الإرهاب
البداية :
إننا و لا بحال من الأحوال يجوز لنا لا
عقلاً و لا شرعاً أن نلغي عقولنا و لا نستعملها و نرضى بأن نكون أبواقاً لغيرنا
يستعملنا وقت يشاء و كيف يشاء ، ولا يجوز لنا أن نكون ببغاوات نردد ما نسمع و
نختصر الطريق بدل أن يكون من الأذن إلى العقل إلى الفم بل نختزله و نسقط العقل
فيصير الطريق من الأذن إلى الفم .
هذا بالنسبة للإنسان بوصفه إنساناً
أكرمه الله و شرّفه على كثير من الخلق بالعقل ، فإن اختلافه عن الدواب و الطيور و
الزواحف و تفضيل ربنا عزّ و جل له بهذا العقل الواجب الإستعمال فإن لم يستعمل هذا
العقل سقط و تهاوى إلى مرتبةٍ دون مرتبة الحيوان و الدواب و صدق الله العظيم (وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ)(لأعراف:
من الآية179)
أما بالنسبة لنا كمسلمين فإن مناط
التكليف عندنا هو العقل ؛ بمعنى أن وجود العقل يوجد التكليف الشرعي و عدم وجوده يعني
رفع التكليف ، فوجود العقل و التكليف تشريف من الله لعباده و أي تشريف أسمى من
كوننا عبيداً لله شرّفنا بهذا العقل .
فبعد أن فصلت الطاقة الغربية عن الطاقة
الإسلامية و ظهور الإنحراف الفكري لدرجة وصل فيها حد الجمود ، بل تقلص جموده و فقد
أشاعه و بريقه أصبح كما قال ابن خلدون يقلد المنتصر في كل شيء فقد صفاؤه و شابه من
الشوائب ما أفقده لونه حتى أصبح يردد ما يقوله الغرب ترديداً لا ينم عن فكر أو حتى
عن إعمال عقل ؛ فنشأ في الآونة الأخيرة ما يُسمى بالأصولية كاصطلاح ثم اتبعه
اصطلاح التطرف و التعصب و كان آخرها الإرهاب الذي نحن بصدده اليوم .
1. فالإرهاب لغة آتٍ من فعل رهب و هو
الخوف ، رهبته خفت منه و في الحديث رضاعة الكبير ( فبقيت سنةً لا أحدث بها رهبة )
، و استرهبه: استدعى رهبته حتى يخافه الناس .
و الخوف آتٍ من تحقق وقوع الفعل ، و
موضع الخوف بناءً على وقائع حدثت مع الغير ، فنحن نخاف الوحش في الغابة خوفاً
يختلف عن خوفنا من الحاكم الذي يـبطش .
و الرهب و الرهبة ليست خوفاً محض و إنما
يُخالط هذا الخوف رجاء و تعظيم آتٍ من معرفة و كُلما زادت دلائل هذه المعرفة زاد
هذا التعظيم و الرهبة و صدق الله العظيم (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعِينَ)(الانبياء: من الآية90) .
فمَرَدّ الرهبة و أصلها يختلف عن مَرَدّ
الخوف و أصله ، فربما يكون الخوف قد نتج عن رجع غريزي و لكن الرهب لا يكون أصله
غريزي ؛ فالرهب يحصل لمن يعلم و لا يحصل لمن لا يعلم فمن لا يؤمن بالله لا يخاف
الله.
و اما الرُعب فإنه الفزع و هذا ما جاء
من حصول علم عند المرعوب و أحدثه علمه بالمُرعب و هذه الحالة تكررت فكانت نتيجة
تكررها حصول النتيجة و هي الرُعب و صدق رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : ( نُصرت بالرعب ) .
فحدد الإسلام هذه المفاهيم بحدود حتى لا
يشت الناس في تفسيرها تفسيراً يتناقض مع المبدأ الذي نحمله و نؤمن به .
فالخوف : بالنسبة للمسلم أنه لا يُعاب
عليه خوفه من الأسد و هروبه منه و لكن يُعاب عليه خوفه من غير الله جل و علا و
فراره من المعركة ، و كذلك الرعب لأنه ناتج عنه و يدخل في اطاره ، و الرهبة و
الرهب مطلوب من المسلم بل و واجب عليه أن تكون له صفة الرهبة ؛ يعني أن يحسب حسابه
في الرضى و الغضب و أن لا يحسب المسلم إلا حساب ربه فيما أمر و نهى .
و صدق الله العظيم (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً)(التوبة: من الآية123) (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(الفتح: من الآية29) ، فهذه
الصفات ليست بمنأى و معزل عمّا نحمل من مفاهيم و قناعات و مقاييس بل هي التي
أفرزتها .
فمن يحمل الإسلام ... لا يخاف إلا من
الله و لا يعصي الله ليرضي البشر خوفاً أو طمعاً بل يلتزم بأمر الله لأنه وحده هو
الناصر و المُعين و المؤيد و هو على كل شيء قدير .
و في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه
و آله و سلم قاال : ( ما من مؤمن تخرج من عينه دمعة و إن كانت مثل رأس الذباب
من خشية الله ثم تصيب حَرَّ وجهه إلا حرمه الله على النار ) و قال ( إذا
اقشعرّ قلب المؤمن من خشية الله تحانت عنه خطاياه كما يُحانّ عن الشجر ورقها )
هذا ما جاء في اللغة و قد ورد في كتاب
الله العزيز (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)(لأنفال: من
الآية60) .
ترهبون به ... يعني تخيفون به
فكان اصطلاح الإرهاب و فعله يحتاج إلى
طرفين ؛ طرف يُمارس الإرهاب و يُخيف و هو الفاعل ... و طرف يُمارس ضده الإرهاب و
هو المفعول به أو فيه .
و النقاش حتى تتضح الصورة تماماً يبدأ بالسؤال
هل الأمة الإسلامية في موقف الفاعل أم في موقف المفعول فيه أو به ..؟؟
و الجواب لا يحتاج إلى كثير عناء ، فقد
صرنا عقب هدم دولتنا و غياب خليفتنا – أعاده الله – في موقف المفعول به أو فيه ،
فقد قتلنا الكافر و لم يرحم و شرب دماءنا و رقص على جرحنا بل و نكأها حتى بلغ ذروة
اللذة عندما بلغ بنا الأمر في مساعدته بل و إعانته على أفعاله فينا .
و قد مورس بحقنا كأمة أربعة أنواع من الإرهاب :-
1. الإرهاب العسكري : عندما احتل
بلادنا و سرق خيراتنا و أصبحنا عبيداً عنده و ما ينطبق على الجزائر ينطبق على
العراق و فلسطين و بلاد الشام و الهند و كل بلاد المسلمين ... فأعداد القتلى من
المسلمين ابان الحرب الأولى و الثانية أكثر من أن تُعدّ و تُحصى .
و ما انطبق علينا ينطبق على غيرنا ؛ فقد مارس ضد من خالفوه في
مصالحه و آراءه نفس ما مارسه ضدنا فاشتعلت الحرب الأولى و الثانية و مارسوا ضد
بعضهم أبشع أنواع القهر و الإرهاب و التخويف و القتل بالجملة لأجل القتل .
فماذا يُسمى اسقاط القنبلة الذرية على
هيروشيما و ناكازاكي و الشرح يطول ..؟؟!!
2. الإرهاب الثقافي : بأن
جعل ثقافته هي التي نتداولها نحت ضغط جيشه ، و لغته هي يجب تعلمها حتى تُفتح
أمامنا الوظائف ، و منهج تعليم أطفالنا تحت اشرافه ، و العناية بنسائنا و حملهم
تحت اشراف برامجه و مؤسساته مثل ( اليونيسف) ، و أنتج لنا قائمة طويلة من الأدباء
و المثقفين الذين نهلوا علمه حتى أصبحوا دعاةً له بل و ساعدهم حتى بلغوا ما بلغوا
و أصبحت كلمتهم هي المسموعة و المقروءة و المنتشرة بين الناس .
بل و تدخل في ديننا حتى أنه قد أنشأ
المعاهد التي تدرس الشريعة الإسلامية ، فأُنشئت أول جامعة لتخريج علماء الدين في
سراييفوا سنة 1898 م
و أوجد نظاماً للتعليم لإنتاج و ليس
لتعليم و أقصد انتاج متعلمين وفق مقاييس محدودة لا يتمكنون من أن يفقهوا بل هم
حفظة أو أوعية كأوعية الكوكاكولا و انتاجهم كإنتاجها .
و أفسد الذوق العام بأن شارك أو ساعد في
انتاج طبقة سُميت بالوسط الفني لتعميق الرذيلة و تسويقها فنياً ، و أنشأ محطات و
أنتج برامج لا حصر لها و لا عدد حتى تسممت طفولة أبنائنا فلا يظهر فيهم إلا من
يُحاول أن يُقلد المطرب فلان أو المطربة فلانة فهذا شغلهم الشاغل ، فاختل مقياس
الأعمال و اختل مقياس القدوة و المثل الأعلى و مفهوم السعادة و مفهوم الغاية من
الخلق .
3. الإرهاب الإقتصادي : و
مورس بحقنا الإرهاب الإقتصادي ممارسة أنتجت أعداداً ضخمة من العاطلين عن العمل ، و
تسربت ثروتنا تحت سمعنا و بصرنا و رغم الثروة الوفيرة نرى أن الفقر قد تلازم مع
هذه الأمة تلازم السبب ؛ فإن ذكرت الأمة الإسلامية ذكر التخلف و الفقر و البطالة .
و مُنع الأغنياء من الإستثمار في بلادنا
و من بناء المصانع و المعامل حتى نبقى سوقاً استهلاكي لبضاعتهم ، و فُرضت علينا
نُظُم حساباتهم و معاملاتهم الربوية و حسابات التوفير ؛ فاختل مفهوم الرزق و تبعه
كثير من المفاهيم المتعلقة به .
4. الإرهاب السياسي : ومورس بحقنا الإرهاب السياسي حتى رفعنا شعار
الديمقراطية و العدالة و الدين لله و الوطن للجميع ؛ فالدولة التي هي نظام حكم
أوجده الكافر تدافع عن مصلحة الكافر
دفاعها عن نفسها لأن وجود الكافر يعني وجودها و غيابه غيابها ... فغيبت كل صوتٍ
معارض لها و اتهمته بالخيانة و قتلته ، و السلسلة طويلة جداً تبدأ بسليمان الحلبي
و تمر بسيد قطب و لا ندري أين تنتهي لأن التهم جاهزة لا ينقصها إلا أسم المتهم .
فمن يُحاول التغيير أو التعبير أو الأمر
بالمعروف و النهي عن المنكر وُصف بأنه ارهابي و يحمل أفكاراً إرهابية بشعة ... أما
هم فإن ارهابهم جميل و حضاري و ممدوح .
هذا ما مورس بحق الأمة و هي في موقع
المفعول به أو فيه يقع عليها من أنظةة الحكم الغاشم في بلاد المسلمين و خارج بلاد
المسلمين .
أما داخل بلاد المسلمين فرغم العداء بين
الأنظمة بعضها مع بعض و تدابرهم في كل الأمور إلا أنهم قد اتفقوا في أغلب مؤتمرات
وزراء داخليتهم على محاربة الإسلام حرباً لا هوادة فيها و لا هدنة .
و أنشأوا جيشاً من الإعلاميين و
الصحفيين و المشايخ و ما يلزم و جيوشهم لهذه الحرب حتى يخلطوا الأمور و يلبسوا على
الناس دينهم .
فكل عمل يقوم به النظام حسن و الفتوى
جاهزة و لكل من يخالف أنظمة الحكم فقوله مردود عليه و ليس من الإسلام في شيء ، و
الفتوى جاهزة و السجن أيضاً و القتلة كذلك .
فكان الغطاء للحرب على الإسلام شعارٌ
رفعه الكفار و تناولته أنظمة الحكم في العالم الإسلامي و تمسكت به و هو الحرب على
الإرهاب .
و صدق الله العظيم (الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ)(المائدة: من
الآية3)
فقد حاول عندما يئس من ديننا أن يبطله
أو يُحرِّفه عمد إلى حرفنا نحن عنه و أن يفصلنا عنه بتغيير مفاهيمنا :-
أ.
بواسطة عملاءه و
صنائعه الذين وضعهم على رقاب المسلمين بعد أن أخذت هذه الدويلات استقلالها .
ب. بغسيل
الدماغ المبرمج لتقتنع الشعوب بأن اسرائيل و الغرب قوة لا تُقهر و أن الأمة
الإسلامية أمة مغلوب على أمرها و مهزومة و واجب عليها تغيير جلدها و مسايرة العصر
.
ت. من
خلال الجهلة من أبناء المسلمين الذين صدَّقوا الأكاذيب بل و راحوا يدعون لها و
يُسبّحون بحمد الديمقراطية و فضلها و سياسة فصل الدين عن الدولة و انتهاء عصر الحريم
.
و قد قال سيد قطب
رحمه الله (1)
( غير أن الله جل في علاه لا يخلي الأرض من عصبةٍ مؤمنة تحرف هذا الدين و تناضل
عنه و يـبقى فيها كاملاً مفهوماً محفوظاً حتى تسلمه إلى من يليها و صدق وعد الله
في يأس الذين كفروا من هذا الدين فلا تخشوهم و اخشونِ )
هذا ما انتهى إليه
علمي و الله أعلى و أعلم .
(1) سيد قطب من كتابه
الظلال صفحة 651 ، الجزء 2
جواد عبد المحسن
حديث رمضان -3
0 تعليقات