر إن سكتَّ فأنت شريكة) فرفع رأسه إلى السماء, واستعان بالله وأخذ العصا.... فحمل عليهم حملة واحدة, فولوا منهزمين مديرين إلى دار السلطان, وقصوا على الأمير.... فدعا به وقال له( أما علمت أنه من يخرج على السلطان يتغذى في السجن) فقال أبو غياث( أما علمت أنه من يخرج على الرحمن يتعشى في النيران؟؟) فقال له الأمير ( من ولاك الحسبة؟؟) قال ( الذي ولاك الإمارة) فقال الأمير ولاني الخليفة فقال أبو غياث ولاني الحسبة رب الخليفة....فقال الأمير وليتك الحسبة بسمرقند فقال عزلت نفسي عنها..!! قال الأمير العجب في أمرك تحتسب حين لم تؤمر وتمتنع حين تؤمر..ظ؟ قال لأنك إن وليتني عزلتني... وإذا ولاني ربي لم يعزلني أحد .قال الأمير سل حاجتك فقال حاجتي أن ترد علي شبابي قال الأمير ليس ذلك إلي هل لك حاجة أخرى قال أن تكتب إلى مالك خازن النار أن لا يعذبني , قال ليس إلي ذلك أيضاً.... هل لك حاجة أخرى: قال أن تكتب إلى رضوان خازن الجنة يدخلني الجنة ... قال ليس إلي ذلك أيضاً قال أبو غياث فإنها مع الرب الذي هو مالك الحوائج كلها لا أسأله حاجة إلا أجابني إليها

وذكر الغزالي في أحباء علوم الدين عن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحوله الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته فلما بصر به قام إليه , وأجلسه معه على السرير, وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك..؟؟ فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار, فإنك بهم جلست هذا المجلس واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين , وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم, واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم , ولا تغلق بابك دونهم, فقال أجل أفعل.... ثم نهض وقام, فقبض عليه عبد الملك فقال يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت..؟؟ فقال مالي إلى مخلوق حاجة, ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف)

جواد عبد المحسن

الخليل – فلسطين

إرسال تعليق

0 تعليقات