مفهوم "الكلب" في الاسلام


مفهوم "الكلب" في الاسلام

                                      
      قال تعالى ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين, ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (.(177 الاعراف )
      سبب النزول: نزلت هذه الآيات فيما يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن اسلم في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل الله محمدا e حسده وكفر به بعد أن قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  سورة (يس) حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول ما تقول يا أمية فقال: أشهد أنه على حق قالوا: فهل تتبعه قال: حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام. وبعد أن مات أتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاته فذكرت أنه أنشد عند موته :-
كل عيشٍ وإن تطـاول دهـرا
صائر مـرةً إلـى أن يـزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لــي
في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيــم
شاب فيه الصغير يومـاً ثقيلا

ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشديني من شعر أخيك فأنشدته :-

لك الحمد والنعماء والفضل ربنـا       ولا شيء اعلى منك جداً و أمجدِ
مليك على عرش السماء مهيمـن      لعزته تعنوا الوجوه وتســـجد

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه.
       وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية فكفر بالنبي، وذلك أنه دخل على النبي في المدينة فقال: يا محمد ما هذا الذي جئت به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت بالحنفية دين ابراهيم قال: فإني عليها فقال النبي لست عليها لأنك أخلت فيها ما ليس منها فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريداً وحيدا فقال النبي نعم أمات الله الكاذب منا كذلك, فخرج إلى الشام فمات كما وصف طريداً وحيداً.
 تفسيــر الآيــة :
1- ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا (
      يعني أن الحديث ليس عن أحمق بل هو حديث عن رجل آتاه الله العلم فتعلم وعلمه الحجج، فحاجج به العلماء وفهم الأدلة حتى صار عالماً يسأله الغير ويسافر إليه ويطلب العلم منه، فهو بحر في علمه، بل يكفيك أن تقول أن هذا الرأي لفلان أو قال به فلان فتحتجّ برأيه وقوله. فهذا خبره وخبر كل من كان على شاكلته، فهو حجة على نفسه لعلمه ولفهمه.
2- ) فانسلخ منها (
      يعني بعد فهمه بدل أن تزيده تمسكاً والتصاقاً بها لعلمه بأنها آيات الله الخالق ويقينه بصحتها ولكنه انسلخ منها انسلاخ الجلد من الشاة, وحقيقة كشط الجلد وإزالته بالكلبة عن المسلوخ عنه, بل يقال لكل شيء فارق شيئاً على أتم وجه انسلخ منه.
      فالعلم المتحصل للعالم لا ينزع منه وإلا كان التعبير فانسلخت منه، ولكن آيات الله باقية بدلائل صحتها ولكنه انسلخ منها بأن كفر بها كالحية تبقي جلدها وتنسلخ منه. وبعمله هذا بعد أن فهم آيات الله لابد أن يصل إلى نتيجة بعد الفعل وهذه هي النتيجة , ولاحظ فاء الترتيب والتعقيب.
3- ) فأتبعه الشيطان (
      أي لحقه وأدركه الشيطان وبعد أن لم يكن يستطيع إدراكه, يقال اتبعت القوم إذ سبقوك فلحقتهم، فكان المعنى أن هذا الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها كان بفعله هذا أسبق من الشيطان في الضلال والهوى، والشيطان يتبعه وهو للشيطان إمام وليس أبلغ من هذا الذم ذم. ونظيره قول الشاعر

وكنت امرىء من جند ابليس فارتقى         بي الدهر حتى صار ابليس من جندي
فإن مات قبلي كنت احسـن بعــده          طرائق فسق ليـس يحسنهـا بعـدي

 (فكان من الغاوين) :فصار إماماً ورأساً للضلال والكفر بعد أن كان إماماً في الهداية.
4- ) ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه (
      أي أقام ظناً أنه خالد فيها فبعد إعراضه عن التمسك بما آتاه الله من الآيات انسلخ منها واتبع الهوى، فلا جرم أنه وقع في هاوية الردى بل صار يدعو بدعوة الشياطين لحلاوة الدنيا على لسانه وركونه لها، لما صار فيه من موقع مرموق بين الشياطين يخاف أن يفقده, نفهمه من معنى الإخلاد هو اللزم للمكان لما فيه من موافقة الأهواء والرغبات وإشباع الجوعات وخصوصاً جوعة الحكم.
      فمن كان هذا حاله صار في درجة الكلب, فكل من كانت نعم الله في حقه أكثر وأعرض عن متابعة الهدى وأقبل على مجاراة الهوى كان بعده من الله أعظم, وإليه الإشارة يقول الرسول e ( من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا ) أو لفظ هذا معناه .

5- ) فمثله كمثل الكلب (
      وفيه مباحث :-
 1- قال الليث : اللهث : هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر يندلع لسانه . وهذا التمثيل ما وقع بكل الكلاب وإنما بالكلب اللاهث.
    فإن أخسّ الحيوانات الكلب وأخسّ الكلاب هو اللاهث منها فكان التمثيل أنه من آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا وأخلد الأرض كان مشبهاً بأخس أخس الحيوانات وهذا وصفه.
 2- أن كل من يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في الإعياء والعطش وفي الراحة والدعة، فكان ذلك طبع فيه وعادة وكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه الله عن التعرض لأوساخ أموال الناس، ثم يميل إلى طلب الدنيا ويلقي نفسه فيها ويبيع دينه بدنيا غيره كانت حاله كحال ذلك الكلب اللاهث حيث واظب على خسيس العمل .
 3- إن الرجل العالم إذا توسل بعلمه طلب الدنيا وإظهار نفسه بأن يورد عليهم أنواع علومه وفضائل نفسه ومناقبها ويمدحه من هو مثله أو دونه من الشياطين ويغدقون عليه الألقاب والأوسمة والمناصب, فلا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات وتقرير تلك العبارات يندلع لسانه ويخرج لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز في الدنيا فكانت حاله شبيهة بحال ذلك الكلب اللاهث.
     وفي الحديث أن النبي e أنه قال ( العلم علمان علمٌ في القلب وفذلك العلم النافع وعلمٌ على السان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم ).
6- ) إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث (
      قال ابن عباس يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله عز وجل، ثم جاءهم من لا يشكون بصدقه وأمانته، فجحدوا وصدق الله العظيم ) قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( (33 الانعام).
      فحصل هذا التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لمّا تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الهدى فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب اللاهث في كل الأحوال.
      وهذا شر تمثيل في أنه قد غلب عليه هواه حتى استحوذ عليه بالكلية وصدق الله العظيم ) استحوذ عليهم الشيطان ( (19 المجادلة) حتى صار لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فهو مملوك لهواه فهو كلب لاهث حمل عليه أو لم يحمل فهو لا يملك لنفسه ترك اللهثان.

7- ) ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (
      يقول السيد قطب رحمه الله : فهل هو نبأ يتلى ؟؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيراً فهو من هذا الجانب خبر يروى.
      فهو يمثل حال الذين كذبوا بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفونها ثم لا يستفيدون منها، وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر، ما أكثر الذين يعطون علم دين الله ثم لا يهدون. إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن موضعه واتباع الهوى به،  هواهم وهوى المتسلطين.
      وكم من عالم دين رأيناه يعلم حيقيقة دين الله ثم يزيغ عنها ويعلن غيرها ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة والفتاوى المطلوبة للسلطان يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعا .
      لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول: إن التشريع حق من حقوق الله سبحانه، من ادعاه فقد ادعى الألوهية ومن ادعى الألوهية فقد كفر ومع ذلك ومع علمه بهذه الحقيقة التي يعلمها من الدين بالضرورة فإنه يدعو للطواغيث اللذين يدّعون حق التشريع ويدّعون الألوهية بإدعاء هذا الحق.
      ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر، ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس ويخلع على هذا الوصل وراء الدين .
      ولقد رأينا من هؤلاء- والعياذ بالله - في زماننا هذا من كان كأنما يحرص كل الحرص على ظلم نفسه, أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قاع جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد المتسابقين معه في الحلبة فهو لا يبرح يقدم في كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم, ولا يبرح يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا على هذا الحال .
      أفلا يكون هذا العالم, مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟ وماذا سيكون هذا العالم إلا أن يكون هذا المسخ الذي يحكيه الله سبحانه وتعالى عن صاحب النبأ ) ولو شئنا لرفعنا بها ولكن أخلد إلى الأرض فاتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ( ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته ولكنه- سبحانه- لم يشأ لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه .
      إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله فلم ينتفع بهذا العلم. ولم يستقم على طريق الإيمان. وانسلخ من نعمة الله ليصبح تابعاً ذليلا، وينتهي به المطاف إلى المسخ في مرتبة الحيوان,
      وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آياته. كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها. ثم ليبقى من بعده يتلى ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئا أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع. وأن لا يظلموا أنفسهم هذا الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو. فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية المنكرة .
      نعم إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته وأهواؤه فيخلد إلى الأرض من ثقلها .
      نعم إن الله قد طلب منا أن نتعلم لنعبده به حين قال ) واتقوا الله ويعلمكم الله  (  (282 البقرة). فالعلم هو لعبادته سبحانه وتعالى, علم بني على أساس العقيدة وهي دافعه إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي بالالتزام بالأوامر والنواهي. ويكون هذا العلم ميزاناً للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم فما قبله هذا الميزان صح وقبل وما رفضه هذا الميزان رفض.
      ولا يقبل العلم لأجل العلم بل العلم لأجل غاية محددة هي نيل رضوان الله عز وجل وعبادته كما أمر .
      روى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ...؟؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل وسَّع الله عليه فأعطاه من أضعاف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه فالقي في النار ).

جواد عبد المحسن
حديث رمضان - 1

إرسال تعليق

0 تعليقات