كتم العلم


كتم العلم


     ) إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (( 158 البقرة).
      الكتمان، الإخفاء، والستر، ستر الحديث، كتمه كتماناً يقول الألوسي رحمه الله (الكتم ترك إظهار الشيء قصداً مع ماس الحاجة إليه وتحقق الداعي لإظهاره).
      ويكون ذلك لمجرد ستره وإخفاءه أو يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه يفسر ذلك قول الحق جل وعلا ) وما قدروا الله حق قدرة إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا ... (
      ذلك إلا من منطلق مصالحهم ومكاسبهم التي تحققت لهم من ممارستهم لهذا العمل أو يفعلون من عندهم ما يوافق هواهم وهؤلاء توعدهم الله تعالى بالعذاب والويل قال تعالى ) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ( (79 البقرة)
      والعلم المعتبر في هذه الآية هو العلم الشرعي أو التكاليف المطلوبة من المكلف ولا يحصل الأداء إلا بها فالعلم بالتكاليف على المكلف واجبة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
      وقد أخبر الله عز وجل في حق من لا يعلم هذا العلم ولكنه يعلم علوما أخرى فقال عز وجل ) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ( (7 الروم)
      العلم اللازم لعبادة ربهم لم يعلموه وغفلوا عنده ولكن علم معاشهم متى يزرعون ويحصدون وكيف يغرسون ويبنون كل هذه العلوم علموها ويقول ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياية دنياهم . وقال أبو العباس المبرد: قسم كسرى أيامه فقال يصلح الريح للنوم ويوم الغيم للعيد ويوم المطر للشرب واللهو ويوم الشمس للحوائج.
      فهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فالمعادلة عندهم هي ربح وخسارة فيها ومركز الإحساس هو المصلحة ورحم الله من قال:
ومن البلية أن نرى لك صاحبا
في صورة الرجل الميع المبصر
فطن بكل مصيبة في مالــه
وإذا يصـاب بدينـه لا يشـعر
      روى الترمذي : حدثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد ابن يزيد بن جوهر العخاك عن ابن عباس قال رسول الله e ( قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض فلم تطيقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال... وما فيها يا رب... قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت ... فاحتملها بما فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين الصلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها) .
 1- نفهم أن العلم أمانة فالذي كتم العلم قد حمل الأمانة ولم يؤدها والآية عامة بحق كل كاتم للعلم وإن كانت قد نزلت في حق يهود كما دل على ذلك سبب النزول وتنذر بالويل لكل من يكتم آيات الله مخف لأحكامه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
      وروى ابن ماجة والحاكم أن رسول الله e قال ( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) وهذا ما فهمه أبو هريرة رضي الله عنه عندما قال لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث ثم تلا ) إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى (
 2- نفهم من هذه الآية أنه يكره أخذ الأجر على تعليم القرآن أو تعليم العلوم الدينية لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه فلا يستحق المرء أجرا على عمل يلزم أداءه. يقول في ذلك أبو بكر الجصاص : وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجر عليه, إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله، ألا ترى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الإسلام ؟؟؟
      ويقول الفخر الرازي رحمه الله : احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم لأن الآية لما دلت على وجوب ذلك التعليم فإن أخذ الأجرة عليه أخذ للأجرة على أداء واجب وإنه غير جائز .
 3- إن الإظهار فرض على الكفاية وهذا لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل واحد من الوصول إليه ولم يبق مكتوماً وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى.

      قلنا إن الكتم متعلق بمن يعلم فمن لا يعلم فلا يوجد عنده ما يكتمه فكان العالم هو المخاطب وهو الموصوف بأنه كاتم للعلم فالعلم بجملة من الأحكام كالعلم بحكم واحد من ناحية وصف بأنه كاتم أو غير كاتم . أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أنس أن النبي e قال ( الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم ).
      فالعالم هو المخاطب وهو الحامل للأمانة وتأديتها واجبة عليه وأما الجاهل الذي لا يعلم، لا يقال بأنه خير ممن علم لأن الويل جاء تهديدا للعالم ولم يهدد الجاهل بالويل، لا يقال هذا لأن العالم الذي  يؤدي أمانة العلم التي يحملها، له الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله. فالخير في العلم الذي يحمله عالم أمين. وأما العلم الذي يحمله كاتم له فيبقى العلم هو العلم، ولكن الويل يكون له وحده, روى الطبراني عن أنس أن النبي e قال (الزبانية أسرع إلى الفسق حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم ).

      فالعالم هو المخاطب وهو الحامل للأمانة وتأديتها واجبة عليه وأما الجاهل الذي لا يعلم لا يقال هذا بأنه خير ممن علم لأن الويل جاء تهديدا للعالم ولم يهدد الجاهل بالويل، لا يقال هذا لأن العالم الذي يؤدي أمانة العلم التي يحملها، له الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله، فالخير في العلم الذي يحمله عالم أمين وأما العلم الذي يحمله كاتم له فيبقى العلم هو العلم ولكن الويل يكون له وحده. روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله e قال ( علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعا ولم يشتر به ثمنا فذلك يستغفر له حيتان البحر ودواب الأرض والطير في جو السماء ويقدم على الله تعالى سيدا شريفا حتى يوافق المرسلين , ورجل آتاه الله علما فبخل به عن عبادة الله وأخذ عليه طمعاً ولم يشتر به ثمنا فذلك يلجم بلجام من النار يوم القيامة وينادي منادٍ: هذا الذي آتاه الله علما فبخل به عن عبادة الله وأخذ عليه طمعا واشترى به ثمنا... وكذلك حتى يفرغ من الحساب) .

      فالذي علم وحفظ وتعلم للتكسب بعلمه ولم يجعل من علمه قارب نجاة له يوم القيامة، قد علم وحمَّل نفسه أمانة تجب تأديتها فلم يؤدها، أيتخذ آيات الله هزواً، يمكن أن يكون الإنسان مزارعا يتكسب بالزراعة ويمكن أن يكون تاجرا يتكسب بالتجارة ولكن لا يعقل أن يكون عالما يتكسب بالعلم. روى ابن عساكر عن أنس أن رسول الله e قال (إن في جهنم رحىً تطحن علماء السوء طحناً).

      ويفسر هذا الحديث حديث آخر لرسول الله e المروي عن الديلمي عن أبي هريرة (إن في جهنم أرحية تدور بالعلماء فيشرف عليهم من كان عرفهم في الدنيا فيقولون ما صيركم إلى هذا وإنما كنا نتعلم منكم، فيقولون إنا كنا نأمركم بأمر ونخالفكم إلى غيره) فليس لهم منصب على العلم وإنما الغاية هي رضوان الله عز وجل والعلم بأوامره ونواهيه لتأديتها لا يكون إلا بالعلم.
      وأما طلب العلم للدنيا وللتقرب والتزلف وأن يتخذ العلم مطية توصله إلى المراكز فينافق ويفعل ما لا يجوز فعله ويقول ما لا يجوز قوله فمثل هؤلاء يكون العلم وبالا عليهم لا خيرا لهم, روى ابن ماجه وأحمد في مسنده أن رسول الله e قال (مثل الذي يجلس يسمع الحكمة ولا يحدث عن صاحبه إلا بشر ما يسمع كمثل رجل أتى راعياً فقال يا راعي أجرني شاة من غنمك، قال اذهب فخذ بأذن خيرها شاة، فذهب فأخذ بأذن كاب الغنم!!!) .
      ولا يكفي أن يحمل العلم ابتغاء رضوان الله ولكن من مستلزمات الحمل أن يباشره بنفسه وبأمر غيره به، ولا يتقوقع في صومعته لا يعنيه بغيره شيء، بل كان أمره لغيرة بنفس مرتبته التزامه هو خرج أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله e (أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا... اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك... ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال... لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون... إلى قوله فاسقون ثم قال... كلا والله لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم ).
      هذه هي الأمانة التي رضينا أن نحملها، لتوصلنا إلى رضوان الله عز وجل حملاً ما كانت الدنيا هدفاً يحققه بل كانت الدنيا وما زالت موضعاً له.
      فالعالم الحامل للأمانة المؤدي لها هو صاحب قضية لا تسد أفقه وظيفة، ولا تسكته لقمة كبيرة، فحياته في هذه الدنيا من أجل قضيته التي لا يمكن أن تنفصل عن إيمانه يشبه هذا الفهم ما قاله امرئ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن انا لاحقان بقيصـــرا
فقلت لـه لا تبـك عينيـك إنمـا  
نحاول مسلكاً أونموت فنعـذرا
      صاحب قضية كان ما وسعته خيمته، بل ما وسعته نفسه فلا يطلب وغد العيش فقط وإنما يطلب كل ما يؤمن به.
      والعالم أيضاً لا يقبل أن يساوم، أو أن يشترى فقضيته ليست للبيع، إنه رضوان الله، ورضوان الله لا يباع ولا يشترى .
      فمن أصر واستكبر فقال الله في حقهم ) أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ( واللعن وهو ((نور)) وشرعاً هو الطرد من رحمة الله عز وجل فمن أصر واستكبر وعاند فلا يعاند إلا نفسه ومصيره معروف... الطرد من رحمة الله.

جواد عبد المحسن
حديث رمضان 1

إرسال تعليق

0 تعليقات