الثُّقَلاء
قال حماد بن زيد وإسماعيل بن أبي حكيم : هذه الآية
أدبٌ أدَّبَ اللَّهُ به الثقلاء ،
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا
بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ
لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ
لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ
مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ
لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) }الاحزاب, يا ايها الذين آمنوا لا
تدخلوا بيوت النبي الا اذا أذن لكم ، او دعاكم الى طعام ، فاذا دعيتم الى طعام فلا
تأتوا مبكرين لتنتظروا نضجه ، بل ادخلوا عندما يكون قد تم إعداده فقبلَ ذلك يكون أهل
البيت في شغل عنكم فاذا دعيتم فلبوا الدعوة ، واذا اكلتم الطعام فتفرقوا واخرجوا ولا
تطيلوا الجلوس وتمكثوا تتحدثون فان ذلك كان
يؤذي النبي ويستحي منكم ، والله لا يستحي من الحق . وقد سمى بعض المفسرين هذه الآية
آية الثقلاء ، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها : « حسبك في الثقلاء ان الله عز وجل
لم يحتملهم » .
ومعنى الثقل هو إدخال أحَدٍ القلقَ والغمّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل
أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل . وهو من مساوىء الخلق لأنه
إن كان عن عمد كان اضرارا بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند
نفاد صبر المضرور ، فإن النفوس متفاوتة في مقدار احتمال ثقله,وهو كما يقال(يضّيق الخلق)ويؤذي
النفس باشغالها بتوافه الحديث واضاعة الوقت بسفاسف الامور,واعلامه باننا قد اكلنا كذا
وكذا وفعلنا كذا وكذا,وربط قصة بقصة تستغرق الوقت الثمين بكلام لا اول له ولا آخر ولا
فائدة او عبرة منه,بل لمجرد ان نتسلّى .
لقد
احتار الحكماء والأطباء قديمًا في علاج الثقلاء، ونعني بالثقلاء هم الذي يضيق المجلس
الواسع بمن فيه إذا حضر أحدهم ، فهم الذين يسميهم الناس ((ثِقَال الدم)، ومع ذلك فإن
أسباب هذا الْمَرَضِ مَعْرُوفَةٌ، غير أن العلاج مجهول، وليس هناك دواء غير الفرار
والتضرع بالدعاء في الأسحار أن يتحول هذا الثقيل من صديق حميم إلى عدو لئيم، وقال بشار
العقيلي في ثقيل يكنى أبا عمران:
رُبَّمَا يَثْقُلُ الْجَلِيسُ وَإِنْ كَا نَ خَفِيفًا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ
وَلَقَدْ قُلْتُ إِذْ أَظَلَّ عَلَى الْقُو مِ ثَقِيلٌ يُرْبِي عَلَى الثَّقَلَانِ
كَيْفَ لَا تَحْمِلُ الأَمَانَةَ أَرْضٌ حَمَلَتْ فَوْقَهَا أَبَا عِمْرَانِ؟!
ولا تعجب حين ترى في كلام الأولين الشكوى والأنين
من هذا الصنف اللئيم،
فعن أبي
هريرة -رضي الله عنه – أنه كان إذا استثقل الرجل قال: ((اللهم اغفر لنا وله، وأرحنا
منه) والشعبي رحمه الله مرض فعاده ثقيل, فأطال الجلوس ثم قال: "ما أشد ما مر عليك
في مرضك؟" فقال الشعبي: "قعودك عندي!".
وحدث العباس بن بنان قال: "كنا عند أبي بكر
بن عياش يقرأ علينا كتاب مغيرة، فغمض عينيه، فحركه أحدنا وقال له: "تنام يا أبا
بكر؟". فقال: "لا، ولكن مرّ ثقيل فغمضت عيني ..ومن جميل ما قرأت من الشعر:
سقط الثقيل من السفينة في الدجى فبكى
عليه صحابه وترحّموا
حتى اذا كان الصباح اتت به نحو السفينة
موجة تتقدم
قالت خذوه كمال اتاني سالما لم ابتلعه
فانه لا يهضم
وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير المعوذتين:
"ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل، إلا وجدت الجانب
الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر. ورأيت يوما عند شيخنـا - يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية
- رجلا من هذا الضرب, والشيخ يتحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال: مجالسة
الثقيل حمى الربع. ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال"
..
وروي عن سفيان الثوري قال: ((إنه ليكون في المجلس
عشرة كلهم يخف علي، فيكون فيهم الرجل الذي أستثقله فيثقلون عليَّ!).
وقد قيل
للأعمش حين عَمِيَ: ما عوضك الله من ذهاب بصرك ؟، قال: ((أنْ لا أرى به ثقيلاً)). وذكر
الأعمش رجلاً ثقيلاً كان يجلس إليه، فقال: ((واللهِ إني لأُبغض الشقي الذي يليه إذا
جلس إِلَيَّ).
وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله قال: {رَبَّنَا
اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12].
وقال البهاء زهير في ثقيل:
بحق الله متعني من وجهك بالبعد فما أشوقني من إلى الهجران والصد
ما
تصلح للهزل ولا تصلح للجد وماذا فيه من ثقل وماذا فيك من برد
فلا صبحت بالخير ولا مسيت بالسعد
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت آية في الثقلاء
{فإذا طعمت فانتشروا ولا مستئنسين لحديث}[الأحزاب53] اما أساب الثِّقَلِ ؟ فَأَقُولُ إِنَّ لِلثَّقَلِ عِدَّةَ أَسْبَابٍ
: أَوَّلُهَا وَأَهَمُّهَا: الإكثار من الذنوب والمعاصي، فإن المعاصي تورث كره الله
تعالى للعبد، وَمَنْ كرهه الله : كرهه الناس، كما جاء في ((الصحيحين)) عن أبي هُرَيْرَةَ
قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:” إِنَّ اللَّهَ إذا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا
جِبْرِيلَ فقال إني أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قال فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ
يُنَادِي في السَّمَاءِ فيقول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ
أَهْلُ السَّمَاءِ قال ثُمَّ يُوضَعُ له الْقَبُولُ في الأرض وإذا أَبْغَضَ عَبْدًا
دَعَا جِبْرِيلَ فيقول إني أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قال فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ
ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ
قال فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ له الْبَغْضَاءُ في الأرض“فلا يراه أحد إلا استثقله
وأبغضه وإن كان من أظرف الخلق!.
وهذا أمر مشاهد معلوم؛ فإن الإنسان لا يزال يقترف
من الكبائر ويصر على الصغائر – دون توبة – حتى يمشي على الأرض والناس لا تطيق رؤية
وجهه، إلا من كان على شاكلته، فإن الطيور على أشكالها تقع.
وإن هناك من العُصَاة مَن تَسَرْبَلَ بالمعاصي حتى
إن الدعاة إلى الله تعالى لا تستطيع نصحه ولا الاقتراب منه لما وضعه الله له من البغض
في القلوب.
قال ابن
عباس رضي الله عنه: ((إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة
في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا
في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغضةً في قلوب الخلق)). وقد قال الله تعالى {لا تجد قومًا
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ اللهَ ورسولهَ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم
أو إخوانهم أو عشيرتهم}المجادلة22، لذا قال عليه الصلاة والسلام:” الأرواح جندٌ مجندة؛
فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف“.
إن الله تعالى قسم الخليقة على قسمين: أهل السعادة
وأهل الشقاوة، ، فجعل أهل السعادة في هذه الدار يألف بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا،
وأما في الآخرة فإخوانًا على سرر متقابلين، وجعل أهل الشقاوة في هذه الدار يحب بعضهم
بعضًا، ولكن في الآخرة يلعن آخرهم أولهم وأولهم آخرهم، قال تعالى {الأخلاء يومئذ بعضهم
لبعض عدو إلا المتقين}الزخرف67، ففي الحياة الدنيا فرق الله بين أرواح الفريقين، فلا
تجد بعضهم يحب بعضًا، وأما في الآخرة فإنه سبحانه يفرق بين أرواحهم وأبدانهم؛ {فريق
في الجنة وفريق في السعير}الشورى7. أرجع فأقول من أراد أن يحبه الناس فليلزم طاعة رب
الناس، فإن قلوبهم بيده، قال تعالى عن موسى {وألقيتُ عليك محبةً مني ولتصنع على عيني}طه39؛
قيل في التفسير: لم يره أحدٌ إلا أحبه، وقال تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
سيجعل لهم الرحمن ودًّا}مريم96، قال ابن الجوزي رحمه الله: ((وليعلمْ المرائي أن الذي
يقصده يفوته، وهو التفات القلوب إليه، فإنه متى لم يُخْلِص حُرِمَ محبة القلوب، ولم
يُلْتَفَتْ إليه، والمخلص محبوبٌ. فلو علم المرائي أن قلوب الذين يُرائيهم بيدِ مَن
يعصيه لَمَا فَعَلَ).
السبب الثاني: هو ما ذكره ابن حِبَّان البستي حيث
قال: ((هو استعمال المرء من الخصال ما يكرّه الناس منه).
السبب الثالث:
إظهار الكبر التفاخر بين الجُلساء، والأَنِّيَّة، والإكثار من الحديث عن النفس، فتجده
في أكثر كلامه: ذهبتُ، وسافرت، وقلتُ، وتَوَسَّطْتُ، وَاشْتَرَيْتُ، وكلمتُ … إلخ
.
السبب الرابع: هو كثرة الزيارة، لاسيما إذا كان
الْمَزُورُ ظروفه لا تسمح بذلك، إما لانشغاله؛ كأن يكون طالب علمٍ أو شيخٍ أو عَالِمٍ،
أو غير ذلك من أصحاب الْجِدِّ، وكما قال ابن الوردي:
غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا
فَمَنْ أَكْثَرَ التَّرْدادَ أَقْصاهُ الْمَلَلْ
السبب الخامس: أن غالب مَنْ يتصف بهذه الصفة تجده
ليس عنده هدفًا في الحياة، وقد قال عمر رضي الله عنه: ((إني لأكره أن أرى الرجل سَبَهْلَلاً
لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة) ، معناه في اللغة الفارغ ، وقال الأصمعي: ((جاء الرجل
يمشي سبهللاً إذا جاء وذهب في غير شيء).
وقد قال العلامة الآلوسي رحمه الله: ((وذكروا أن
قعود الرجل فارغًا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه: من سفه الرأي،
وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة) ،فتجد الثقلاء دائمًا ليس عندهم سعي لنيل الدرجات العُلَا
في الآخرة، ولا سعي لتحصيل هذه الدنيا الفانية، فهم يعيشون فقط.
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ إِذَا مَا عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
السبب السادس: هو الإساءة إلى الناس، فإن القلوب
جُبِلتْ على حب من أحسن إليها، وجبلت على بغض من أساء إليها.
وهناك مصنفات مفردة في الثقلاء، فالسيوطي رحمه الله
ألف كتابًا سماه ((إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء))،ولمحمد بن المرزبان كتاب اسمه
((الثقلاء))و للإمام الخلال كتاب اسمه ((أخبار الثقلاء))، وقد أفردهم بفصول غير واحد
من الأُدباء، وما ذاك إلا لقبح هذه الصفة، وشناعة الْمُتَلَبِّسِ بِهَا، فهي لا تقل
عن البخل والجبن،لذا استخدمها الأدباء في هجائهم .
وأختم فأقول كيف تصنع إذا ابْتُليتَ بثقيلٍ....؟؟؟:
أولاً: يجب عليك أن تستحضر ثواب الله تعالى، وتعلم أن هذه الدنيا دار بلاء، وإنما النعيم
الحقيقي في الآخرة، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطئك لم يكن ليصيبك؛ فيهون
عليك ذلك وان هذا يدخل ضمن دائرة البلاء والصبر مطلوب شرعا وتصرف هذا السوء بحسن التاتي.
ثانيًا: أن تُشْعِرَ الناس دائمًا أنك مشغول، وتتشكى
من قِلِّة الأوقات؛ لكي لا يتجرّؤوا عليك، فتصبح سوقًا للبطالين. وقد جاء رجل من المتعبدين
إلى سري السقطي فرأى عنده جماعة فقال: ((صرت مناخ البطالين، ثم مضى ولم يجلس).
ثالثًا:يقول محمد بن سليمان مال الله إذا ابتليتَ
بثقيلٍ فأصبحتَ لا تستطيع الفرار منه، ولم يكن هذا الثقيل صفيق الوجه فاشتغلْ بالذكر،
خصوصًا قولك (لا إله إلا الله)، فإنه أفضل الذكر، ولا تحتاج معه لتحريك الشفتين، فلن
يشعر بك هذا الثقيل أنك تذكر الله تعالى. قال سهل بن هارون: ((مَنْ ثقُل عليك بنفسه،
وعمّك بسؤاله، فَأَعِرْهُ أُذُنًا صَمَّا، وعينًا عَمْيَا).
رابعًا:ويتابع
ايضا: أما إن كان هذا الثقيل صفيق الوجه – وهو الأغلب - فَحَضّرْ لنفسك أمورًا تفعلها
في يومك ولا تحتاج إلى إعمال الذِّهْنِ، كما كان يفعل ابن الجوزي حيث قول: ((أعوذ بالله
من صحبة الباطلين، لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة،
ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما
يتخلله غيبة. وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه
واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض،
ولا يقتصرون على الهناء والسلام بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت
أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير كرهت ذلك وبقيت مهم بين أمرين. إن
أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان. فصرت أدافع
اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة
لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً. فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري
الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب،
فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات
العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه. ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم
من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس،
وكم تمر به من آفة ومنكر ؛ ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من الغلاء والرخص إلى
غير ذلك. فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا
من وفقه وألهمه اغتنام ذلك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم}فصلت35.
وقال
القارئ أبو بكر بن مجاهد الناسُ أربعة
:(1) مليحٌ يتـبغَّضُ لملاحتِه، فيُحتمل (2) بغيضٌ يتملّح، فذاك الحمى والداء الذي
لا دواء له، (3) بغيضٌ يتبغّض، فيُعذر لطبعه (4) مليحٌ يتملّح، فتلك الحياة الطيبة.
وحتى ادخل بعض السرور الى القلوب حاولت ان اجمع
ما تيسر من اخبار الثقلاء وما قيل عنهم من نوادرهم وطرفهم.
الاعراض عن زلات الناس ومنه :ذُكِرَ أنّ حاتمًا
" الأصم "، سمي بذلك لأنَّ امرأةً جاءتْه فضرطت، فقال لها: ارفعي صوتك، لا
أسمع، ففرحت؛ لأنَّه لم يسمعها، وإنما تظاهر بالصمم لئلا تخجلَ المرأة مما وقع لها.
وفارقَ بديعُ الزمانِ الصّاحب ابن عبّاد، لأن بديعا كان جالسًا على تختٍ فضرط، فقال
ابن عباد : ما هذا الصرير؟ قال بديع : صريرُ التخت قال ابن عبّاد : أخشى أن يكون صرير
التَّحت فخجل.
ومن طرفهم في دخول البيوت :قال رجلٌ لداود الطائي
: لو أمرتَ بسقفِ البيتِ فنظِّفَ من العنكبوت، قال : أما علمت أنهم كانوا يكرهون فضول
النظر، نبِّئتُ أن مجاهدا مكثَ العنكبوتُ في بيتهِ ثلاثين سنة، لم يشعر بها. واستأذنَ
رجلٌ على حذيفة، وقال " آدخل؟ " فقال له حذيفة " أما عينُك فقد دخلت،
وأما استُك فلم تدخل!". واستأذنَ ثقيلٌ على مالك، وكان لمالك بطيخة رمى بمنديلٍ
عليها، فدخل الثقيل، فقال له مالك: هاهنا، فقال: لا، بل هاهنا، وجلس على المنديل فتفسّختِ
البطّيخة، فقال له مالك: كنا أبصر بعوارِ منزلنا منك.
ومن اخبارهم في زيارة المرضى: مرضَ الأعمش، فعاده
بعضُ أصحابه، فأطالوا الجلوسَ عندَه، فقال له: قد شفى اللهُ المريض، فقوموا إلى منازلِكم.
ودخلَ قومٌ على السري السقطي خال " الجنيد " وهو مريض، فأطالوا الجلوس ثم
قالوا له: هلا دعوتَ لنا؟ فقال: اللهم علمنا أدبَ عيادةِ المريض.و دخلَ رجلٌ على (
رقْبة الكوفي ) وهو مريض، فنعى رجالًا اعتلّو مثل علتِه، فقال له رقبة : إذا عدت مريضًا
فلا تنعَ إليه الموتى، وإذا خرجت من عندنا فلا تعدْ علينا.ووصفَ ثقيلٌ لمريضٍ دواءً،
فقال له : خذ منه كذا ( مقدار أذنِ القطة ) وصب ( مقدار المحجمة ) من الماء، ثم حرّكه
حتى يصير كـ(المخاط)، ثم اشربْه، فقال له المريض = كرَّهتَ إليَّ الدواء!.
وقال محمد بن الجهم لشعيب بن زرارة هذا الدواء الذي جئت به، قدرَ كم آخذ منه؟ قال:
قدر بعرة!.
ومن اخبارهم في الحاحهم :كان أزهرَ الباهلي صاحب
أبي جعفر المنصور، قبل أن يلي الخلافة، فلما وليَ ترصّد له فزاره أزهر مهنئًا فأعطاه
ألف دينار، ثم زاره عائدًا مرضه، فأعطاه مثله، ثم زاره متعلما لدعاءٍ عند أبي جعفر
مستجاب، فقال له أبو جعفر : يا هذا ... إني في كل سنةٍ أدعو الله أن لا تأتيني، وأنت
تأتيني!.
قال بديع الزمان في الضيف الثقيل ( الماءُ إذا طال
مكْثُه ظهر خُبْثُه، وإذا سكنَ متْنُه تحرّك نتـنُه، وكذلك الضيفُ يسمُجُ لقاؤه، إذا
طالَ ثواؤه، ويثقلُ ظلُّه إذا انتهى محلُّه، والسلام).
وقيل للشعبي هل تمرض الروح؟ قال : نعم ، من رؤية
الثقلاء، وكان يقول حماد بن سلمة إذا رأى الثقلاء ( ربّنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
).
قيل للأعمش : مم عمشت عيناك؟ قال : من رؤية الثقلاء،
وفي الطب ( مجالسة الثقلاء حمى الروح ).
وروى الشعبى حديث " تسحروا ، ولو أن يضع أحدكم
أصبعه على التراب، ثم يضعه في فيه " فقال رجل: أي الأصابع؟ فقال الشعبي: إبهام
رجله، وهي أكبر الأصابع.
ودخل الشعبي الحمام ، فرأى داود الأوديّ بلا مئزر
، فغمض عينيه ، فقال له داود : متى عميت يا
أبا عمرو ؟ قال : منذ هتك الله سترك
.
وجاء رجلٌ إلى الشعبي ، فقال : اكتريت حماراً بنصف درهم ، وجئتك لتحدّثني ؛ فقال له : أكتر بالنصف
الآخر وارجع ، فما أريد أن أحدثك .
قال أبو حنيفة :
عُدمنا ثقالَ النّّـاسِ في كلِّ بلدةٍ فيا ربِّ لا تغفرْ لكل ثقيلِ
يقال " أثقل من ثهلان " وهو جبلٌ ضخمٌ
في نجد، ويقال " إذا تخفف الثقيلُ صار طاعونًا "، وذلك لأنّه يتثاقل على
النّاس، وهو يظنُّ أنَّه يتخفف، فهو أعظم ضررا من الثقيل العارف بنفسه.
قعد إلى
بشار رجل وكان يستثقله فضرط عليه بشار فقال الرجل إنفلتت منه ، ثم ضرط عليه أخرى فقال
انفلتت منه ، ثم ضرط ثالثة فقال له الرجل يا أبا معاذ ما هذا ؟ قال مه رأيت أو سمعت
قال لا بل سمعت ؟ قال لا تصدق حتى ترى .
جواد عبد المحسن
حديث رمضان - 12
0 تعليقات