نار حامية

نار حامية


روي عن ابن عباس وسفيان بن عيينة ان كل ما ورد في القرآن بلفظ وما أدراك بصيغة الماضي فقد أدراه أي أعلمه به، وكل ما ورد بصيغة المضارع وما يدريك فقد طوي عنه ولم يعلمه به فالأول (وما أدراك ماهية نار حامية) (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ) والثاني (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا). وقال الراغب : كل موضع ذُكر في القرآن ( وما أدراك ) فقد عقب ببيانه نحو  (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) ( القارعة : 10- 11 ) ، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)) ( القدر : 2- 3 ) ،  (ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)) ( الانفطار : 18 -19 ) ، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)) ( الحاقة : 3- 4 ) ، وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.
{نارٌ حامية} بلغت النهاية في الحرارة ، قيل : وصفها بحامية تنبيهاً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها ليست بحامية ؛ فإنَّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها ، كما في الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم" قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ، كلها مثل حرها" .. ووصف نار  بـ حامية من قبيل التوكيد اللفظي لأن النار لا تخلو عن الحَمْي فوصفها به وصف بما هوَ من معنى لفظ  نار فكانَ كذكر المرادف كقوله تعالى : ( نار اللَّه الموقدة ) ( الهمزة : 6 ) ، وأخرج أبو يعلى قال : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائبا دعا له وإن كان شاهدا زاره وإن كان مريضا عاده , ففقد رجلا من الأنصار في اليوم الثالث فسأل عنه فقالوا : تركناه مثل الفرخ لا يدخل في رأسه شيء إلا خرج من دبره, قال : عودوا أخاكم فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم نعوده فلما دخلنا عليه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيفت تجدك ؟ قال : لا يدخل في رأسي شيء ألا خرج من دبري  قال : ومم ذاك ؟ قال يا رسول الله : مررت بك وأنت تصلي المغرب فصليت معك وانت تقرأ هذه السورة القارعة ما القارعة إلى آخرها نار حامية فقلت اللهم ما كان من ذنب أنت معذبي عليه في الآخرة فعجل لي عقوبته في الدنيا فنزل بي ما ترى,  قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بئس ما قلت ألا سألت الله أن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيك عذاب النار فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بذلك ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقام كأنما نشط من عقال ".
وقوله تعالى ( فأمه هاوية ) قال كثير من المفسرين المراد بالأم نفس الهاوية وهي درك من ادراك النار وهذا كما يقال للأرض ام الناس لأنها تؤويهم وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب فنحن بنوها وهي امنا, فجعل الله الهاوية ام الكافر لما كانت ماواه وقال آخرون المراد ام رأسه لأنهم يهوون على رؤوسهم وقرا طلحة ( فإمه ) بكسر الهمزة وضم الميم مشددة, ثم قرر تعالى نبيه على دراية امرها وتعظيمه ثم اخبره انها " نار حامية " وقرا ( ما هي ) بطرح الهاء في الوصل ابن اسحاق والأعمش وروى المبرد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (لا ام لك) فقال يا رسول الله اتدعوني الى الهدى وتقول لا ام لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنما أردت لا نار لك ) قال الله تعالى " فأمه هاوية "روي عن الإمام علي : كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى .ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات ، فإن لكل اسم دلالة على معنى خاص به فالواقعة لصدق وقوعها ، والحاقة لتحقق وقوعها ، والطامة لأنها تطم وتعم بأحوالها ، والآزفة من قرب وقوعها أزفت الآزفة مثل اقتربت الساعة ، وهكذا هنا قالوا : القارعة : من قرع الصوت الشديد لشدة أهوالها .وقيل : القارعة اسم للشدة .قال القرطبي : تقول العرب قرعتهم القارعة وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم أمر فظيع .إنها العذاب ، لأنها تقرع قلوب الناس بهولها.
ويحتمل ثانياً : أنها الصيحة لقيام الساعة ، لأنها تقرع بشدائدها  وقد تسمى بالقارعة كل داهية ، كما قال تعالى : (ولا يزالُ الذِّين كفروا تُصيبُهم بما صَنَعوا قارعةٌ) الرعد:31  ، قال الشاعر :
متى تُقْرَعْ بمرْوَتكم نَسُؤْكم يلاحظها



ولم تُوقَدْ لنا في القدْرِ نارُ


وقد قرأت في كتاب (لمسات بيانية في نصوص من التنزيل) للدكتور فاضل السامرائي عن هذا الموضوع ما نصه:
قال تعالى في سورة المعارج :(وتكون الجبال كالعهن) المعارج 9 وقال في سورة القارعة :(وتكون الجبال كالعهن المنفوش) القارعة 15  فزاد كلمة (المنفوش) في سورة القارعة على ما في المعارج، فما سبب ذاك؟ والجواب :
1- أنه لما ذكر القارعة في أول السورة، والقارعة من (القَرْعِ) ، وهو الضرب بالعصا، ناسب ذلك ذكر النفش، لأن من طرائق نفش الصوف أن يُقرعَ بالمقرعة,كما ناسب ذلك من ناحية أخرى وهي أن الجبال تهشم بالمقراع (وهو من القَرْع) وهو فأس عظيم تُحَطَّم به الحجارة ، فناسب ذلك ذكر النفش أيضاً.فلفظ القارعة أنسب شيء لهذا التعبير.كما ناسب ذكر القارعة ذكر (الفراش المبثوث) في قوله :(يَوْمَ يكونُ النّاسُ كالفَراشِ المبثوثِ) القارعة 4  أيضاً؛ لأنك إذا قرعت طار الفراش وانتشر. ولم يحسن ذكر (الفراش) وحده كما لم يحسن ذكر (العهن) وحده في هذه السورة.
2- إن ما تقدم من ذكر اليوم الآخر في سورة القارعة ، أهول وأشد مما ذكر في سورة المعارج فقد قال في سورة المعارج :( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) المعارج وليس متفقاً على تفسير أن المراد بهذا اليوم، هو اليوم الآخر.وإذا كان المقصود به اليوم الآخر فإنه لم يذكر إلا طول ذلك اليوم، وأنه تعرج الملائكة والروح فيه.
في حين قال في سورة القارعة :( الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) القارعة فكرر ذكره  وعَظَّمها وهوَّلها. فناسب هذا التعظيم والتهويل أن يذكر أن الجبال تكون فيه كالعهن المنفوش.وكونها كالعهن المنفوش أعظم وأهول من أن تكون كالعهن من غير نفش كما هو ظاهر.
3- ذكر في سورة المعارج أن العذاب (واقع) وأنه ليس له دافع (سَألَ سائلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ . للكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِع) ووقوع الثقل على الصوف من غير دفع له لا ينفشه بخلاف ما في القارعة ، فإنه ذكر القرع وكرره، والقرع ينفشه وخاصة إذا تكرر ، فناسب ذلك ذكر النفش فيها أيضاً.
4- التوسع والتفصيل في ذكر القارعة حسَّن ذكرَ الزيادة والتفصيل فيها ، بخلاف الإجمال في سورة المعارج ، فإنه لم يزد على أن يقول : "في يَومٍ كانَ مِقدارُهُ خمَسينَ ألفَ سَنَةٍ "المعارج4.
5- إن الفواصل في السورتين تقتضي أن يكون كل تعبير في مكانه ، ففي سورة القارعة قال تعالى:"يَوْمَ يَكونُ النّاسُ كالفَراشِ المبثوث. وَتَكونُ الجِبالُ كالعِهنِ المنفوشِ". فناسبت كلمة (المنفوش) كلمةَ (المبثوث).وفي سورة المعارج ، قال :(يَوْمَ تكونُ السّماءُ كالمهُلِ . وَتَكونُ الجِبالُ كالعِهنِ)المعارج8-9 فناسب (العهن) (المهل).
6- ناسب ذكر العهن المنفوش أيضاً قوله في آخر السورة :(نار حامية)القارعة11 لأن النار الحامية هي التي تُذيبُ الجبالَ ، وتجعلها كالعهن المنفوش ، وذلك من شدة الحرارة ، في حين ذكر صفة النار في المعارج بقوله: "كلا إنها لظى. نَزّاعة للشّوَى" المعارج15-16 . والشوى هو جلد رأس  الإنسان واطرافه ومنه قول الشاعر:
واطلس ملء العين يحمل زوره يلاحظها



واضلاعه من جانبيه شوى نهد


والحرارة التي تستدعي نزع جلد الإنسان أقل من التي تذيب الجبال ، وتجعلها كالعهن المنفوش ، فناسب زيادة (المنفوش) في القارعة من كل ناحية. والله أعلم.
7- كما أن ذكر النار الحامية مناسب للقارعة من ناحية أخرى ، ذلك أن (القَرَّاعة) - وهي من لفظ القارعة - هي القداحة التي تُقدح بها النار.
فناسب ذكر القارعة ذكر الصوف المنفوش ، وذكر النار الحامية ، فناسب آخر السورة أولها.
وبهذا نرى أن ذكر القارعة حسَّنَ ذكر (المبثوث) مع الفراش ، وذكر (المنفوش) مع الصوف ، وذكر النار الحامية في آخر السورة.
عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر النار فأشاح بوجهه وتعوذ منها ثم ذكر النار فأشاح بوجهه وتعوذ منها ثم ذكر النار فأشاح بوجهه وتعوذ منها ثم قال "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة" . أخرجه البخاري عن سليمان .
كَانَ عُمَرُ يَقُولُ : أَكْثِرُوا ذِكْرَ النَّارِ ، فَإِنَّ حَرَّهَا شَدِيدٌ ، وَإِنَّ قَعْرَهَا بَعِيدٌ ، وَإِنَّ مَقَامِعَهَا حَدِيدٌ.
ان إدراك الصلة بالله الخالق توجب على المسلم ان يراقب ويحاسب نفسه وان يعي حقيقة ان مآله لربه وان الجنة حق والنار حق, وان يجعل هذه الروحانية والمشاعر مسيرة بالادراك، ناتجة عن ادراك الصلة بالله،وان هذه الصلة حقيقية تستغرق كل امور الحياة, وليس فقط المشاعر والاحاسيس بل بالبيع والشراء والعقود والمعاملات وكل العلاقات حتى تصحح مشاعر الناس ويهتدوا للطريق القويم وحتى يحال بينهم وبين مشاعر الخطأ او الانحراف او الضلال . فهم حملة دعوة، ومن اهم اعمال دعوتهم تصحيح عبادة الناس لله، وتصحيح مشاعرهم، فانه لا يصح ان يظل احد من المسلمين متلبسا بمشاعر التدين وحدها من غير عقل, بل يجب ان نرجع جميع المسلمين الى مشاعر التدين المسيرة بالادراك، والناتجة عن ادراك الصلة بالله, اي ان نرجع جميع المسلمين للروحانية التي جاء بها الاسلام، والتي هي وحدها الروحانية التي يثيب عليها الله .

فيجب أن يظل في جميع أحواله مدركاً هذه الصلة بوصفه العبد للرب. مثل الحسن والقبح,فلا يحسن ولا يقبح تبعا لهواه وما شابه ذلك،بل يجب عليه ان يكون بانياً كل امرعلى العقيدة الإسلامية، رابطاً إياه بإيجاد الخلافة وحمل الدعوة إلى العالم بالجهاد.

جواد عبد المحسن
حديث رمضان 11 

إرسال تعليق

0 تعليقات