مفهوم الاخلاق

مفهوم الاخلاق

الخَلْقُ : في كلام العرب هو ابتداع الشيء على مثال لم يُسبق اليه وكل شيء خلقه الله فهو مبتدأه على غير مثال سُبق اليه ( ألاله الخلق والامر ) ، وقال الازهري الخالق والخلاق من صفات الله ولا تجوز هذه الصفة بالالف واللام لغير الله عز وجل ، وهو الذي اوجد الاشياء كلها بعد ان لم تكن موجودة ، وأصل الخلق التقدير .

قال ابو بكر بن الانباري : الخلق في كلام العرب على وجهين :

احدهما الانشاء على مثال ابدعه ، والآخر التقدير وفي قوله تعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }المؤمنون14 معناه أحسن المقدرين ، وكذلك في قوله تعالى{وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}العنكبوت 17،اي تقدرونَ كذبا ، وقوله تعالى{ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ}آل عمران 49 يعني تقديره ولم يرد انه يحدث معدوماً .

والخَلْقُ : يعني الكذب فيقال هذه قصيدة مخلوقة اي منحولة إلى غير قائلها ومنه قوله عز وجل {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ }الشعراء137 يعني كذب الاولين وخلق الاولين شيمتهم وعادتهم وقوله تعالى{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ }ص7، اي تحرص وقيل كذب .

وأما الخُلُقُ: فإنه الدين والطبع والسجية ، وحقيقة الخلقِ أنه لصورة الانسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورةِ لانسانِ الظاهرة ومعانيها وفي هذا الامر يقول القرطبي رحمه الله جـ 18 ص 227 : وحقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الانسان نفسه من الادب يُسمَّى خلقاً ، لانه يصير كالخلقة فيه ، وقد روي عن السلف في معنى حسن الخلق اقوال نسأل الله تعالى : ان يكمل اخلاقنا به فقد روي عن الحسن انه قال

حسن الخلق : الكرم والبذلة والاحتمال ، وعن الشعبي قال :

حسن الخلق : البذلة والعطية والبشر الحسن ، وكان الشعبي كذلك ، وعن ابن المبارك قال : هو بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الاذى ، وسئل سلام بن ابي مطيع عن حسن الخلق فأنشد شعراً :

تراه اذا ما جئته متهللاً

كأنك تعطيه الذي انت سائله

ولو لم يكن في كفه غير روحه

لجاد بها فليتق الله سائله

هو البحر من اي النواحي اتيته

فلجته المعروف والجود ساحله

وقال الامام احمد : حسن الخلق الا تغضب ولاتحقد وان تحتمل ما يكون من الناس .

وروى الترمذي بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( ان من احبكم الي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة احاسنكم اخلاقا ، وان ابعضكم الي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدفون والمتفيهقون : قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ...؟؟ قال المتكبرون ) وروى ابو داود عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( ان المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم )

وفي قوله تعالى{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم4

1 – روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت ( ان خُلُقه كان القرآن ) وسئلت ايضاً عن خلقه فقرأت{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم4 ، الى عشر آيات وقالت ما كان احد احسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما دعاه احد من الصحابة ولا من اهل بيته إلا قال لبيك ، وقال الجنيد سُمّيَ خلقه عظيما لأنه لم تكن له همة إلا الله تعالى ، وقيل لانه امتثل تأديب الله تعالى اياه بقوله{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }الأعراف199.

ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المبلغ عن الله وهو الذي لا ينطق عن الهوى كان لنا الاسوة الحسنة نهتدي بهديه ونترسم طريقه في كل امرٍ من امور الدنيا الآخرة ، ونحاول ان نفعل نفس افعاله تأسياً واقتداءً به ومما نقتدي به حسن الخلق فقد روى البخاري ومسلم عن انس قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احسن الناس خُلقا) وروى الامام احمد عن ابي هريرة ورواه الامام مالك في الموطأ انه صلى الله عليه وآله وسلم قا ل( بعثت لأتتم حسن الخلق ) وعن جابر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قا ل( أن الله بعثني لتمام مكارم الاخلاق وكمال محاسن الافعال ) رواه في شرح السنة .

2 – ان الشريعة الاسلامية حين عالجت علاقة الانسان بنفسه بالاحكام الشرعية المتعلقة بالصفات الخلقية لم تجعل ذلك نظاماً لعلاقته مع ربه بالعبادة او علاقته مع غيره بالمعاملة ، وانما حُددت بعلاقته مع نفسه بان يراعي هو تحقيق قيم معينة امر الله بها او نهى عنها كالصدق والامانة وعدم الغش والحسد والحقد واللؤم والعفة والشجاعة والجبن والجود فإنها كلها تحصل من امر واحد ، وهو الامر من الله عز وجل طاعة له ، وهذه الطاعة لا تحصل الا اذا وطن الانسان نفسه وصاغها لتكون الوعاء الذي يتلقى امر الله ونهيه .

ان الامانة والصدق والعفة والشجاعة والجود كلها اخلاق وأوامر من الله تعالى فتراعى قيمتها الخلقية حين القيام بالعمل ، فتتحقق هذه القيمة وتسمّى اخلاقاً ، لاننا حين قمنا بالعمل قمنا به بقصد تحقيق هذه القيمة المأمورونَ بتحقيقها من الله ، وقد تعين قصدنا من هذا العمل قبل قيامنا به .

ان الاخلاق جزء من شرع الله لنا ، وقسم من اوامره ونواهيه ، فلا بد من تحقيقها في نفس المسلم ليتم عمله بالاسلام ويكمل قيامه بأوامر الله ونواهيه فتستقر في نفسه فتتهذب نفسه بهذه المفاهيم ، فتصبح الاخلاق عنده صفة مستقرة في نفسه – فطرية او مكتسبه – ولها آثار في سلوكه تضبطه وفقاً لها فتصير صورته عند غيره حين يصفه هذا الغير بأنه صاحب خلق ولا يصف نفسه بل يضبطها وفق هذه المفاهيم فيكون وصف غيره له وصف لسلوكه ، فكانت الاخلاق هي نتاج التزامه بأمر الله ونهيه .

ان المسلم صاحب قضية وتوطين النفس لتكون الوعاء لهذه القضية واجب ، فالذي يطلب معالي الامور وعظائمها يكون الجد والاباء والشجاعة والترفع عن الصغائر والدنايا وكل ما يدور ضمن هذا المعنى هي ظواهر سلوكه ، فإنه قد صقل نفسه صقلاً يتوافق مع هذه القضية وصاغها صياغية يؤهلها لتكون الوعاء لها . والامر بهذا في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه الطبراني عن الحسين ابن علي ( ان الله يحب معالي الامور وأشرافها ويكره سفاسفها ) وعنه ايضاً ( ان الله تعالى يحب معالي الاخلاق ويكره سفاسفها ) واما النهي فقد روى الترمذي عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لا تكونوا امعة تقولونَ ان احسن الناس احسنا ، وان ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا انفسكم ان احسن الناس ان تحسنوا وان اساؤوا فلا تظلموا )

وفي هذا يقول الشاعر : -

عجبت أُثيلة ان رأتني مخلقاً

ثكلتك امك أيُّ ذاك يَروعُ

قد يدرك الشرفَ الفتى ورداؤه

خَلَقٌ وجيب قميصه مرفوع

ان الاخلاق وان كانت مهمة لصاحب القضية السامية فإنها ليست غايته التي يسعى لها ويتوقف عند تحقيقها ، فإن الاخلاق تتعلق بفردية الفرد وحسن تصرفه فإنها لازمة لصاحب القضية في سيره وهو يحمل هذه القضية ولا علاقة ولا تأثير للاخلاق في القضية المصيرية للمسلمين وهي بناء المجتمع المسلم واستئناف الحياة الاسلامية فاننا وان كنا نحب احمد شوقي فإننا نخالفه في قوله : -

انما الامم الاخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا

3 – قلنا ان الاخلاق هي ظواهر في السلوك ، ولكن لا يشترط ان تكون هذه الظواهر دالة دلالة قطعية على وجود الخلق في النفس ، لان باستطاعة الانسان ان يمارس من ظواهر السلوك ما ليس مستقراً في نفسه ولا هو من طبعه ، فيستطيع ان يتصنع ما لا ترتاح نفسه اليه ، ويستطيع لغرض ما ان يتكلف ما ليس فيه ، فقد يجود الشحيح لغاية في نفسه ونسمّي هذا العطاء عطاءً كريما ، ولكن يظل صاحب هذا العطاء الكريم غير متصف بخلق الجود ويعرف هو نفسه ذلك ومن قول لعمر ( من تخلق للناس بما يعلم الله انه ليس من نفسه شانه الله ) وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( من صنع اليكم معروفاً فليجز به فإن لم يجد ما يجزيه به فليُثن عليه ، فإنه اذا اثني عليه فقد شكره ، وان كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور ) قال عنه في تحفة الاحوذي حديث حسن غريب والبخاري في الادب المفرد وابن حيان وقال المناوي في التيسير اسناده صحيح .

وهذا الامر بالنسة لمن اراد ان يتخلق بما ليس فيه ليظهر امراً للناس ويبطن امر ، واما ان كان فعله ليوطن نفسه كالشحيح الذي يبذل والجبان الذي يقدم حتى يصل لدرجة يكون فعله هذا سجية وخلقاً له فلا يعتبر فعله هذا تخلفاً بل يكون توطيناً للنفس وفي شعر حاتم الطائي : -

تحلّم عن الادنين واستبق ودهما ولن تستطيع الحلم حتى تحلَّما

وتوطين النفس ليس بالامر السهل على النفس البشرية صحيح انه يبدأ بقرار ولكن هذا القرار لا يكفي وحده بل لا بد من الممارسة العملية لهذا القرار في كل فعل وسلوك وان يكون السلوك الخلقي مدفوعاً بدافع ابتغاء مرضات الله فقط ، فإنه حين قيامه بتحقيق القيمة الخلقية لا يحققها لذاتها وانما يحققها ابتغاء مرضات الله عز وجل فيكون ظاهر هذا السلوك صادق الدلالة على ما تنطوي عليه نفسه ، وصدق الله العظيم {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ }المؤمنون60.

ولله در الشاعر : -

فسري كإعلاني وتلك خليقتي وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري

وقد لا تكون الظاهرة الخلقية نابعة من اساس عقدي او مستندة اليه ، وفي هذه الحالة – والعياذ بالله – تكون هذه الظاهرة السلوكية غير صادقة الدلالة على ما تنطوي عليه النفس ، فهي اما باب من ابواب النفاق ، او الرياء ، او المجاملة والمداراة ، او من باب التجارة المادية او المعنوية لتحقيق مغنم من المغانم ، فالصدق مثلا قد يكون بدافع ترويج بضاعة ، والعطاء قد يكون بدافع الطمع بمغنم اكبر ، او بدافع الحذر لا بدافع الجود ولا بدافع الرحمة ، والثبات قد لا يكون بدافع الصبر وانما بدافع العجز ، والزهد قد لا يكون بدافع القناعة وانما يكون بدافع العجز عن الوصول ، فيكون هذا وأشباهه وسيلة للصيد ، والصياد المتخلق بهذه الاخلاق هنا يترقب الصيد الاثمن فيسقط قناع تخلقه وتنجلي صورته وتظهر انيابه.

بقيت في الموضوع مسألة وهي : هل توجد علاقة بين حاجات الانسان العضوية وغرائزة وبين الخلق ...؟؟؟ فنقول ان الغرائز والحاجات العضوية لا صلة لها بالخلق ، ولكن الذي يفصل الاخلاق ويميزها عن جنس هذه الصفات كون آثارها في السلوك قابلة للحمد او للذم ، وهذا الوصف لا يتعلق بذات الغريزة او بذات الحاجة وانما يتعلق بأثر سلوك الانسان حين قيامه بأشباع هذه الحاجة او هذه الغريزة فالاكل عند الجوع لاشباع الحاجة ليس مما يحمد او يذم، ولكن الشره الزائدة وكيفية التعامل مع الطعام وأكله الزائد عن حاجته العضوية امر مذموم ، لانه اثر لخلق في النفس مذموم وهو الطمع ، وعكس ذلك اثر لخلق في النفس محمود وهو القناعة .

وكذلك الحذر من وقوع مكروه اثر من اثار غريزة حب البقاء وليس محلاً للمدح او للذم في باب السلوك ، ولكنَّ الخوف المفرط اثر لخلق في النفس مذموم وهو الجبن ، وأما الاقدام فإنه اثر لخلق في النفس محمود وهو الشجاعة وهكذا سائر الغرائز والحاجات العضوية والتي تحتاج الى اشباع فإنها لا تدخل في باب الاخلاق ، وانما يميزها عن الاخلاق كون آثارها في السلوك مما يمدح او يذم .


حديث رمضان 8 لعام 2010

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

13 تعليقات

  1. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ

    ردحذف
  2. مشكووووووووووور .. موضوع ممتاز

    ردحذف
  3. مشكووووووووووور .. موضوع ممتاز

    ردحذف
  4. فين الموضوعااااااااات الجديدة ؟؟؟

    ردحذف
  5. شكراً لكم ع الموضوعات المتنوعة ...

    ردحذف
  6. شكراااااً كتير ع المجهود :)

    ردحذف
  7. Dank den Themen .... Ich hoffe, mehr von den Themen

    ردحذف