الـــوعـــد


الـــوعـــد


الوَعْدُ يُستعمل في الخير والشر يُقال وَعَد يَعِدُ بالكسر وَعْدًا قال الفرَّاء يُقال وَعَدْتُهُ خيرا ووعدته شرا فإذا أَسْقطوا الخير والشر قالوا في الخير الوَعْدُ و العِدَةُ وفي الشر الإيعَادُ و الوَعِيدُ فإن أَدخلوا الباء في الشر جاءوا بالألف فقالوا أَوْعَدَهُ بالسجن ونحوه و العِدَةُ الوعد وقول الشاعر وأَخلفوك عِدَ الأمر الذي وَعَدوا أَراد عِدَة الأمر فحذف الهاء عند الإضافة و المِيعَادُ المُوَاعَدَةُ والوقت والموضع وكذا المَوْعِدُ و تَوَاعَدَ القوم وعد بعضهم بعضا هذا في الخير وأما في الشر فيُقال اتَّعَدُوا و الاتِّعَادُ أيضا قُبول الوعد و التَّوَعُدُ التهدد, وَعَدَ الرَّجُلُ أَمْراً أَوْ بِهِ " : قَالَ لَهُ إِنَّهُ يُجْرِيهِ لَهُ أَوْ يُنِيلُهُ إِيَّاهُ ، مَنَّاهُ بِهِ . ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) الفتح:29 .

     ان الوعد يكون من انسان لانسان ,او من شيطان لانسان او من الله للانسان,اما وعد الانسان للانسان فالامر متعلق بقدرة الواعد على الوفاء وامضاء هذا الوعد ومنه قول الشاعر:

زعم الفرزدق ان سيقتل مربعا

 
فاظفر بطول سلامة يا مربع



واما وعد الشيطان للانسان فان الله قد ذكر ذلك الامرفي قوله تعالى(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) النساء (120) وفي قوله تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (22) ابراهيم. وروى الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان - ثم قرأ - {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} "البقرة267.

واما وعد الله فانه الوعد الحق وهو للكفار بالعذاب وللمؤمنين بالنصر والتمكين في الدنيا والمغفرة والثواب في الآخرة وفي الحديث تفصيل:

اولا:هل الوعد ملزم ؟        

العقد يلزم به العاقد ديانة وقضاء باتفاق الفقهاء لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة:1 وقوله سبحانه (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً) الإسراء34.

أما الوعد فلا يلزم الوفاء به قضاء عند غير المالكية، بل الوفاء به مندوب مطلوب ديانة، ومن مكارم الأخلاق، فلو وعد شخص غيره ببيع أو قرض، أو هبة مثلاً فلا يجبر على الوفاء بوعده بقوة القضاء، بل يندب له تنفيذه ديانة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) الصف 2-3.

وقوله صلى الله عليه وسلم : "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان"، هذا هو السائد عند الفقهاء، لكن توجد آراء قد تكون مخالفة للرأي السائد، وقد تكون ملطفة أحياناً بجعل الوعد ملزماً قضاءً في بعض الحالات.

قال ابن شبرمة: يلزم الواعد، ويجبر على الوفاء بوعده قضاءً، وقال الحنفية: يلزم الوعد إذا صدر معلقاً على شرط منعاً لتعزير الموعود، وعبروا عن ذلك بقاعدة فقهية: المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة كما في المجلة المادة/83/.

وقال ابن نجيم: لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقاً، مثل أن يقول شخص لآخر: إذا لم يعطك فلان ثمن المبيع فأنا أعطيه لك، فيلزمه إعطاؤه حينئذ، لأن الوعد اكتسى صفة الالتزام والتعهد.

وعند المالكية يلزم الواعد بوعده قضاءً إن أدخل الموعود في سبب، أو وعده مقروناً بذكر السبب كما قال (إصبغ) من فقهائهم، لتأكد العزم على الدفع حينئذ.

مثال الحالة الأولى: أن يقول لآخر: اهدم دارك وأنا أقرضك، أو أهبك ما تبني به الدار، أو اخرج إلى الحج وأنا أقرضك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك ففعل الموعود ذلك فيجب على الواعد الإقراض أو الهبة، لأنه أدخل الموعود في الالتزام.

ومثال الحالة الثانية عند (اصبغ) أن يقول شخص لآخر: تزوج، أو اشتر وأنا أقرضك فيلزمه الوفاء بوعده، ولو لم يباشر الموعود فعل الزواج، أو الشراء، أي سواء تزوج الموعود، أو اشترى أم لا يلزم الواعد بما وعد دفعاً للضرر الحاصل للموعود من تغرير الواعد.

فإن وعده بدون ذكر السبب كأن يقول شخص لآخر: أسلفني كذا، فيقول المخاطب: نعم، لا يلزمه الوعد.

والمعلوم عند المالكية أن الشخص إذا وعد غيره عدة بقرض، أو بتحمل وضعية (أي خسارة) أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل فهل يصبح بالوعد ملزماً، ويقضي عليه بموجبه إن لم يف له، أو لا يكون ملزماً؟ اختلف فقهاء المالكية في ذلك على أربعة آراء فصلها الحطاب في رسالته في (الالتزامات)، ونقلها عنه الشيخ محمد عليش في فتاواه المسماة(فتح العلي1/255) في بحث مسائل الالتزام:

- فمنهم من يقول: يقضى بالعدة (أي الوعد) مطلقاً أي أنها ملزمة له.

- ومنهم من يقول: لا يقضى بها مطلقاً أي أنها غير ملزمة.

- ومنهم من يقول: إن العدة تلزم الواعد فيقضى بها إذا ذكر لها سبب وإن لم يباشر    الموعود ذلك السبب، كما لو قال لآخر: إني أعدك بأن أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره أريد أن أسافر، أو أن أقضي ديني فأسلفني مبلغ كذا، فوعده بذلك ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو زواج، أو وفاء دين، أو حراثة أرض.. الخ، فإن الوعد ملزم، ويقضى عليه بالتنفيذ جبراً إن امتنع.

- ومنهم من يقول لا يلزم بوعده إلا إذا دخل الموعود في سبب ذكره في الوعد، أي إذا باشر السبب كما وعده بأن يسلفه ثمن شيء ويريد شراءه فاشتراه فعلاً، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج اعتماداً على هذا الوعد ونحو ذلك، وهذا هو الراجح في المذهب من بين هذه الآراء الأربعة.

ولو قال شخص لآخر بع كرمك الآن، وإن لحقتك من هذا المبيع وضيعة (خسارة) فأنا أرضيك فباعه بالوضيعة (بالخسارة) كان على القائل أن يرضيه بما يشبه ثمن ذلك الشيء المبيع والوضيعة منه (أي يتحمل عنه مقدار الخسارة) لأنها عدة على سبب، وهو البيع، وأن العدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال.

- ولو قال لآخر: تعامل مع فلان، وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به صحت الكفالة.

يقول الدكتور وهبة الزحيلي في (المستدرك) وهو الجزء التاسع من الفقه الإسلامي/556/: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاءً إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.

وعند الشافعية أن الوعد ليس ملزماً قضاءً. قال الإمام الشافعي في كتاب (الأم 3/33): "إذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً، وإن شاء تركه، وهكذا إن قال: اشتر لي متاعاً وصفه له، أو متاعاً أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار".

ثانيا:وعد الله للكفار بالعذاب

في قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 47، 48].

فقوله عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ...} معطوف على قوله تعالى: {وإن يكذبوك} والمعنى: أن هؤلاء الكفار يقولون: "لو كان محمد صادقاً في وعيده لعُجَّلَ لنا وعيدُه، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء، كما حكى الله عنهم في قوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}الانفال32، وفي قوله: {ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين}السجدة 28فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله: {فأمليت للكافرين} الآية"، وحكي: {ويستعجلونك} بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء .

ثم جاء التعقيب على هذه المقالة الآثمة، بهذه القاعدة التي تسكب اليقين والطمأنينة في نفس النبي ونفوسِ أتباعه من المؤمنين المضطهدين، الذين امتلأت آذانهم من استهزاء هؤلاء الكفار، فقال الله ـ وهو أصدق من وعد وأصدق من وفّى ـ: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}.

وإذا تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه القاعدة القرآنية: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} لا تختص بهذا المعنى الذي وردت الآية في سياقه ـ وهو تعذيب الكفار ـ بل هي عامة في كل ما وعد الله به، إذ لا مكره لربنا جل وعلا، ولا راد لأمره ومشيئته، ولكن الشأن في تحقق العباد بفعل الأسباب المتعلقة بما وعد الله به.

أن هذه القاعدة القرآنية: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} دلّت على معنى يُقَرّرُ بعض اللغويين خلافه، وهو أنه اشتهر عند كثيرين أن الوعد خاص بالخير، والوعيد متعلق بالشر، وينشدون في هذا البيتين المشهورين:

ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي

 
ولا انثنى عن سطوة المتهدد

فإني    وإن  أوعدته  أو   وعدته

 
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي


 

ان هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}الحج 47، إذا تقرر عمومها في الخير والشر، فإنها ـ بلا ريب ـ من أعظم ما يجدد االرجاء في نفوس أهل الإسلام، في الثبات على دينهم ومنهجهم الحق، بل وتزيدهم يقيناً بما عليه أهل الكفر والملل الباطلة من ضلال وانحراف، وبيان هذا: أن المؤمن لا يزال يرى إما بعين البصر أو البصيرة صدق ما وعد به أولياءه في الدنيا، كيف لا؟! وهو يقرأ نماذج مشرقة في كتاب الله عز وجل؟!

ألسنا نقرأ قول ربنا عز وجل ـ في سورة آل عمران في سياق الحديث عن غزوة أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران 152] ونقرأ فواتح سورة الروم في قوله تعالى فيها: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ} الروم6، 7.

وهذه الآيات من سورة الروم، تشير إلى سبب كبير في ضعف اليقين تجاه الوعود الربانية، ألا وهو: التعلق بالدنيا، والركون إليها، ولهذا فإنك لو تأملتَ لوجدت أن أضعف الناس يقيناً بموعود الله هم أهل الدنيا، الراكنين إليها، وأقواهم يقيناً هم العلماء الربانيون، وأهل الآخرة، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

ان الشك في موعود الله لا يصح أن ينسب إلى آحاد المؤمنين، وهو من الأنبياء والمرسلين أبعد وأبعد، ولكن ـ ولحكمة بالغة ـ جاءت هذه الآيات لتطمئن المؤمنين من هذه الأمة أن حالات اليأس التي قد تعرض للعبد مجرد عرْض بسبب شدة وطأة أهل الباطل، أو تسلط الكفار، فإنها لا تؤثر على إيمانه، ولا تقدح في صدقه وتصديقه؛ ولهذا ـ والله تعالى أعلم ـ يأتي مثل هذا التثبيت في بعض الأحوال التي تعترض نفوس أهل الإيمان فترة نزول الوحي، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ …} إلى قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 42، 47].

والمؤمن ليس من شأنه أن يقترح أجلاً لإهلاك الكفار، أو موعداً لنصرة الإسلام، أو غيرِ ذلك من الوعود التي يقرأها في النصوص الشرعية، ولكن من شأنه أن يسعى في نصرة دينه بما يستطيع، وأن لا يظل ينتظر مضي السنين، فإن الله لم يتعبدنا بهذا، وعليه أن يفتش في مقدار تحققه بالشروط التي ربطت بها تلك الوعود، فإذا قرأ ـ مثلاً ـ قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7] فعليه هنا أن يفتش عن أسباب النصر التي أمر الله بها هل تحققت فيه فرداً أو في الأمة على سبيل المجموع؛ ليدرك الجواب على هذا السؤال: لماذا لا تنتصر الأمة على أعدائها؟!

ثالثا:وعد الله للمؤمنين بالنصر والتمكين والمؤمنون هم الذين يستحقون الوعود التي وعد الله تعالى بها، فما هي هذه الوعود؟ لنتأمل في كتاب ربنا، وننظر ما هي الوعود التي وعد الله بها عباده المؤمنين .

الوعد الأول: وَعَدَ الله تعالى عباده المؤمنين بالنجاةِ في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [(103) سورة يونس] إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه، أن تبقى البذرة المؤمنة في هذه الأرض، وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب، وقال تعالى عن نبيه يونس -عليه السلام-: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [(88) سورة الأنبياء] كما أنجينا يونس وأخرجناه من بطن الحوت فإننا ننجي كل مؤمن ونخرجه من كل كرب، قال الله تعالى {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [(18) سورة فصلت].

الوعد الثاني: الأمن في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [(82) سورة الأنعام] الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة، هؤلاء لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم المهتدون في الدنيا والآخرة.

روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [(82) سورة الأنعام] شق ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: ((إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [(13) سورة لقمان]؟ إنما هو الشرك)).

الوعد الثالث: من وعود الله لعباده المؤمنين التمكين لهم في الأرض، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(55) سورة النور] هذا هو وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أن يستخلفهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، هذا وعد الله، ووعد الله حق، ووعد الله واقع، ولن يخلف الله وعده،ويقول سيد قطب رحمه الله" فهذا الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا ًبالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل الجاد المخلص لاعادة حكم الله وتطبيق شرعه يتحقق التمكين في الأرض.

ويتابع"إن التمكين في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتقاء بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارك الحيوان، فهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم؛ ليحققوا النهج الذي أراده الله، ويقرروا العدل الذي أراده سبحانه.

الوعد الرابع: النصر على الأعداء، قال الله تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [(47) سورة الروم] وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين، وجعله لهم حقاً فضلاً وكرماً، وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكاً ولا ريباً، كيف يتخلف هذا الوعد والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر القاهر فوق عباده الحكيم الخبير؟! يقولها سبحانه معبرا عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وسلطانه الذي يحكم الوجود كله.

وقد يتأخر هذا النصر أحياناً في تقدير البشر لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله، والله هو الحكيم الخبير، يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته، وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر، وقد لا تتكشف؛ ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح، ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين، فإن لم يكن النصر في الدنيا كان في الآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [(51-52) سورة غافر] قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (171-173) سورة الصافاتوضمن هذا المعنى يقول سيد قطب" الوعد واقع وكلمة الله قائمة، ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض، وقام بناء الإيمان، على الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمصلحين، هذه بصفة عامة، وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض في جميع العصور، وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله، يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة، إنها غالبة منصورة مهما وُضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوّى الدعاية والافتراء، وقوّى الحرب والمقاومة، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله، الذي لا يتخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه، الوعد بالنصر والتمكين والغلبة، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في أفلاكها، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء، ولقد تبطئ آثارها الظاهرة ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف"ويتابع رحمه الله "وقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يُعدّهم للنصر في معركة أكبر؛ ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم، لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته التي لا تتخلف ولا تحيد، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [ (171-173) سورة الصافات]" وهذا لا يتحقق إلا بالإيمان الصادق، فنسأل الله تعالى إيماناً صادقاً، ونصراً مؤزراً، إنه سميع مجيب.

 الوعد الخامس: رغد العيش والحياة الطيبة، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [(96) سورة الأعراف] قد ينظر بعض الناس فيرى أمماً يقولون: إنهم مسلمون مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ، فيتساءل: وأين إذًا هي السنة التي لا تتخلف؟ وهذا لا شك وهم تخيله ظواهر الأحوال، وسوء فهم لآيات الكون، إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون، لا يتحقق في أكثرهم أنهم مؤمنون ولا متقون، ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مؤمنين حقاً، دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله.

 إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة، بركات تنمي الحياة وترفعها في آن واحد، وليست مجرد وفرة في المال مع الشقاء والتردي والانحلال، وإنما هي الحياة الطيبة التي قال الله فيها: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [(97) سورة النحل]وايضا وضمن هذا المعنى يقول سيد قطب رحمه الله" نعم من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فبغير هذا الشرط, وبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء، فالعمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة ثرية بالمال، فقد تكون به، وقد لا يكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، فيها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في النفس وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله، فالحياة الطيبة مع الإيمان والإيمان مع الحياة الطيبة".

الوعد السادس: الرزق الكريم والمغفرة والجنة، ولو لم يكن للإيمان من ثمرة إلا هذا لكفى، فرضا الله أمنية نفوس المؤمنين، وهدف العاملين، وبغية المصلحين والجنة هي قمة النعيم، وفي سبيلها يرخص الغالي وتبذل النفوس والأموال، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [(122) سورة النساء] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [(74) سورة الأنفال] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [(82) سورة البقرة] .

 
حديث رمضان 11

جواد عبد المحسن

إرسال تعليق

0 تعليقات