حق التأديب

حق التأديب

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً}طه132

ان مهمة الوالد الثانية بعد فترة الولادة وما سقنا من احكام تتعلق به حين ولادته وبعدها مباشرة واطعام وعلاج وكسوة ، فإنها وان كانت هامة فإن المهمة الثانية لهي اشق وأصعب وهي مرحلة التأديب لانها تعين شخصيته وحسن تأتيه وكيفية تعاطيه مع الامور حسناً او قبحاً .

ان اصل الادب هو الدعاء ، ومنه قيل للضيع – العزومه – يُدعى اليه الناس مأدبة ، فكان الادب يأدب الناس ويدعوهم الى المحامد وينهاهم عن المقابح ، والادب ادب في النفس وأدب في الدرس ، وادب النفس هو من الصفات المكتسبة التي تُنمَّى في نفس الولد من قبل والديه وأسرته ومن يحتك فيهم ويأخذ عنهم فقد روى الترمذي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لأن يؤدب الرجل ولده خير من ان يتصدق بصاع ) وأيضا عن الترمذي ( ما نحل والد ولداً افضل من ادب حسن ) .

واما القواعد التي يبنى عليها الادب فإنها كما روى الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال ( ادبوا اولادكم على ثلاث خصال : حب بنيكم ، وحب آل بيته ، وتلاوة القرآن ) فكانت هذه القواعد التي يبنى عليها الادب وتزرع في نفس الطفل زراعة تترافق مع رضاعته وهي مما امر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان مسلم والبخاري ( الرجل راع في اهله ومسؤول عن رعيته ، والمراة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ) والمسؤولية هنا ليست مرتبة او منزلة ، وانما المسؤولية هي كون هذا الموصوف سوف يسأل يوم القيامة عمّن شملته هذه الصفة .

ان اول المسؤوليات الواقعة على الوالدين ان لا يمجسانه او ينصرانه او يهودانه بل ان يكون اول كلامه ونهه بالفتح عليه بكلمة التوحيد لما روى الحاكم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال ( افتحوا على صبيانكم اول كلمة بلا إله إلا الله ) وأن يعلمان اول ما يعقل الحلال والحرام ، حتى يرتبط منذ صغره بأحكام الشريعة فلا يعرف سوى الاسلام تشريعاً ومنهاجاً ، فقد اخرج ابن جرير وابن المنذر من حديث ابن عباس رضي الله عنه انه قال ( اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ، ومروا اولادكم بإمتثال الاوامر وجتناب النواهي فذلك وقاية لهم ولكم من النار ) .

ان تعليم الولد احكام الحلال والحرام والعبادات منذ نعومة اظفاره حتى يتأدب على اساسها وتكون طاعته لله سجية ، فيشكره ويحمده ويلتجأ اليه ويعتمد عليه لما روى الحاكم وأبو داود عن ابن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال ( مروا اولادكم بالصلاةِ وهم ابناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم ابناء عشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) وكذلك الامر تأديبه على تعود الصوم وغيره ، ويتفرع عن هذا الامر تعليمهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسير الصحابة الكرام ، والقادة العظماء ، ومعارك الاسلام الفاصله وان يرزع فيهم انهم احفادّ لهؤلاء حتى يكون ارتباطهم بهم ارتباط عزٍ وفخار وليس ارتباط تاريخ سطر على ورق ، بل لابد من احيائه فيهم احياءً ينهض بهم ويوسِّع افاقهم ، فقد روي عن سعد بن ابي وقاص قوله ( كنا نعلم اولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نعلمهم السورةَ من القرآن الكريم ) ، وفي هذا السياق يقول الامام الغزالي رحمه الله : والصبي امانة عند والديه ، وقلبه جوهرة نفيسة ، فإن عُدِّدَ الخير وَعُلِّمَهُ نشأ عليه وسعد في الدنيا والاخرة ، وان عُدِّدَ الشر واهمل اهمال البهائم شقي وهلك وحياته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الاخلاق .

ورحم الله الشاعر حيث قال : -

وينشأ ناشئَّ الفتيان منّا

على ما كانَ عَوَّدَهُ ابوه

وما دان الفتى بِحجى ولكن

يُعَوّده التدّين اقربوه

ومما يروى في كتب الادب ان الفضل بن ريد رأى مَرَّةً ابن امرأةٍ من الاعراب فأعجب بمنظره ، فسألها عنه فقالت : اذا اتم خمس سنوات اسلمته الى المؤدب فحفظ القران فتلاه ، وعلّمه الشعر فرواه ، وَرُغبَ في مفاخر نومه ، وَلُقِّنَ مآثر آباءه أجداده ، فلما بلغ الحُكم حملته على المناق الخيل فتَّمرس تفرّس ، ولبس السلاح ومشى بين بيوت الحي ، واصغى الى صوت الصارغ ) ورحم الله الشاعر حين قال :

وليس النبتُ ينبت في جنانٍ كمثل النبت ينبت في الفلاةِ

وهل يرجى لاطفالٍ كمالٌ اذا ارتصغوا ثُدّيّ الناقصاتِ

وليس الحال عند هذه الاعرابية فقط ، وانما بلغ اعتناء السلف بالولد واعدادهم ليكونوا هم القادة والامراء الذين يحملون هذا الدين ويدودونَ عنه كما قال عمر بن الخطاب ( تفقهوا قبل ان تسودوا ) فانهم ادركوا انهم الاسياد لهذه الدنيا وان اولادهم هم استمرارهم فكانت عنايتهم بهم حتى تبقى هذه الدعوتة يتوهجها ، فقد ذكر الراعب الاصفهاني ان الخليفة المنصور بعث الى من في الحبس من بني امية من يقول لهم : ما اشد ما مَّر بكم في هذا الحبس ...؟؟ فقالوا ما فقدنا من تربية اولادنا

وقد روى الجاحظ ان عقبة بن ابي سفيان لما دفع ولده الى المؤدب قال له : ليكن اول ما تبدأ به من اصلاح بنيَّ اصلاح نفسك ،فإن اعينهم معقودة بعينك ، فالحسن عندهم ما استحسنت ، والقبيح عندهم ما استقبحت ، وعليهم سِتِر الحكماء ، وخلاق الادباء ، وتهددهم بي ، وادبهم دوني ، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء ، ولا تتكلنَّ على عذرٍ مني ، فإني قد اتكلت على كفايةٍ منك )

وروى ابن خلدون في مقدمته ان هارون الرشيد لما دفع ولده الامين الى المؤدب قال له ( يا احمر : ان امير المؤمنين قد دفع اليك مهجة نفسة ، وثمرة قلبه ، فصيِّر يدك عليه مبسوطه ، وطاعتك له واجبة ، فكن له بحيث وضعك امير المؤمنين ... اقرأه القرآن ، وعرفه الاخبار ، وروِّه الاشعار ، وعلمه السنن ، وليصره بمواقع الكلام وبدئه ، وامتعه من الضحك الا في اوقاته .... ولا تمرَّنَ بك ساعة الا وأنت مغتنم فائدة تفيده اياها من غير ان تخزنه نتميت ذهنه ، ولا تمعنينَّ في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ، وقومه ما استطعت بالضرب والملايته فإن اباهما فعليك بالشدةِ والغلظة )

وقال هشام بن عبد الملك لسليمان الكلبيَّ مؤدب ابنه : ان ابني هذا هو جلدةُ ما بين عينيَّ ، وقد وليتك تأديبه ، فعليك بتقوى الله ، وأدِّ الامانة ، واول ما اوصِك به ان تأخذه بكتاب الله ، ثم رَوِّه من الشعر احسنه ثم تخلل به في احياء العرب ، ورحم الله الشاعر : -

قد ينفع الادبُ الاولادَ في صغرٍ وليس ينفعهم من بعده ادبُ

ان الغصونَ اذا عدَّلتها اعتدلت ولا تلين ولو لَيَنْتَهُ لخشبُ

اننا حين سردنا هذه الحوادث لم نسردها بمجرد الاستمتاع او للتسلية ، وانما لاخذ الفكرة والعيرة من ان قادة المسلمين على مر التاريخ قد اُعدوا اعداداً ليكونوا قادة ولاة امر ، فلم يأتوا ما بين عشية وضحاها على ظهور دبابات الكافر ليصبحوا قادة ، لا يعلمون فقهاً ولا سنة ولا شعراً ولا ادباً ، بل لا يعملون الا امراً واحداً هو خدمته الكافر وطاعته ولا يرقبون بأمتهم الا ولا ذمة ، واذا تكلموا لحنوا ، واذا قرأوا اية من القرآن للاستشهاد بها اخطأوا بل ولجوّا ، اما اذا تكلموا اللغةَ الاجنبية انطلقوا وامتجوا ، فقد ضاعنهم الكافر صياغة تخدمه هو ووضعه ضمن اطار لا يستطيع عقله ان يتجاوزه ومع الاسف لو سألته عن تاريخ امته ..... فالاكيد ان يعرف تاريخ اوروبا اكثر مما يعرف تاريخ امته .

اننا حين يحثنا هذا الموضوع انما يحثناه حتى نوصل النصيحة لانفسنا ولكل والد حتى تبرأ ذمته تجاه ولده فان الفتن اليوم كما اخبر رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم كقطع الليل ، والسير والعيش فيها انما هو الخطر المحدق في لحظة الغفلة ، فالقصد عند الكافر بعد انتصاره العسكري واقصاء الاسلام عن واقع الحياة انما هو تدمير مفاهيم الاسلام عند اجيال المسلمين المتعاقبة منذ هدم دولة الخلافة ، وهذا التدمير المبرمج لا يطال اناساً بعينهم وانما يطال كل المسلمين ، فكل فئة عمرية من المسلمين لها اجهزة لتدمير مفاهيم الاسلام فيها ، فللاطفال اجهزة تجذبهم لتدميرها وللشباب كذلك ، ولغيرهم وغيرهم ذكوراً واناثا .... فكانت هذه النصيحة .

فالاب الذي يدفع بولده الى المدارس الاجنبية ، والمعاهد التبشيرية ، انما يدفعه ليرضع من لبان الكفر ما يسمه حين يتلقف التوجيه والتعليم على يد المبشرين ..... فهل يدرك الوالد ما يصنع في ولده وامته وما سيؤول اليه حال ولده من الزيع والضلال .... بل ويتدرج على الشك والظنون في الاعتقاد ...... وهل يدرك الوالد ترسخ فكرة الكره للاسلام في قلب ولده .... ام انه سيفرح لان ابنه اجاد للغة الاجنبية وهو صغير .

ان الاب الذي يسلم ولده لاساتذةٍ ملحدين ، ومربين اشرار يلقنونه الكفر ويغرسونَ في سويداء قلبه بذور الضلال ، انما يكون قد خانَ الامانه وظلم نفسه قبل ظلمه لولده .

ان الواقع الذي نعيشه اليوم لهو واقع غريب عجيب ، فانك ترى اولاد المسلمين لا يختلفونَ في شيء عن ابناء غير المسلمين والعجيب انك تراهم يقلدونَ ابناء غير المسلمين في لباسهم وقص شعرهم وتبرجهم وطريقة كلامهم وأسلوبهم وطراز عيشهم ، فترى الواحد منهم ليس له همٌّ في الحياة الا ان يتخنفس في مظهره ، وأن يتخلَّعَ في مشيته وان يتميَّع في منطقه ، ويسير من ميوعة الى ميوعة ومن فسادٍ الى فساد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( خالفوا المشركين : حُفوا الشارب ، واعفوا عن اللّحن ) رواه البخاري ومسلم ، وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال ( ليس منا من تشبه بغيرنا ، لا تشبهوا باليهود والنصارى ) وفي رواية ابي داود ( من تشبه بقوم فهو منهم ) وروى البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قا ل ( لعن الله المخنثين من الرجال ، والمترجلات من النسا ء ) وصدق الشاعر حين قال : -

كل من اهمل ذاتيته

فهو اولى الناسِ طُرّاً بالفناء

لن يرى في الدهر شخصيته

كل من قلَّدَ عيش الغرباء

وأما انه غريب فلوجود الاب المسلم والامِّ المسلمة ، اين هما من هذا الولد ...؟؟ ام هم مثله ..؟؟؟

اننا حين نعقد المقارنة بين الاب والام اليوم وبين الاب والام قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنرى العجب العجاب ، اذ ان الجاهلي وزوجته كانا يعتنيان بالولد عناية لاحدود لها لتكوين شخصيته واضاعه الرجولة وتهيئته للسياده والقيادة فهذه الخنساء ترثي اخاها صخر حين مات فتصفه كيف كان : -

اعيني جودا ولا تجمدا

الا تبكيان لصخر الندي

الا تبكيان الجريئ الجميل

الا تبكيان الفتى الفتى السيدا

اذا القوم مدوا بأيديهم

الى المجد مدّ اليد اليدا

ولاحظوا في شعرها انه كان ( الفتى السيدا ) وفي موضع اخر ( ساد عشيرته امروا ) وايضاً هذا الشاعر الجاهلي يقول :

ما مات منا سيد ابداً الا اختلينا غلاماً سيداً فتيا

فالغلام عندهم يعي ويدرك وله شخصيته الخاصة به ، وليس امعة لا يحسن قولاً ولا يثبت على رأي بل لا بد له من مشاورة امه وأخذ رأيها ..... ويفزع اليها في كل امر ، والحلوى والشوكلاته هي دائرة غضبه وفرحه .

اننا حين تستعرض حياة السابقين الاولين من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنرى عجبا فانصت وأقرا ( علي بن ابي طالب ( 8 ) سنين ، والزبير بن العرام ( 8) سنين ، طلحة بن عبيد الله ( 11 ) سنه ، الارقم بن ابي الارقم ( 12 ) سنه ، عبد الله بن سعود ( 14 ) سنه ، سعد بن ابي طالب ( 18 ) سنه ، فإن هؤلاء وغيرهم ممن آمنوا كانوا قد تأدبوا ورضعوا الرجولة من امهاتهم فما غيروا ولا بدلوا رقم الضغوط والمحن التي مّروا بها وعاشوها فآمنوا وصبروا لانهم ادركوا واعتقدوا انهم اصحاب قضية رقم صغر سنهم ، فحري بكل اب حين يرزق بولد ، ويسميه خالد ان يزرع في نفسه رجولة خالد بن الوليد وشخصيته او حين يسميه صهيب او علي او جعفر او فاطمة او اسماء وان يبنيه بناءً يظهر اثره في تكوين شخصيته فقد روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال ( لا يكن احدكم أمّعة يقول : انا مع الناس ، ان احسن الناس احسنت ، وان اساءوا اسأت ، ولكن وطنوا انفسكم إن احسن الناس ان تحسنوا ، وان اساءوا ان تجتنبوا اساءتهم .


حديث رمضان 8 لعام 2010

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

2 تعليقات

  1. مقال اكثر من رااااااااااائع

    ردحذف
  2. Vielen Dank .. Und ich hoffe, Sie Mved Entwicklung und Schreiben von verschiedenen Themen :)

    ردحذف