فضيلة الأدب

فضيلة الأدب

أولاً الادب : هو الظرف وحسن التناول ويسمى أدبا لأنه يأدب الناس إلى المحامد .... وأصل الأدب الدعاء ومنه قيل للصنيع يدعى إليه الناس مأدبة ومنه الحديث عن ابن مسعود ( ان هذا القرآن مأدبة الله في الارض فتعلموا من مأدبته ) .

فالأدب أكرم الجواهر وانفسها قيمة يرفع الأحساب ويهذب الطباع واعلم ان جاها بالمال قد يصحبك ما صحبك المال وجاها بالأدب غير زائل عنك ، فالأدب فيه مادة العقل ودليل على المروءة وصاحب في الغربة وحلية في المجلس يجمع لكم القلوب المختلفة .

وقد وصف ابن عبد ربه الأندلسي رقة الأدب فقال :

أدب كمثل الماء لو افرغته يوما لسال كما يسيل الماء

وقيل للعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم انت أكبر ام رسول الله قال هو أكبر مني ، وأنا اسن منه، قلنا إن الادب هو حسن التناول ومنه قول الحق سبحانه وتعالى على لسان ابراهيم عليه السلام ( وإذا مرضت فهو يشفين ) في انه نسب المرض إلى نفسه والشفاء نسبة لله عز وجل .

وقد وصف اعرابي الادب في مجلس مُعْتمر بن سليمان فقال : الادب ادب الدين ، وهو داعية الى التوفيق ، وسبب الى السعادة ، وزاد من التقوى ، وهو ان تعلم شرائع الاسلام ، وأداء الفرائض ، وأن تأخذ لنفسك بحظها من النافلة ، وتزيد ذلك بصحة النية ، واخلاص النفس ، وحب الخير ، منافساً فيه ، مبغضاً للشر ، نازعاً عنه ، ويكون طلبك للخير رغبة في ثوابه ، ومجانبتك للشر رهبة من عقابه ، فتفوز بالثواب ، وتسلم من العقاب ، وذلك اذا اعتزلت ركوب الموبقات وآثرت الحسنات المنجيات ، وقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}التحريم 6 ، قال ادبوهم وعلموهم . ( بهجه المجالس وأنس المُجالس ص 110 جـ 1 )

وأخرج ابن عساكر عن ابي الدرداء قال ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عويمر يا أبا الدرداء كيف بك اذا قيل لك يوم القيامة علمت ام جهلت ...؟؟ فإن قلت علمت قيل لك فماذا عملت فيما تعلمت ، وان قلت جهلت قيل لك فماذا عذرك فيما جهلت الا تعلمت ...؟؟؟) .

وفي جامع الاحاديث : 960 قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( ادبني ربي ونشأتُ في بنى سعد ) ابن عساكر عن محمد بن عبد الرحمن الزهرى عن ابيه عن جده ان أبا بكر قال يا رسول الله لقد طفتُ في العرب وسمعتُ فَصَحَاءَهم فما سمعتُ افصحَ منك فمن أدَّبك قال ... فذكره .

خرجه ايضاً : حمزة بن يوسف السهمى في تاريخ جرجان ( ص 187 ) .

كتر العمال : 31942 (ادبني ربي ونشأت في بني سعد ." ابن عساكر – عن محمد ابن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده " .

وذكر في التبشير بشرح الجامع الصغير للمناوي :

( ادبني ربي ) اي علمني رياضة النفس ومحاسن الأخلاق ( فأحسن تأديبي ) بإفضاله عليّ بجميع العلوم الكسبية والوهبية بما لم يقع نظيره لأحد من البشر قال السهروردي والناس في الادب على طبقات أهل الدنيا وأهل الدين وأهل الخصوص فأدب اهل الدنيا الفصاحة والبلاغة وتحصيل العلوم وأخبار الملوك وأشعار العرب وأدب أهل الدين مع العلم رياضة النفس وتأديب الجوارح وتهذيب الطباع وحفظ الحدود وترك الشهوات وتجنب الشبهات وأدب اهل الخصوص حفظ القلوب ورعاية الأسرار واستواء السر والعلانية ( ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود ) وكذا العسكري في الامثال .

( أدّبوا أولادكم ) علموهم لينشؤا ويستمورا ( على ) فعل ( ثلاث خصال ) وهي ( حبّ نبيكم ) المحبةالإيمانية لا الطبيعية لأنها غير اختيارية ومحبته تبعث على امتثال ما جاء به ( وحبّ أهل بيته ) عليّ وفاطمة وابنيهما كما مر ( وقراءة القرآن ) أي حفظه ومدارسته ( فإن حملة القرآن ) أي حفظته عن ظهر قلب ( في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله ) وهو يوم القيامة ( مع انبيائه وأصفيائه ) الذي اختارهم من خلقه وارتضاهم لجواره وقربه ( تنبيه ) إنما كان التأديب مأمورا به لأن النفس مجبولة على سوء الأدب والعبد مأمور بملازمة الأدب والنفس تجول بطبعها في ميدان المخالفة فيتعين ردّها بتهذيبها ( ابو نصر عبد الكريم الشيرازي في فوائده فروا بن النجار ) في تاريخه ( عن علي ) أمير المؤمنين .

النهاية في غريب الأثر :

ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان افصح العرب لسانا وأوضَحَهُمْ بيانا ، وأعذَبَهم نُطقا وأسَدَّهم لفظا ، وأبَيَنهم لَهجَة وأقومَهم حُجة . وأعرَفَهُم بمواقع الخطاب وأهدَاهم إلى طُرق الصواب ، تأييداً إلهياً ولَطفا سماويا ، وعنايةً رَبَّانية ورعايةَ رُوحانية حتى لقد قال له عليُّ بن ابي طالب كرم الله وجهه – وسَمِعَهُ يخاطبُ وَفْد بَني نَهْد - : يا رسول الله نحن بنو اب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال ( أدَّبني ربي فأحسن تأديبي وَرُبيتُ في بني سَعد ) . فكان صلى الله عليه وآله وسلم يُخَاطب العرب على اختلاف شُعُوبهم وقبائلهم وتَبَاين بُطونهم وافخاذهم وفصائلهم كلا منهم بما يفهمون ويُحادثُهم بما يعلمون . ولهذا قال – صدق الله قوله ( امرت ان اخاطب الناس على قدر عقولهم ) فكان الله عز وجل قد أعلمه ما لم يكن يَعلمه غيرُه من بني ابيه وجمع فيه من المعارف ماتفرق ولم يوجد في قاصي العرب ودانية ، وكان أصحابه رضي الله عنهم ومن يَفِدُ عليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله وما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم .

( وذكر في فيض القدير :

- (ادبني ربي ) أي علمني رياضة النفس ومحاسن الاخلاق الظاهرة والباطنة ، والأدب ما يحصل للنفس من الأخلاق الحسنة والعلوم المكتسبة ، وفي شرح النوابغ هو ما يؤدي بالناس إلى المحامد أي يدعوهم ( فأحسن تأديبي ) بإفضاله علي بالعلوم الكسبية والوهبية بما لم يقع نظيره لأحد من البشر قال بعضهم : أدبه بآداب العبودية وهذبه بمكارم الاخلاق الربوبية ولما أراد إرساله ليكون ظاهر عبوديته مرآة للعالم كقوله صلوا كما رأيتموني اصلي وباطن حاله مرآة للصادقين في متابعته وللصديقين في السير إليه ( فاتبعوني يحببكم الله ) وقال القرطبي : حفظه الله من صغره وتولى تأديبه بنفسه ولم يكله في شيء من ذلك لغيره ولم يزل الله يفعل به حتى كره إليه احوال الجاهلية وحماه منها فلم يجر عليه شيء منها ، كل ذلك لطف به وعطف عليه وجمع للمحاسن لديه انتهى .

وفي هذا من تعظيم شأن الأدب ما لا يخفى ، ومن ثم قالوا : الأدب صورة العقل فصور عقلك كيف شئت وقالوا : الفضل بالعقل والادب لا بالأصل والنسب لان من ساء ادبه ضاع نسبه ومن ضل عقله ضل اصله وقالوا : زكِّ قلبك بالأدب كما تزكي النار بالحطب وَحُسن الادب يستر قبيح النسب ) .

التذكرة في الاحاديث المشتهرة :

الحديث الثاني ادبني ربي فأحسن تأديبي

معناه صحيح ايضا لكنه لم يأت من طريق يصح

وقد ذكره ابن الجوزي في الاحاديث الواهية في ذيل حديث وفد بني نهد وضعفه فقال هو حديث لا يصح في اسناده ضعفاء ومجاهيل

واسنده سبطه العلامة شمس الدين يوسف من حديث علي بن ابي طالب بطوله في كتاب مرآة الزمان واخرجه بطرق كلها تدور على السدي عن ابي عمارة الحيواني عن علي بن ابي طالب وفيه فقال علي رضي الله عنه يا رسول الله انك تكلم الوفود بكلام او بلسان لا نفهم اكثره فقال ان الله ادبني فأحسن تأديبي ونشأت في بني سعد بن بكر فقال له عمر يا رسول الله كلها من العرب فما بالك افصحنا فقال اتاني جبريل بلغة اسماعيل وغيرها من اللغات فعلمني اياها .

قال السبط والسدي اسمه اسماعيل بن عبد الرحمن كان اماما في كل فن وعنه نقل التفسير والقصص وغيرها وقد ذكره جدي في زاد السير وعامة كتبه وكذا عامة العلماء ووثقه الترمذي في كتاب السنن وقد تكلم عل هذا الحديث الاصمعي وابو عمرو ابن العلاء والازهري وصححه ابو الفضل ابن ناصر وتكلم عليه وجعله من معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وختم به جري كتابه المسمى المتنخب ثم تكلم عليه وشرح الفاظه قلت واخرجه الامام ابو سعيد السمعاني في كتاب ادب الاملاء من جهة صفوان بن مغلس الحبطي بن محمد بن عبد الله عن سفيان الثوري عن الاعمش قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان الله ادبني فأحسن ادبي ثم امرني بمكارم الاخلاق قال ( خذ العفو وامر بالمعروف ) الاية .

( أخبرنا طيب بن احمد الاشقر ابو الطاهر أخبرنا محمد ابن الحسين بن موسى حدثنا محمد بن محمد بن الحسن الكارزي سمعت إبراهيم بن محمد البيهقي سمعت سليمان بن أحمد يقول سمعت جعفر ابن وردان البصري يقول ( حدثنا الاصمعي حدثنا هارون الأعور قال قال هشام بن عبد الملك لبنيه تعلموا الأدب فإن إيراثي إياكم الأدب احب إلي من إيراثي إياكم المال فإن المال غاد ورائح والأدب باق والعلم زين والجهل شين واذكروا من الحديث ما كان مسندا عن رسول الله وإياكم أن تجمعوا منه تجميع حاطب الليل فتشكوا في الخالق والمخلوق والصانع والمصنوع والرب والمربوب ولا تجالسوا السفهاء ولا تمازحوا وإياكم وأصحاب الكلام فإن امرهم لا يؤول إلى الرشاد ولا تصطبحوا بالنوم فإنه شؤم ونكد )

ومن كلام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ( من حلم ساد ومن ساد استفاد ومن استحيا حرم ومن هاب خاب ومن طلب الرياسة صبر على الساسية ومن ابصر عيب نفسه عمي عن عيب غيره ومن سل سيف البغي قتل به ومن احتفر لأخيه بئرا وقع فيها ومن نسي زلته استعظم زلة غيره ومن هتك حجاب غيره انهتكت عورات بيته ومن كابر في الامور عطب ومن اقتحم اللجج غرق ومن أعجب برايه ضل ومن استغنى بعقله زل ومن تجبر على الناس ذل ومن تعمق في العمل مل ومن صاحب الأنذال حُقر ومن جالس العلماء وقر ومن دخل مداخل السوء اتهم ومن حسن خُلُقه سهلت طرقه ومن حسُن كلامه كانت الهيبه امامه ومن خشي الله فاز ومن استقاد الجهل ترك طريق العدل ومن عرف أجله قصر امله .

قال ابن عباس كفاك من علم الدين أن تعرف مالا يسعُك جهله وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثال فإن آية العقل سرعة الفهم ، وغايته اصابة الوهم ، ورواية الشاهد والايتان بالمثال حتى تنجلي الصورة لمن أُشكل عليه الامر وعجز عن الفهم ، فقد قيل لعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه : كيف يحسب الله العباد على كثرة عددهم ...؟؟قال كما يرزقهم على كثرة عددهم .... وقيل لعبد الله بن عباس : اين تذهب الارواح اذا فارقت الاجساد ..؟؟؟ قال : اين تذهب نار المصابيح عند فناء الادهان ...؟؟؟ هذان الجوابان تضمنا دليلي اذعان وحجتي قهر .... فهم منهما السائل ليس عين السؤال ولكن افهم حقيقة سؤاله ومداه .

وروى قثم بن العباس رضي الله عنهما قال : قيل لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه : كم بين السماء والارض ...؟؟ قال : دعوى مستجابة ، قيل فكم بين المشرق والمغرب ..؟؟؟ قال مسيرةَ يوم للشمس ، فكان هذا السؤال من سائله اما اختباراً واما استبصارا ، فصدر من الجواب ما اسكت ، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( من لا ادب له لا عقل له ) ورأس الأدب كله حسن الفهم والتفهم والإصغاء للمتكلم وقال الشعبي فيما يصف عبد الملك بن مروان : والله ما علمته الا آخذ بثلاث الله تاركا لثلاث آخذ بحسن الحديث إذا حدَّث وبحسن الاستماع إذا حُدث وبأيسر المؤونة إذا خولف تاركا مجاوبة اللئيم ومماراة السفيه ومنازعة اللجوج ... وقال سعيد بن العاص لجليسي علي ثلاث إذا دنا رحّبت به وإذا جلس وسعت له وإذا حدّث أقبلت عليه .

وقال يحيى بن أكتم : ماشيت المأمون يوما من الأيام في بستان مؤنسة بنت المهدي فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس ... فلما انتهينا إلى آخره وأردنا الرجوع أردت أن أدور إلى الجانب الذي يستره من الشمس فقال لا تفعل ولكن كن بحالك حتى أسترك كما سترتني فقلت يا أمير المؤمنين لو قدرت أن اقيك حر النار لفعلت فكيف الشمس فقال ليس هذا من كرم الصحبة ومشى ساترا لي من الشمس كما سترته .

وعن جابر بن عبد الله قال استأذنت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال من أنت فقلت انا قال أنا أنا وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( الإستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع ) .

والقصة عن حسن التأتي :

جاء إلى سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين رجل فقال له : بالذي أسبغ عليك هذه النعم من غير شفيع كان لك إليه إلا تفضلا منه عليك إلا أنصفتني من خصمي وأخذت لي الحق منه فإنه ظلوم غشوم لا يستحي من كبير ولا يلتفت إلى صغير فقال له أعلمني من هو فإن لم ينصفك وإلا أخذت الذي فيه عيناه .... من هو قال الرجل الفقر يا أمير المؤمنين ... فأطرق إلى الارض مليا بنكث الأرض ثم رفع رأسه فأمر له بعشرة الاف دينار فأخذهما ومضى .... فلما كان بعيدا عنه قال ردوه ... فما مثل بين يديه قال ... ياذا الرجل سألتك بالله متى أتاك خصمك متعسفا الا أتيت إلينا متظلما .

والثانية :

ان عمران بن حطان كان شجاعا جريئا ... شق عصا الطاعة وحارب الحجاج لعسفه ولكن الحجاج هزمه وظفر به وأمر بإحضاره فلما مثل بين يديه قال على الفور اضربوا عنق ابن الفاجرة .... فقال عمران بئس الأدب أدبك به أهلك يا حجاج كيف تأمن ان أشتمك كما شتمتني .... أفبعد ان تأمر بقتلي ... أرجوا عندك خيرا أو صفحا .. فأطرق الحجاج استحياء ثم قال خلوا سبيله .

وعمران هذا كان دميما

نظرات امرأة عمران بن حطان يوما في المرآة وكانت جميلة وكان عمران دميما ... فقالت أنا وأنت في الجنة قال لها لم قالت لأنك روقتني فشكرت وابتليت بك فصبرت والصابر والشاكر في الجنة .

وقرأت في كتاب تربية الاولاد في الاسلام للشيخ عبد الله علوان جـ 1 ص 142 : واليكم نموذجاً يبين ما كان عليه اولاد السلف من ادب الكلام ، وحسن الخطاب ، وجمال القول ، لتعلموا – ايها الاباء – كيف كان الاولاد في الماضي يتحدثون ويتكلمون : قحطت البادية في ايام هشام بن عبد الملك ، فقدمت القبائل الى هشام ودخلوا عليه ، وفيهم ( درواس بن حبيب ) وعمره اربع عشرة سنه ، فأحجم القوم ، وهابوا هشاماً ، ورفعت عين هشام على درواس .... فاستصغره ، فقال لحاجبه : ما يشاء احدٌ يصل اليَّ الا وصل ...؟؟؟ حتى الصبيان ..؟؟؟!! فعلم درواس انه يريده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ان دخولي لم يُخلَّ بك شيئاً وقد شرفني ، وان هؤلاء القوم قدموا لامرٍ احجموا دونه ، وإن الكلام نشر ، والسكوت طي ، ولا يعرف الكلام إلا بنشره ، فقال هشام : فانشر لا ابا لك ... وأعجبه كلامه .

فقال : يا أمير المؤمنين : اصابتنا ثلاث سنين : فسنة اذابت الشحم ، وسنة اكلت اللحم وسنة نقت العظم ، وفي ايديكم فضول اموال ان كانت لله ففرقوها على عباد الله المستحقين لها ، وان كانت لعباد الله فلام تحبسونها عنهم ..؟؟؟ وان كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع اجر المحسنين ، واعلم يا امير المؤمنين : ان الوالي من الرعية كالروح من الجسد ، ولا حياة للجسد الا به .

فقال هشام : ما ترك الغلام في واحدةٍ من الثلاث عذراً ، وامر ان يقسم في باديته مائة الف درهم ، وامر لدرواس بمئة الف درهم .

فقال يا أمير المؤمنين : ارددها الى اعطية اهل باديتي فإني اكره ان يعجز ما امر لهم به امير المؤمنين عن كفايتهم ، فقال : فما لك من حاجة تذكرها لنفسك ...؟؟ قال مالي حاجة من دون عامةِ المسلمين

ثانياً

في قوله تعالى{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }الملك10

ان حسن التناول والتأتي لاي امر يعتمد على كيفية عقله وادراكه ومن اي الجوانب تتناوله وما هي زاوية النظر التي تنظر بها الى هذا الامر سواء أكان فعلاً تفعله او رداً على فعل وقع عليك او على شيء وقع او تريد ايقاع فعلٍ عليه ، ومن هنا تبرز هذه الاهمية للأدب لكونه يدعوا الى محامد الامور وينهى عن مساوئها ، فكان عقلها هو اسُّ هذا الامر ، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اصل الرجل عقله ، وحسبه دينه ومروءته خلقه ، ويقول الحسن البصري اما استودع الله احداً عقلاً الا استنقذه يوماً ما ، فالعقل افضل مرجو ، والجهل انكى عدو ، وفي هذا المعنى يقول ابراهيم بن حسان الشاعر :

يزين الفتى في الناس صحة عقله

وان كان محظوراً عليه مكاسبه

يشين الفتى في الناس قلة عقله

وان كرمت اعراقه ومحاسبه

اذا اكمل الرحمن للمرء عقله

فقد كملت اخلاقه ومآربه

وروى الضحاك في قوله تعالى{لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً}يس 70 ، اي من كان عاقلاً .

ان العقل هو اداة فهم الحق ، والعاقل من صحت عنده هذه الاداة فاستعملها استعمالاً يوصله الى الغاية من وجوده وهي عبادة ربه ، وهذه لا يمكن ان تحصل الا اذا ادرك ان لهذا الخلق خالقاً اوجده من عدم ، فكان كل من توصل بصحيح النظر الى وجود الخالق فهذا هو العاقل ، فقد اخرج ابن المجبر عن ابي سعيد الخدري انه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لكل شيء دعامة .... ودعامة المؤمن عقله ، فبقدر عقله تكون عبادته ، اما سمعتم قول الفجار في النار ( لوكنا نسمع او نعقل ما كنا في اصحاب السعير ) .

وأما من استعمل اداة الفهم لفهم القوانين التي اوجدها الله في مادة الكون والانسان والحياة وفهم خواص الاشياء ، فإن هذا الاستعمال يوصل صاحبه الى الحقيقة وهذه الحقيقة لا بد ان توصل لما بعدها ... فإذا انقطعت وتوقفت فإن هذه الحقيقة تبقى دائرة في دائرة الدنيا ولا تتعداها .... اذ ان فهم قوانين الفيزياء والكيمياء حقائق عند الباحث ولابد لهذه الحقائق ان توصل الى الحق وأن هذا الحق هو ان هذا الكون مخلوق لخالق واجبة علينا طاعته ، فمن توصل الى الحق عبر الحقيقة فإنه العاقل الذي استعمل اداة الفهم لتوصله الى الحق وأما من اكتفى بالحقيقة فقط ولم توصله هذه الحقيقة الى الحق فإنه احمق ولا ادب عنده ، لانه استعمل عقله ليصل إلى الحقيقة ولم يستعمل عقله لسير في طريق الإستنارة للإهتداء للخالق عز وجل بغض النظر عن درجته العلمية ، فالذي قال ان البعرة تدل على البعير ، والاثر يدل عل المسير ، قد استعمل اداة الفهم ففهم الحقيقة وتابع هذا الامر فأوصلته الحقيقة الى الحق وصدق الله العظيم{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ{7} أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ{8}الروم ، وقوله تعالى{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179 ، وروي في جامع الاحاديث حدثنا داود بن المحبر حدثنا ميسرة عن ابن جابان عن لقمان بن عامر عن ابي الدرداء ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له ( يا عويمر ازدد عقلاً تزدد من ربك قربا ، قال قلت بأبي انت وامي وكيف لي بذلك ....؟؟ قال اجتنب محارم الله وأدِّ فرائض الله تكن عاقلاً وتنفل بالصالحات من الاعمال تزدد بها في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنال بها من ربك القرب والعزة )

ان قواعد الادب عندنا هي كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ادبوا اولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم ، وحب آل بيته ، وتلاوة القرآن ) فكانت هذه القواعد التي توجه اداة الفهم التوجيه المطلوب شرعاً وان لا يدخل على هذه القواعد ما يمكن ان يلوثها ، بل تبقى العقيدة هي هي وزاوية النظر الى كل امر او فعل هو امر الله ونهيه فقد روى الحاكم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال ( افتحوا عل صبيانكم اول كلمة بلا إله الا الله ) فهي عندنا اسَّ الادب والاطار الذي يحضن داخله كل علم سواء اكان فقهاً ام حديثاً ام رياضيات ام فيزياء ام احياء ، فنظرة العالم المتأدب بأدب الاسلام ونشأ فمن هذه الحاضنة وينظر الى كل الامور من زاوية ما تأدب وتربى عليه لا يقول بنظرية النشوء والارتقاء ولا يقول بمادية الكون بل تحصل له ببحثه دلائل عديدة على ان هذا الخلق اوجده الله من عدم وقوله بعد كل بحث ونتيجة تبارك الله رب العالمين .

ان استعمال اداة الفهم لطلب العلم وعقله اشرف عمل يرغب فيه الراغب ، وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب ، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب ، فشرفه يثمر على صاحبه ، وفضله ينمي على طالبه وصدق الله العظيم{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}الزمر 9 ، وقوله تعالى{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}العنكبوت43، فمنع المساواة بين العالم والجاهل لفضل العلم وفي الاية الثانية نفي ان يكون خير العالم يعقل عنه جل وعلا امراً فقد روى الترمذي بسند صحيح انه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان احدهما عابد والآخر عالم فقال عليه افضل الصلاة والسلام ( فضل العالم على العابد ، كفضلي على ادناكم) ثم قال ( ان الله وملائكته وأهل السموات والارض حتى النملة في حجرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير ) ، ومعلم الناس الخير يأدب ويدعو الى المحامد وينهى عن المساوئ فكان استعماله لاداة الفهم في طلب العلم قربى الله عز وجل .

ان الله جلت قدرته قد دعا خلقه وحثهم على استعمال اداة الفهم لعقل ما خلق في السموات والارض وفهم قوانينها ليس لمجرد الفهم وانما للتدبر والتفكر للوصول بصحيح النظر والاهتداء للخالق المدبر فقال جل وعلا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }البقرة164، يعني دلالات تدل على وحدانيته وقدرته وفي آخر سورة آل عمران{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ }آل عمران190، يعني الذين يستعملون اداة الفهم وهم اولي الالباب يعني اصحاب العقول، وقد روت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام يصلي ، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة فرآه يبكي فقال يا رسول الله ، اتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال ( يا بلال افلا اكون عبداً شكوراً) ولقد انزل الله علي الليلة آية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ }آل عمران190، ثم قال ( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) واما من لم يرد استعمال اداة الفهم للوصول للحق بعد ان اتضحت له الحقيقة فقد قال الله جل وعلا بحقه {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }يونس101 .

ورحم الله الشاعر تنسب الى علي بن ابي طالب :

ان المكارم اخلاق مطهرة

فالعقل اولها والدين ثاينها

والعلم ثالثها والحلم رابعها

والجود خامسها والعرف ساديها

والبر سابعها والصبر ثامنها

والشكر تاسعها واللين عاشيها

والنفس تعلم اني لا اصدقها

ولست ارشُد الاحين اعصيها

والعين تعلم في عيني محِّدثها

من كان من جزيها او من يعاديها

عيناك قد دلتا عينيَّ منك على
ج

اشياء لولاهما ما كنت تبديها

ورحم الله الشاعر حين قال :

لكلِ داءٍ دواءٌ يستطب به الا الحماقة اعيت من بداويها

اننا حين تناولنا مفهوم الادب للبحث من عدة جوانب لم نتناوله لنصل الى نتيجة موضوعة سلفا ، وانما حاولنا ان نصل الى فهمه بشكل ادق وفهم اعمق ، وحين تناوله الصحابة والتابعون وغيرهم من علماء المسلمين كل حسب فهمه لاحاديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، والتي حضَّ بها على الادب والتأدب والتأديب ، بل وأسهبنا في بعض الجوانب توصلنا الى ان الادب في واقعه ضوابط للسلوك يحرص عليها المسلم بوصفها تدعو الى المحامد كلها وتنهى عن السماوئ كلها فيصاغُ المسلم صياغة تجعله في كل سلوك يسلكه يختلف عن غيره بل ويتميز عنه .

ان لكل مبدأ ادب يأدب من اتبعه به ويلونه بلونه وصبغته ، فالاسلام له ادب يؤدب المسلمين به بكل احكامه وعقيدته وما ينبثق عنها فيصطبغون بصبغة الاسلام وكذلك المبدأ الاشتراكي والمبدأ الرأسمالي ، ومن يخلط ادب مبدأ بأخر فكأنه لبس ثوباً بلونين مختلفين وسلك طريقين متناقضين ، ومثاله المصلحة فإنها عند المسلمين كل امرٍ فيه صلاح الدنيا والآخرة يعينها الشارع امراً او نهيا ، وهي عند الرأسماليين كل امر يمكن ان يحقق غاية بغض النظر عن صلاح الطريق وفساده ولا اعتبار فيه للأخرة .

قلنا ان الادب هو ضوابط السلوك في كل امر فهناك ادب للعلم وأدب للعالم وللمتعلم وأدب للصانع وأدب للتاجر وادب للبائع وأدب للمشتري وأدب للسائل وهكذا ،وكل يستند في ادبه لقاعدته الفكرية ، ومسألة الالتزام بها او مخالفتها هي مسألة اخرى ترجع للشخص نفسه التزاماً او تحللاً او تغليب هوى او غير ذلك .

ان الاحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة الاسلامية جاءت لتحدد المسار للمسلم في هذه الحياة الدنيا حتى يصل بسلام الى الأخرة ، ولم تترك امراً من اموره ولا فعلاً من افعاله الا وله حكم شرعي موصوف بواجب او مندوب او مباح او مكروه او حرام ، فكانت افعاله كلها يفعلها تقيداً بأمر الشارع فعلاً او تركا ويدرك الصلة بالله الخالق حين فعله او تركه وأن الله مراقبه ومحاسبه ، فكانت هذه هي المحددات والاطار الذي يحيا بداخله ويموت بداخله ولا يخرج منه او يتجاوزه .


حديث رمضان 8 لعام 2010

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

7 تعليقات