مـفـهـوم الانهـزامـيـة

مـفـهـوم الانهـزامـيـة

( الفكر الانهزامي )

هَزَمَ الشيء : عمزه بيده فصارت فيه وقرة أو تجويف كما يفعل بالقثاء و خصوصاً الكوسا قبل حشيه ، و الهزمة : ما تطامن من الأرض و انخفض ، وفي الحديث : إذا عرستم فاجتنبوا هَزْمَ الأرض فإنها مأوى الهوام و هو ما تشقق .

و في الحديث في زمزم : إنها هَزمة جبريل أي ضرب برجله فانخفض المكان فنبع الماء ، و هزم الأرض يعني كسر وجهها عن عينها حتى فاضت بالماء و كل نقرةٍ في الجسم هزمة ، و تهزَّمت السحابة بالماء تشققت مع صوتٍ عنه في قول الشاعر :

كانت إذا حالبُ الظلماء نبَّهها قامت إلى حالبِ الظلماء تهتـزم

و تهزمت العصا : تشققت مع صوت ، و قصب مُتهزم أي كُسِّر و شُقّق ، و هُزِمَ القوم في الحرب و منه الهزيمة في القتال يعني كسر ، و التهزم هو التكسر و منه قوله تعالى ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ ؛ يعني كسروهم و ردّوهم و أصل الهزم هو كسر الشيء و ثني بعضه على بعض .

إن المعاني المستفادة مما سبق تدور بين ايجاد النقرة أو افراغ الشيء من مضمونه أو ليّه أو كسره و هي في مجموع معانيها أحداث تشقق أو شيء لم يكن موجوداً فوجد بفعل الهزيمة .

فان كانت الهزيمة المادية في القتال فانها تعني كسر شوكة العدو واضعافه ورده و هذا لا يعني انتهاؤه و فناؤه و إنما كسره في هذه المعركة .

و أما الهزيمة الفكرية فإنها احداث فجوةٍ أو وقرةٍ أو شرخ أو تصدع في هذا البناء الفكري بحيث أنه لم يعد متماسكاً بعد أن كان كذلك ؛ إذ أنه قد كان يرتكز على قاعدةٍ واحدةٍ فإذا تعددت هذه القواعد لهذا البناء الفكري حدث التشقق و التصدع فيه و هذا هو الانهزام .

فإذل حاولنا أن نضع تعريفاً للانهزامية نحاول القول بأنها : بناء فكري يستند إلى قواعد متعددة يتم عقل الأمور بناءً عليها ؛ وذلك مثل القومية الوطنية فإنها فكرة انهزامية في ذاتها تم عقلها بناءً على قاعدةٍ غير قاعدةِ الاسلام مع عدم انكار قاعدة الاسلام .

و بالنسبة لغير المسلمين كذلك فإن من وضع لنفسه قاعدة يستند إليها ثم اشرك معها غيرها و عقل الأمور بناءً على غير قاعدته الأصلية فإنه منهزم قد حمل فكرة الانهزامية .

فالاشتراكيون مثلاً حين توافقوا مع الرأسماليين حول اقتسام النفوذ في العالم و ما تمحض عنه اجتماع "فيـينا" 1961 بين كندي و فرتشوف قد تخلوا عن جزءٍ من قاعدتهم الأصلية أو أضافوا إليها قاعدة أخرى فكانت هذه بداية الهزيمة لكلا الفكرتين معاً ؛ فسياسة الوفاق هي فكرة وشعار تحمل الانهزامية في داخلها لمن يدعوا لها من الاشتراكيين لأنها تدل على أنهم قد تخلوا عن جزءٍ من قاعدتهم الأصلية أو أضافوا لها قاعدة أخرى .


الفرق بين الهزيمة و الانهزام

(1)

إن هناك فرق بين الهزيمة و الانهزام ؛ فالهزيمة هي كسر شوكة في معركة أو تحقيق غلبة في حال أو وضع معين ، و يحدث هذا الأمر مع المسلمين و غيرهم و تبقى دائرة الهزيمة في داخل المعركة و لا تتعداها لغيرها ، فإذا تجاوزت الهزيمة المعركة وانتقلت إلى النفس فأوجدت فيها شك أو داخل هذه النفس ريب فإنها الانهزام و العياذ بالله .

إن الهزيمة في معركة معينة إن أثرت على النفس بحيث أنها قد أوجدت شكاً أو عدم ثقة أو خوفٍ من الخصم أو حساباتٍ لمآلات الأفعال أو كل ما يدور ضمن هذا الأطار بأن يحكم على نفسه بأنه ضعيف أو غير قادر على تحقيق هذا الهدف لعجزه و لقوةِ خصمه فتكون الهزيمة العسكرية قد أنتجت الهزيمة الفكرية أو الانهزام بأن حكم الانسان على نفسه بأنه عاجز .

إن الانهزام لا علاقة له بقوةٍ أو ضعف أو وجود عُدة و عتاد أو عدمها أو كثرة أو قلة ؛ لأن هذه المفردات لها علاقة في المعركة و النصر و الهزيمة ولا علاقة لها بالانهزام إذ أنه حكم داخلي على النفس بأنها عاجزة و غير قادرة بغض النظر عمّا يملك من أسباب القوة لأنه منهزم .

إن حكم الانسان على نفسه بالهزيمة قبل وقوع المعركة و قبل خوض غمارها هو الانهزام بحد ذاته فإنه الذي قال ﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾ قد حمل نفس الأمر وقال نفس القول الذي يقال بأننا لا نستطيع قتال أمريكا ، وإن تباعدت بينهما السنين فإنهما يحملان نفس الفكرة وهما مهزومين في المعركة حتى قبل حصول المعركة لحصول القناعة عندهما بيعجزهما و أنهما غير قادرين على تحقيق عظام الأمور ، فحصول خلل في النفس في صحة ما تحمل أيضاً هو انهزام .

إن الارادة هي انعقاد القلب على الفعل و عدم النظر إلى المعوِّقات ، و هي العزمُ الحاصل من وجود العقيدة الدافعة للفعل من أجل الغاية المتعينة قبل الفعل ، فكسرها يكون بمجرد دخول الشك إليها أو زعزعة هذا العزم .

إن دخول الشك إلى النفس بأنه لا يستطيع الفعل أو تحقيق الغاية و عدم قدرته على مجابهة غيره هو الانهزام الذي يتعلق به أو تبنى عليه فكرة الانهزامية فتصبح للمنهزم وجهة نظر يدافع عنها فالقول بأن السلام خيارنا الاستراتيجي هو فكرة انهزامية لا يقول بها إلا منهزمون و كذلك الديمقراطية و سياسة الوفاق و السلم الدولي و القانون الدولي و الشرعية الدولية و غيرها كثير من هذه الشعارات التي يرفعها المنهزمون بل و يدافعون عنها ، و كذلك المساومة و الحلول الوسط .


حامل الدعوة غير منهزم

(2)

إن حامل الدعوة لا يمكن أن يكون منهزماً قطعاً ؛ لأنه ينهل من الفكر الصافي الذي ينبع من العقيدة الاسلامية التي ربطت الأرض بالسماء فمن كان حبله قد وُصل بالسماء و آمن بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي و المميت و أنه هو القادر الناصر و أنه في كنف الله دوماً ، فكيف يعتري من كانت هذه حالة الانهزام و قلبه مطمئن بأن الله ناصره ..؟؟

إن المسلم الذي يتوكل على الله في كل أمر و يعتقد بأن من توكل على الله فهو كافيه لا يمكن أن يعيقه عن عمله أو دعوته شيء ؛ لأنه قد اعتقد بأنه من كان في معية الله فإن الله حسبه و كافيه فلا يضعف أمام الصعاب و إن عظمت بل يجعل منها جسراً موصلاً له و وسيلة مساعدة لا تعيقه عن مراده و مبتغاه بل أنه يعتقد بأن ما عند الله هو أصدق مما تراه عينه أو يدركه بصره و صدق الله العظيم ﴿ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴿61﴾ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴿62﴾ ، و رسولنا صلى الله عليه و آله و سلم و صاحبه في الغار ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ .

إن المسلم الذي فهم خطاب ربه عندما خاطبه فقال عزّ و جل ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾ ، قد أدرك أن الله قد جعله في الصدارة ومن وضعه الله في الصدارة فقد شرفه فلا يستصغر نفسه أو يقلل من شأنها أو يستذلها فقاعدته الفكرية واحدة و يستند إليها في كل أمر ولا يحيد عنها ؛ لأنه يدرك بل يعتقد ﴿ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ آل عمران101، والصور كثيرة توضح هذا الفهم عند الصحابة و التابعين و غيرهم. فإن سمية و بلال و عبد الله بن مسعود و غيرهم كثير قد عذبوا فأوذوا و هم يحملون هذه الدعوة فلا يقولن قائل أن الذي عذبهم قد هزمهم ؛ فإنه إن استطاع النيل من أجسادهم بحرقها أو تعذيبها لم يستطيع مطلقاً أن ينال من عزمهم و ارادتهم و لم يداخلهم الشك فيما يحملون لحظة واحدة .

وهنا قد يطرأ سؤال هو : هل يهزم جيش المسلمين ..؟؟

نقول نعم يمكن أن يهزم الجيش و تكسر آلته و هذا لا يعني مطلقاً أن المسلمين قد انهزموا بل تكون هزيمة الجيش هذه دافعاً لهم لادراك ما مضى و حافزاً آخر ؛ فبعد هزيمة المسلمين في أحد وقف أبو سفيان وقد اختلط عليه الأمر فلم يفرق بين كسر السيف و كسر الارادة فقال : أعل هبل فجاء الجواب الله أعلى و أجل ، فقال أبو سفيان : لنا الغزى و لا عزّى لكم ، فجاء الجواب: الله مولانا ولا مولى لكم .

إن هذه الأجوبة لا يقولها منهزم بل هي جولة للكافر سرعان ما تزول ؛ لأن عامل القوة عند المسلم النابع من العقيدة يدفعه حتى تكون كلمة الله هي العليا و يفهم خطاب ربه حين خاطبه فقال عز و جل ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ الأنفال60؛ فيكون كسر سيفه اليوم حافزاً له في الغد حتى يعد السيف إعداداً لا ينكسر .

إن القوة و الضعف و الصحة و المرض و الغنى و الفقر أحوال يمر بها الانسان بوصفه آدمي و المسلم كذلك و هذه الأحوال لا تؤثر على حامل الدعوة ولا على عقيدته ؛ فحاله في اليسر كحاله في العسر و قوة حمله في منشطه كقوة حمله في مكرهه فالاسلام و الدعوة إليه و أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر هي كل همه في جميع أحواله فلا يساوم في ضعفه إن حصل له الأذى ولا ينهزم إن عُذب أو ينافق من أجل تحقيق مصلحة .

إن كل القادة المسلمين قد فهموا هذا الأمر فهماً انعكس على كيفية تعاطيهم و تعاملهم مع الأحداث ؛ فدخول بغداد سنة 656 هـ كان هزيمة منكرة وقعت على المسلمين فقد كسر المغول سيف المسلمين و لكنهم لم يستطيعوا كسر ارادة المسلمين ، فقد كان سقوط بغداد حافزاً و دافعاً للمسلمين لإعداد سيفهم حتى لا ينكسر مرة أخرى و كانت عين جالوت سنة 658 هـ يعني بعد سنتين و انتصر جيش المسلمين .

إن الأحوال و الأوضاع تؤثر في الواقع سلباً أو ايجاباً ، و لكنها لا تؤثر على صفاء العقيدة و سلامة قاعدتها الفكرية التي تستند إليها كل أفعال المسلم و حكمه عليها ، و هذا الأمر لا يفهمه إلا المسلم ؛ فالذي يعيش الحياة من أجل التمتع بها تؤثر الأحوال و الأوضاع فيه بل و يستمد مواقفه من هذه الأحوال و الأوضاع بل و يرفع شعار ( الواقعية ) .

إن سقوط دولة الخلافة لا يعني أن فكرة الإسلام قد انهزمت بل هؤلاء الذين حملوا الأفكار الإنهزامية و أضافوها للعقيدة الإسلامية فنادوا بالطورانية مع الإسلام أو نادوا بالقومية العربية مع الإسلام هم المنهزمون .

وكذلك فعل الصليبيون بأهل بيت المقدس و غيرها كما فعل اخوانهم المغول من قتل و ذبح و تشريد فلم يرفع المسلمون علماً أبيض رغم ضعفهم حين كُسر سيفهم و لم يساوموا فقد فهموا أن الضعف بعون الله يصبح قوة و الفقر بعون الله يصبح غنىً و القلة بعون الله تصبح كثرة ، و أريد أن أسوق حادثة تعبر عن كيفية فهم القادة المسلمين و ساستهم و تفريقهم بين كسر السيف و كسر الارادة و هي موقعة ليبانت البحرية ....


موقعة ليبانت البحرية

17 جمادى الأولى 979 هـ 7 أكتوبر 1571 م

بعد أن فتحت الدولة العلية العثمانية جزيرة قبرص في 10 ربيع الأول سنة 979 هـ الموافق 1571 م شعرت البندقية بالخطر فاستعانت باسبانيا و البابا للوقوف في وجه الدولة العلية حتى لا تصل إلى بلاد ايطاليا ، و تكوّن هذا الأسطول المتحالف من (70) سفينة اسبانية و (140) سفينة من البندقية و (12) سفينة من البابا و (9) سفن من سفن مالطة .

و قد كانت سفن الدولة العلية مؤلفة من (200) سفينة و اشتبك الأسطول المتحالف مع أسطول الدولة العلية قرب جزيرة " ليبنته " واستمر القتال مدةً حتى انتهى الأمر بانتصار الأسطول المتحالف من الدول النصرانية و أخذت (130) سفينة و أحرقت و أغرقت (94) سفينة و غنمت (300) مدفع و أسرت (30) ألف أسير و قد كان لهذا الانتصار صدى كبير عند النصارى حتى أن البابا قد خطب فيهم في كنيسة " مار بطرس " بروما و شكر القائد النصراني " دون جوان " على انتصاره .

كان نائب البندقية في استانبول - السفير - أنطونيو باربارو – مازال في استانبول لم يغادرها و أراد مقابلة الصد الأعظم – رئيس الوزراء – محمد باشا صقلّلي ليسير أغواره عقب معركة ليبانت ، و يقف على اتجاهات السياسة العليا للدولة بعد هذه المعركة ... فاجتمعا .

وقد بادره الصدر الأعظم قائلاً ( انك جئت بلا شك تتحسس شجاعتنا وترى أين هي ... و لكن هناك فرق كبير بين خسارتكم و خسارتنا . إن استيلاءنا على جزيرة قبرص كان بمثابة ذراع قمنا بكسره و بتره . و إيقاعكم الهزيمة بأسطولنا لم تفعلوا شيئا أكثر من حلق لحانا ... و إن اللحية لتمنوا بسرعة و كثافة تفوقان السرعة و الكثافة اللتين نبتت بهما في الوجه لأول مرة) . وانتهى اللقاء

و كان الفصل شتاءً و الأسطول النصراني لا يستطيع أن يقوم بأي عمل في الشتاء ، فانتهز الصدر الأعظم محمد باشا صقللي الوضع و عهد إلى قائد شجاع أسمه " العلج علي " يعني السيف علي و أمده بما يحتاج من مؤن و عدد و عمال لبناء أسطول جديد و انهالت التبرعات من امير المؤمنين سليم الثاني و غيره من المسلمين لتجهيز هذا الأسطول ، حتى كان شهر يونيو حزيران سنة 1572 فاكتمل الأسطول الجديد و أخذت الوحدات البحرية العثمانية الجديدة تجوب المياه الإقليمية لسواحل ايطاليا دون أن تجرؤ احدى الدول على التعرض لها و قد بنيت ( 250 ) سفينة في مدة لا تتجاوز التسعة أشهر .

و استعادت الدولة التوازن الدولي لمصلحتها في البحر الأبيض المتوسط ... و لم تنته سنة 1573 حتى وقعت البندقية معاهدة مع الدولة الإسلامية على أن تدفع على مدى ثلاثة أعوام ثلاثماية ألف بندقي ( عملة البندقية ) كجزء من نفقات الحرب الأولى ، و كما نصت على زيادة الجزية التي تؤديها البندقية للدولة العلية من خمسماية بندقي إلى ألف و خمسماية بندقي ، و أن تتنازل البندقية للدولة العلية عن جزيرة قبرص و جزيرة سوبوتو .انتهت الموقعة

إن الأحوال و الأوضاع قد تنعكس على الواقع سلباً أو ايجاباً مؤثرة فيه و لكنها لا تؤثر على صفاء العقيدة وسلامة قاعدتها الفكرية التي تستند إليها كل أفعال المسلم أو حكمه عليها و هذا ما لا يفهمه إلا المسلم ؛ فالذي يعيش الحياة من أجل التمتع بها ينعكس حاله عليه و يستمد مواقفه من واقعه و حاله تبعاً لغناه أو فقره أو عسره او يسره ، فالواقع الذي يعيش فيه يستمد منه مواقفه و يحدد علاقته مع غيره بناءً على هذا لواقع و ينادي بل و يرفع شعار ( الواقعية ) بل و يجري حساب الربح و الخسارة أو دراسة الجدوى الاقتصادية في كل أمر من أمور حياته يحسبها بناءً على هذه الحسابات فتختلط عنده الأرقام بالمفاهيم بل و تخضع هذه المفاهيم للأرقام .

بعكس المسلم الذي يستمد مواقفه من أوامر ربه و نواهيه و الواقع ليس مصدر تفكيره بل الواقع هو محل تفكيره و يعمل لكي يغير هذا الواقع تغييراً يتوافق مع مبدأه ، و لا يغيير نفسه ليتوافق مع هذا الواقع فهو هو هو في عسره و يسره و غناه و فقره يحمل الدعوة ندراً لكل الناس.

إن سقوط دولة الخلافة لا يعني أبداً أن فكرة الاسلام قد انهزمت مطلقاً ؛ فإن الله تعالى قد تعهد بحفظ دينه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾الحجر9، بل إن الذي هُزم هم الذين حملوا هذه الأفكار الإنهزامية من رجال ( الإتحاد الترفي ) و ( جمعية تركيا الفتاة ) حين جعلوا مع القاعدة الأساسية لإسلامهم قاعدة أخرى .

إن عامل القوة الوحيد عند المسلمين هو إلتصاقهم بعقيدتهم و عدم ادخال ما ليس منها فيها و العكس صحيح ؛ إذ أن سبب ضعف المسلمين هو عدم إلتصاقهم بعقيدتهم و ادخالهم ما ليس فيها ، و يبقى الإسلام هو الإسلام فلا يقولن قائل أن الإسلام فد انهزم أمام أفكار الرأسمالية العلمانية .

إن الإتحاد السوفيتي المنحل قد فعل الأفاعيل بالمسلمين و شردهم و شتت شملهم على مدار سنوات وجوده منذ 1917 إلى 1989 و حين تحلل و انهزمت فكرته بل و تلاشت خرج المسلمون في بلاد آسيا الوسطى يسبحون بحمد ربهم بل و يحملون الإسلام و يقبلون عليه إقبال المتشوق .


المنهزمون و دعاة الانهزامية

(3)

قد يتبادر إلى الذهن أن كل من يدعو إلى فكرة انهزامية منهزم و هذا غير صحيح ؛ إذ أن الدعاة لهذه الفكرة يعلمون حقيقة ما يدعون له من فكر فإنهم يريدون ايجاد شقوق في أي بناء فكري حتى يلجوا داخله و يهزموه و هذا يحقق رغباتهم و أهوائهم و صدق الله العظيم ﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ﴾ ، و قوله تعالى ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ﴾ ، فإن عملهم هو اللبس على الناس واحداث فجوة أو ندبة بهم أو وضع غشاوة على أغينهم ختى لا يبصروا الحق ولا نوره ، إنهم المنافقون الذين لبسوا ثوب الدين و درسوا علم الجهل و رفعوا شعار التنوير و شعار العلم للعلم و حرية التعبير و الرأي و الرأي الآخر و فقه الموازنات .

إن هؤلاء الدعاة لهم هدف يسعون لحقيقه هو تمييع الاسلام وادخال غيره فيه لإحداث خلل و تشقق في هذا المبدأ و هم ليسوا منهزمين بل هم الدعاة لهذه الفكرة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و فيهم نزل قوله تعالى ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ الأحزاب18 ، فإنهم كانوا يثبطون الهمم و يمنعون الناس و يصرفوهم عن الحق و عن الطاعة و يَفُتُّون في عضد المسلمين حين قالوا ( ما محمد و أصحابه إلا أكلة رأس و هو هالك و من معه ) يعني قليلي العدد وهم الذين تنكبوا عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عندما كان المسلمون في مسيس الحاجة لهم فقال قاتبهم ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ﴾ ، فتذرعوا بواهي الحجج ليثبطوا المسلمين عن الجهاد فلا يكاد يخلوا منهم زمن و إن اختلفت أسماؤهم فهم هم يحملون نفس الأفكار .

و حين دخل الكافر المستعمر بلادنا نهلوا من ثقافته و عاداته حتى أُترعوا فصروا دعاةً للكافر في بلاد المسلمين يشرحون أفكاره و يسوقونها ؛ فعبد الرحمن الكواكبي و طه حسين و جمال الدين الأفغاني و رفاعة الطهطاوي و محمد عبده و أسماء كثيرة لا يتسع المقام لعدها قد زرعوا في بلاد المسلمين بذور هذه الأفكار كتحرير المرأة و حرية الرأي و الديمقراطية و العقلانية ، و خذ و طالب و شيء خير من لا شيء و الوطنية و القومية و البعثية فهم لم يكونوا منهزمين بل هم الدعاة للانهزامية .

لقد افتتن بهم خلق كثير لإشتهار أسمائهم نتيجة الدعم الممنوح لهم ؛ فانبهروا بهم واستجابوا لهم و حملوا أفكارهم في وقتٍ كان الجهل هو السائد و الضعف الفكري في الحضيض عند الأمة الإسلامية فنجح الكافر في استقطاب كثير من هؤلاء سواء من العرب أو من الأتراك ؛ فنادى العرب بالقومية العربية و الأتراك بالقومية التركية حتى وصل الأمر بأن حالف المسلمون الكفار في حربهم ضد اخوانهم المسلمون تحت شعار التحرر من الاستعمار التركي .

لقد تربع دعاة الانهزامية على كراسي الحكم بعد أن سقطت الدولة العلية العثمانية و دعت ألسنتهم للجامعة الاسلامية و دعت ألسنتهم للجامعة العربية و اشتهرت بل وراجت أفكار الانهزامية اشتهاراً حتى لا يكاد يسمع غيرها و ظهرت فكرة القومية العربية و الوطنية و فكر التحرر الوطني و الاستقلال و كان الدعاة للانهزامية هم القادة ؛ فهم على حد قولهم المثقفون المتنورون الذين يريدون أن يثقفوا الأمة بما يحملون من ثقافة

لقد عمد الكافر المستعمر و دعاته معه على صناعة علماء و أدباء و فنانون و مثقفون على عينٍ بصيرة حتى يكونوا لهم عوناً عند احتياجهم لهم و قد برزت مواقفهم عند حاجة الناس لهم فخذلوهم و ثبطوا عزيمتهم ؛ فحين دخول العراق الكويت ظهروا بعد غياب و تربعوا للفتوى و الكتابة بالشعر تارة و بالنثر تارة و لم يتركوا فرصة واحدة و لم يجرِّحوا بالإسلام و أهله بل و الدعوة إلى التحدث و التجديد و رفع قاعدة " لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " و قالوا " بجواز الإستعانة بأمريكا " .

بل و تمادوا حتى أسبغوا على الحدود بين المسلمين طابع العراقة لترسيخ تقسيم بلاد المسلمين .

لقد تأثر بهؤلاء الدعاة كثير من المنهزمين من كتاب و أدباء و صحفيون و أساتذة جامعات و أسبغوا على الدعاة ألقاباً ؛ فقالوا الأستاذ الإمام محمد عبده و قالوا محرر المرأة أحمد لطفي السيد و قالوا عميد الأدب العربي طة حسين و قالوا عن المقامر عماد حمدي فتى الشاشة العربية و عن أم كلثوم كوكب الشرق ... وحدث ولا حرج ... فكأن كل شيء لهم يوزعونه على من احبّوا بل وفتحت لهم كل الأبواب الموصدة لأن مفاتحها هو الولاء لهذه الأفكار و لدعاتها .

و تصور الغرب الكافر أنه قد هزم الأمة الاسلامية مثلما هزم اليابان كأمة و مثلما هزم المانيا ، و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون و المنافقون و المخدوعون و المنبهرون بزيف بريق الغرب ، فالأمة الاسلامية يمكن أن تضعف و يمكن أن تهزم في معركة و يمكن أن يعتريها الوهن و لكنها و لا بحال من الأحوال يمكن أن تكون أمة منهزمة بمعنى أن تشك بفكرتها و عقيدتها و أن تكون أمة جوفاء قد آفرغت من مفاهيمها و يسهل حثنها بأي مفاهيم و صدق الله العظيم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}


عوامل القوة عند المسلمين

(1)

هناك فرق بين وجود القوة و العوامل التي تؤثر فيها لإيجادها سلباً أو ايجاباً ؛ فالقوة موجودة مثلاً في الشلال و البركان و المال و النفوذ كقوة مادية ٍ أو كقوة معنوية أو قدرة على التأثير ، إلا أنه يجب أن يعلم أن القدرة على توحيد القوة لأمرٍ معين هي التي تجعل من هذه القوة ذات تأثير فيما توجه إليه .

فلا بد من تركيز البحث حول العوامل التي تؤثر في توجيه هذه القوة حتى تكون هذه القوة منتجة و لا تذهب أدراج الرياح ؛ فالعرب مثلاً قبل الاسلام كانت لهم قوة و كانوا يوجهون هذه القوة بناءً على مفاهيمهم نحو أعدائهم لتحقيق مصالحهم القبلية ، و عندما آمنوا برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بأنه الرسول من عند الله و حملوا الاسلام قيادة للعالم لم تختلف هذه القوة و إنما اختلفت عوامل هذه القوة بأن دخل عليها ما وجهها التوجيه الذي أثر فيهم إلى حدٍ نظروا فيها إلى كل الملوك و الأكاسرة و الأباطرة نظرةً لم يكونوا قد نظروها من قبل . فإذا حاولنا استقراء الأمر ما بين بعثته المصطفى إلى سنة 545 هجري نرى أن وجه العالم قد اختلف اختلافاً لا يكاد يُصدق فنسأل ما هي العوامل التي أدت إلى وجود هذه القوة عند المسلمين ..؟؟

1. العقيدة الإسلامية : فإنها و ما يُبنى عليها تشكل نفسها القوة الدافعة للعمل فإن الإيمان بالله عز و جل قد يُبنى عليه أن الرزق و الأجل و القدر خيره و شره كله من الله ، و أن لهذه الحياة و ما بعدها فكأنهم قد عاشوا الآخرة في الدنيا أو أنهم عاشوا الدنيا من أجل الآخرة ؛ فكان الحبل الموصول بين الدنيا و الآخرة في مفاهيم المسلمين دافع للعمل في كل المجالات لا في مجال واحد ، فالجهاد عمل يؤخذ بأسبابه و العلم عمل يؤخذ بأسبابه . و كل فكرةٍ تنفذ تبعاً لطريقتها مع الأخذ بالأسباب أخذاً بناءً على فهم واضح بيّن .

2. إن البناء سواء كان بناءً مادياً أو بناءً فكرياً تعزى عوامل القوة و الضعف في هذا البناء إلى أساسه الذي يقوم عليه ، فالقصر و إن كان فارهاً مزخرفاً و يسمل كل وسائل الراحة فإنها لا تشكل عوامل قوةٍ لهذا القصر بل أساسه هو الذي يشكل القوة .

و كذلك البناء الفكري فإن الفكر الأساسي الذي يُبنى عليه هو الذي يحدد هذه القوة إذا كان هذا الفكر الأساسي هو الذي يتم بناءً عليه و استناداً إليه أي إدراك لأي أمر ، فيكون الحكم على أي حادث أو واقعةٍ أو حالةٍ بناءً عليه ؛ إذ أنه الدافع للعمل و الترك ،فالإسلام هو الإسلام قبل ألف عام أو بعد ألف عام و عوامل القوة عند المسلمين هي التي تختلف بإختلاف درجات قرب المسلمين من الإسلام أو بعدهم عنه ، فعامل القوة عند المسلمين قربهم من الإسلام و هو نفسه عامل الضعف إن هم أبعدوا عنه ، و يبقى الإسلام هو الإسلام و ذلك كمثل الشمس تشع الحرارة و يشعر بحرارتها من تعرض لها .

3. أما اختلاف القاعدة الفكرية أو تعددها عند المسلمين فإن هذا ينعكس سلباً على الإدراك الفكري لإختلاف القواعد أو تعددها و يَنتُجُ جراء ذلك إما الميوعة و إما عدم وضوح الرؤية و الغاية ، فإن الذين دعوا إلى ديمقراطية الإسلام قد أشركوا مع الإسلام قاعدة فكرية تانية فانعكس هذا الأمر على طريقة الفهم مما أدى إلى حصول اللبس و اختلاط الأمر على المسلمين بين الحلال و الحرام و بين الواجب و الحرام و بين أولوية و أخرى .

إن جعل المتناقضات أساساً للإدراك هو سبب ضعف إذ أنه يجعل مفهوم السعادة مختلط عند الناس ... فهل هو نيل رضوان الله عز و جل أم هو نيل أكبر قدر من المتع ..؟؟ و حال مفاهيم كثيرة أخرى .

إن عامل القوة الوحيد عند المسلمين هو الإلتصاق بالعقيدة الإسلامية و بالقاعدة الفكرية المنبثقة عنها ، بحيث تكون هي المرجع للمسلمين في كل أمر ؛ فإن الله تعالى قد جعل العقيدة الإسلامية و المبدأ الإسلامي هو الحل لكل المشاكل الإنسانية ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ ، فالقضية في كل أمر هو قضية إنسانية قد تتعلق بجانب اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي فعدد السكان مثلاً و ارتفاع نسبة العنوسة و العزوف عن الزواج هي قضية إنسانية ذات طابع اجتماعي ، و البترول و التضخم المالي هي قضية إنسانية ذات طابع اقتصادي و هكذا .. كل القضايا .

إن عامل القوة عند المسلمين هو وجود القاعدة الفكرية التي يتم إدراك كل الأمور بناءً عليها لا علاقة لها البتة بالأوضاع أو الأحوال أو الظروف ؛ فالقوة أو الضعف و الغنى و الفقر و الصحة و المرض لا علاقة لها بعامل القوة لا سلباً و لا ايجاباً ولا تؤثر فيه لأنها ليست من جنسه مطلقاً ، فلا علاقة للكفر و الإيمان بالقوة أو الضعف و بالغنى و الفقر و بالصحة و المرض ، فيمكن للإنسان القوي الغني ذي الصحة أن يكفر و للإنسان الضعيف الفقير العليل أن يؤمن و بالعكس . و بالنسبة للأمم كذلك فلا عدة في ذلك .

إن البناء الفكري لأي أمة تحمل مبدأ في كيفية تعاطيها مع الأحداث لا يمكن أن يكون بناءً على الأوضاع و الأحوال و الظروف بل إن تعاطيها مع الأحداث لا يكون إلا بناءً على مبدأها و ما يأمر به .. فالفقر و الحرّ و نضوج الثمر لم يكن مانعاً من غزوة تبوك ، وتجييش جيش لحرب الروم بقيادة زيد بن حارثة هو عمل أضخم من أن يتحمله المسلمون بل هو ردة فعلٍ أكبر جرّاء مقتل رسولٍ لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، رُب قائل يقول هذا القول .... فيكون الرد عليه بأن الأمة التي تحمل مبدأ لا يمكن أن تساوم على مبدأها لأنها دولةٌ مبدأية تحمل فكراً تهدي به الناس و ليست سوبر ماركت .

إن التاريخ العسكري أحد أبرز العلوم التي تجب أن تُعلّم للمسلمين فكتب التاريخ المتداولة و المناهج التعليمية تكتفي بالإشارة إلى تاريخ المسلمين و حربهم تحت عناوين الفتح الإسلامي و لكنها لم تذكر الثمن الذي دفعه المسلمون المنصرون دوماُ ثمناُ لهذا النصر .

إن بعض علماء المسلمين يعددون الفتوحات و يشيرون إليها بكل بساطة و يقولون أن سبب الإنتصار هو الإسلام و يهملون الرابطة بين الإسلام و عامل القوة و هو استمساك المسلمين بهذا الإسلام و ربط الأسباب بمسبباتها فلا يظننّ ظانٌ أن دولة الفرس كانت دولة منهارة و أن العرب المتنصرة من الغساسنة كانوا جبناء و لم يكن لهم علم بالفنون العسكرية .

لا يظننّ أحدٌ هذا فلة حسبت مساحات الأرض المفتوحة بالأمتار المربعة لكان نصيب كل متر مربع شهيد ... فرغبتهم بالشهادة أو النصر و عدم خوفهم من الموت المستمد من العقيدة كان هو الدافع المهم و الوحيد لكل هذه الجيوش .

إن عدم خوفهم من الموت بل و اقبالهم عليه وهبت لهم الحياة و لنا من بعدهم عندما حملوا هذه الرسالة قيادة فكرية للعالم فهم إن حملوا سيوفهم فإن سيوفهم هي نفسها سيوف الجاهلية و لكن حملوا قبل السيوف العقيدة التي ملكت عليهم أفئدتهم فأنجبت خالد و القعقاع و عمرو بن العاص و شرحبيل و المثنى و المعنى و زيد و حارثة و كلهم لم يتعلموا في أكاديمية " سان هيرست" البريطانية بل تربّوا في مدرسة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فتفاعلوا مع هذه العقيدة حتى أنبتت هذه الطاعة الدافعة ، فكانت معارك المسلمين الفاصلة في حوالي ( 280 ) معركة كل قادتها إما صحابي أو تابعي أو تابعي تابعي .

ربما تكون عوامل القوة عند الغير مختلفة أو هكذا يقولون عما هي عند المسلمين ؛ فالعدد أو العُدّة أو الموقع الإستراتيجي يعتبر عند الغير عامل قوة و لكنه عند المسلمين لا يُعتبر عامل قوة أبداً ، و الصورة على ذلك أو التدليل على خطأه مثالاً أو أمثلة :

فإن الإسكندر المقدوني قد عبر مثلاً قرابة خمسين خطاً من خطوط الطول في معاركه التي استمرت بتسع سنوات بلغت مسيرته فيها (17000) كم قبل أن يموت سنة 323 قبل الميلاد . و الغزو المغولي اكتسح أمامه من شرقي آسيا إلى غربها و أسقط في طريقه الخلافة العباسية و ربما كانت هذه أكبر الحملات في التاريخ.

إن هناك فرق بين عامل القوة الدافع في هذه العقيدة و الذي بتمثل بوجود الدافع عند الفرد للعمل و بين أسباب القوة التي تمتلكها الدولة ، فالعدد و العدة و الموقع و الموارد الطبيعية و المواد الخام و البترول كلها أسباب قوة يمكن للدولة أن تستغلها لصالح المبدأ ، و لكن هذه الثروات لا يمكنها أن تصنع رجالاً كخالد أو القعقاع أو عمر بل إن هذه الثروات قد تنعكس سلباً على الأمة إن كانت في حيازة فرد أو أفراد ليسو مثل عمر .

فإذا نظرنا إلى تلك الحملات وجدنا أن امبرطورية الإسكندر قد انحلت و تفككت بمجرد وفاته دون أن تحدث بعده أثراً يُذكر ، و قد وجدنا جيش المغول قد ارتد بعد هزيمته في عين جالوت و لا بذكره التاريخ إلا باللعنات ، و قد وجدنا في حروب نابليون و هتلر و موسوليني أنهم جميعاً قد انهاروا و انتكسروا و انتهت حياتهم بهم .

إن الفتوح الإسلامية وحدها هي الحدث الفرد في التاريخ البشري الذي تم انجازه في سنوات معدودات تميز بطول المسافة و اتساع الرقعة ... و رغم الموجات المضادة المتلاحقة كالجاهلية و اليهودية و الرِدة و المجوسية و الصليبية حتى الإستعمار و الصهيونية و الشيوعية و الالحاد و التحلل و الأنظمة و التآمر ... وكل هذا لم يفت في عضد المسلمين ... فبعد أكثر من سبعين عاماً من الظلم و القتل و السجن خرج المسلمون في الإتحاد السوفيتي يقولون ربنا الله .

لقد نظر الإسكندر و تيمورلنك و موسوليني و هتلر و نابليون و بوش إلى عددهم و عدتهم على أنها هي عوامل القوة لقهر العدو فسرعان ما غابوا بعد أن خابوا و بقيت سمرقند (50هـ) و مصر (20هـ) و دمشق (15هـ) و العراق (13-14 هـ) و ايران (15-16 هـ) و بنغازي (21 هـ) و شمال افريقيا (21-26 هـ) بلاداً اسلامية رغم كل الأوضاع و الظروف و الأحوال فقط لأن عامل القوة الوحيد هو مبدأ الإسلام .

لقد قهر الإسكندر و تيمورلنك وهتلر و موسوليني و نابليون و ماك آرثر شعوباً كثيرة و فتحوا بلاداً عديدة غير أنهم لم يستطيعوا ن يفتحوا قلباً واحدا من قلوب هذه الشعوب .

4. إن المسلمين عندما حملوا الإسلام للعالم لم يحملوه لإخضاع الناس و قهر و سلب ارادتهم أو لتكميم أفواههم فلم يذكر العدو قط أن المسلمين قد بنوا المعتقلات و السجون لتعذيب معارضيهم أو خصومهم و لم يجبروا غيرهم لتغيير دينه بأن يدخلوه في الإسلام رُغماً عنه .

وهذا ما نحن بصدده هنا و هو الفرق بين الإسلام و غيره فيما يتعلق بالفتح ؛ فإن الإسلام يحمل أفكاراً ليقود بالفكر الناس للحق و لا يُحمل أو يُستعمل وسيلةً لقهر الناس و سلبهم ثرواتهم وامتصاص دمائهم و هنا يبرز الفرق بين غلبة الحجةِ و غلبة القهر و القوة .

إن فلسفة الحرب ( الجهاد ) في الإسلام غير موجهة للأمم أو للشعوب بل هي موجه للحواجز التي تقف في وجه الدعوة الفكرية حتى تمنعها من الوصول إلى الأمم و الشعوب ، فإذا ما كُسرت هذه الحواجز فإن السيف لا يُستعمل بعد كسر الحاجز و إنما ينصر دوره لكسر الحواجز فقط ، ثم يأتي بعد ذلك دور الحُجة و البرهان مع الناس ليعيشوا الإسلام عيشاً طبيعياً دون تصنّع من المسلمين و ذلك بتطبيق الإسلام عليهم و دعوتهم للإسلام و تبليغهم الدعوة بلاغاً مبيناً .

و هذا الفيصل بين الحق و الباطل و العدل و الظلم ؛ فالمفاصلة لا يمكن أن تحصل نظرياً و الدعوة كذلك ، بل الممارسة العملية للإسلام و أحكامه و العيش الطبيعي في كنفه هي البلاغ المبين بحد ذاته و هذا ما نعنيه بغلبةِ الحجة .

و هذا ما فهمه الفيلسوف الفرنسي حين قال ( لقد أخرت معركة تور اوبواتيه أو بلاط الشهداء نور الحضارة الإسلامية من أن يشع على أوروبا أربعة قرون ) .

جواد عبد المحسن

الخليل - فلسطين

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. من فظلكم أريد تعريف للانهزامية في الادب المعاصر

    ردحذف