الدولة بين الادارة والحكم

الدولة بين الادارة والحكم

آيتان من كتاب الله لفتتا انتباهي وشدتاني وهما قوله تعالى(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)النساء105 والثانية(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3))الزمر2 فافراد الله عز وجل في العبادة لا يفترق ولا ينفصل عن افراده في تطبيق حكمه ,فحكمه في الارض كعبادته فيها, وكل من يحاول الفصل بين عبادته وحكمه متتبع لسبل غير سبيل الله,فالالوهية له وحده والعبودية له وحده,وقد بين لنا في صراطه المستقيم كيف نطيعه في العبادة وفي الحكم . 
ان المتتبع للاحداث السياسية التي حدثت في المنطقة العربية وما صاحبتها من سقوط رؤوس وارتفاع شعارات دغدغت مشاعر الناس دغدغة اوهمتهم انهم قد انعتقوا من قيود كانت تضغط عليهم سياسيا واقتصاديا اورثتهم الفقر والذل وكم الافواه وامست الهجرة للعقول والهروب من الواقع هو الحل.
ومع ارتفاع شمس الحقيقة وبدء ذوبان ثلج الوهم بدأت الامور تتكشف شيئا فشيئا وكثرت الاسئلة تتوالى ولا اجوبة لها وان وجدت بعض التبريرات الخجولة التي لم تلب بعض احتياجات الناس الذين ُحق لهم ان يسألوا هل حصل تغيير....؟؟؟؟وهل سقط النظام الذي سالت دماؤنا لاسقاطه...؟؟؟ هل تجذر ام سقط..؟؟وهل انكسر قيد الامة ام أُسبغت عليه الصفة الشرعية...؟؟؟
لقد ظهر للعيان مسألة بالغة الأهمية في الحياة السياسية، وهي الفرق في مفهوم الحكم بمعنى القيادة ومعنى الإدارة وهذا ما نحن بصدده  فالنظرة الخاطئة لواقع الحكم تؤدي إلى اعتباره مسألة إدارية كإدارة الشركات والمؤسسات، فتخلو من أذهان هؤلاء(الحكام الجدد) المسائل القيادية بمعنى القوامة على المجتمع وصبغه بصبغة الفكرة السياسية التي حملتهم الى الحكم,فقد كان شعار (الاسلام  هوالحل)هو من اوصلهم لتعشق الناس للاسلام فتبخر هذا الشعار بعد ان وصلوا,وليس هذا فحسب بل لقد تفاخر احدهم انه قد ادى الفائدة في وقتها بعد ان كان يحاربها حين كان في المعارضة,فقد حصل الخلط بين التصريح الاداري لمدير شركة حول وضعها المالي وبين تصريح حاكم راع لأمة.
انه من الضروري وضع الحد الفاصل بين الادارة والحكم,فواقع الادارة انها العلم الذي يرجع اليه لتحقيق التنظيم السليم ضمن الامكانيات المتاحة للوصول الى الاهداف المنشودة باقل تكلفة وجهد ممكن في الوقت المناسب وذلك بتوزيع المهام والمسؤليات توزيعا يلائم الغرض المطلوب,وهذه لا علاقة لها بوجهة نظر ويمكن اخذها من مدارسها المتعددة او اجزاء منها وفق ما يناسب الآخذ.  
انه لا يمكن قيادة أي أمة او أن تعتبر جماعة ما نفسها قوامة على فكر الامة وحسها من دون فكرة أساسية سياسية للحكم، وهذه الفكرة قد تكون مبدأ وقد تكون فكرة أخرى غير مبدئية كالفكرة القومية او الوطنية التي تثير مشاعر وأحاسيس الوطنية او القومية مثل فكرة الحزب النازي الألماني التي ُتميز العرق الألماني عن باقي العروق, فيأخذ الحزب الحاكم قيادة البلاد في خدمة قومية ما على حساب قوميات أخرى ، أو حتى فكرة شديدة التعصب لقومية ما والتي يكون مخزون مشاعرها أحداثاً تاريخية جساماً مثل أحزاب الدولة اليهودية التي لا يزال الهولوكوست عنصراً أساسياً في بنيتها المشاعرية وبالتالي ينعكس على أفكارها السياسية العملية، وباختصار فإن الحركة التي تتولى الحكم يجب أن يكون لديها فكرة ما للحكم بها وقيادة أمتها بهذه الفكرة، وبدون ذلك لا يمكن لأي حركة أن تقود أمة ما قيادة فعلية بدون وجود الفكرة.
إن غياب الفكرة التي يقوم عليها الحكم وانعدام الرؤية الرعوية الواضحة يؤدي إلى اعتبار الحكم والسياسة بمعنى رعاية شوؤن الأمة مجرد مسائل إدارية بحتة تحددها ضوابط اخرى كالعلاقات الخارجية والمعاهدات الدولية المكبلة للامة بل واحترامها بغض النظر اوافقت ام خالفت توجهات الامة وعقيدتها,وهذا ما قاد إلى الفشل الحتمي وصنع ظروف عدم الاستقرار كما حصل في مصر وتونس التي تعصف بهما رياح عاتية ناجمة عن الثورة وعن البون الشاسع بين الشعارات والممارسة العملية للحكم,فالدولة حكم وادارة  والادارة تابعة للحكم يوجهها الحاكم لتتوافق مع نهجه السياسي,وموظفوا الدوائر الحكومية ينفذون سياستها ولا علاقة لهم بالحكم,ومثاله ان الموظفين في الدوائر الحكومية الفرنسية ظلوا في وظائفهم بعد ان احتلها النازي وما تغير عليهم الا توجيهات الحاكم الجديد والذي يوجه الادارة لخدمة هدفه السياسي,وهذا ما سيفعله اميرنا القادم باذن الله.
ان مفهوم الحكم هو رعاية رعية بناء على فكرة سياسية واضحة, وبناءً على هذا الفهم لواقع الحكم، فإن الحركات والجماعات التي تملك أفكاراً تطلب الحكم وتسعى اليه لانه الطريقة العملية لايجاد هذه الافكار في معترك الحياة, حتى تتمكن من قيادة أمتها بأفكارها، وفي الحالة المصرية والليبية والتونسية واليمنية فإن الفكرة السياسية للحكم منعدمة لديها، وهذا الامر هو الذي انتج هذه الحالة من الفوضي والارتباك,فالغاية غير واضحة وكذلك طريقة الوصول لها.
لقد نشأت في المجتمع جمعيات لسد ثغرة  وتلك الثغرة كانت الالتزام بأحكام الإسلام التي يؤديها الافراد تحت شعار (اصلح الفرد يصلح المجتمع) ، وهي لم تطرح يوماً ما برنامجاً للحكم، ولم تستهدف الحكم أبداً في تاريخها، وكان يرضيها من الحاكم أن ترى بجنبه سجادة صلاة. وعندما طرح المرحوم سيد قطب فكرة الحاكمية لله في كتابه الشهير معالم في الطريق، ضج الإخوان المسلمون ورفضوا الفكرة وأصدر الهضيبي المرشد العام للاخوان كتابه "دعاة لا قضاة" رداً على طروحات سيد واعتبر هذا الامر خروجا عن الاطار
ان عداء أنظمة الحكم للاحزاب الإسلامية المخلصة والتي تعمل لايجاد الاسلام في واقع الحياة وإقفال كافة أبواب العمل السياسي أمامها بل واجماع وزراء الداخلية العرب على محاربتها رغم اختلافهم في امور اخرى واتفاقهم على سياسة التعتيم الاعلامي عدا عن الملاحقة والمحاربة والابعاد الوظيفي في الوقت الذي تبقيه مفتوحاً للحركات التي تصف نفسها بالاسلام المعتدل وترفع شعار الوسطية قد أدى ذلك مضافا اليه الاغراء المادي إلى توجه الشباب المندفع نحو الإسلام إلى تلك الحركات المعتدلة باعتبار أنها وحدها الموجودة في الساحة،فوجدت لها جذور وشعبية وهذه الشعبية كانت ظاهرة للعيان ابان الربيع العربي حين طالبت الأمة بالتغيير في كل من مصر وتونس وظنت الأمة أن البديل للأنظمة القائمة يتمثل في هذه الحركات الإسلامية,فخاب املها بعد ان قارنت ضخامة الشعارات وهزال الممارسات ,فتخلى عنهم من تخلى وانسلخ من انسلخ وندم على انتخابهم من ندم,ومع الاسف حورب الاسلام من خلالهم واوجدوا للمخلصين عقدة في طريقهم .
وصل الإخوان المسلمون إلى الحكم في كل من مصر وتونس ومع وصولهم لم يصل الإسلام إلى الحكم في هذين البلدين، وحكم الرئيس مرسي في مصر وجماعة الغنوشي في تونس حكماً هو أقبح من سابقه، فقد رفض الغنوشي مراراً فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية مع أن نجاح جماعته كان بناء على شعار "الإسلام هو الحل"، وأقدم الرئيس مرسي على أعمال شديدة الشناعة ما تأنفه نفس المسلم مثل فخره بدفع الربا في وقته، واستمرار بيع الغاز لـ (إسرائيل)، وإقفال الكثير من أنفاق غزة، والاستقبال المخزي لنجاد شريك جزار سوريا وغيرها كثير، هذا ناهيك عن غياب أحكام الإسلام عن الحكم في مصرلا دفعة واحدة ولا تدرجا.
ان صاحب المشروع السياسي الواضح ليدرك ان الامة ومقدراتها وما تعتقده وتؤمن به ليست حقلا للتجارب,ولا تساق بالتمنيات والاحلام,فلا يعدها بما لا يقدر عليه ولا يمنيها بما لا يمكنه بلوغه فليست الامة محلا للتدليس الفكري,بل طريقه واضح المعالم والامة شريكة له لادراكها وعورة الطريق الموصل للعزة وهذا لا يتأتى الا بصدق الخطاب والممارسة.
يقول الشيخ المؤسس رحمه الله في بداية كتاب التكتل(قامت حركات متعددة للنهضة ، كانت محاولات لم تنجح ، وإن تركت أثراً فعالاً فيمن أتى بعدها ، ليعيدوا المحاولات مرة أخرى . ويرى المتتبع لهذه المحاولات ، الدارس لهذه الحركات ، أن السبب الرئيسي في إخفاقها جميعها يرجع من ناحية تكتلية إلى أربعة أمور :
أولها - أنها كانت تقوم على فكرة عامة غير محددة ، حتى كانت غامضة ، أو شبة غامضة ، علاوة على أنها كانت تفقد التبلور والنقاء والصفاء .
وثانيها - أنها لم تكن تعرف طريقة لتنفيذ فكرتها ، بل كانت الفكرة تسير بوسائل مرتجلة وملتوية ، فضلاً عن أنه كان يكتنفها الغموض والإبهام .
وثالثها - أنها كانت تعتمد على أشخاص لم يكتمل فيهم الوعي الصحيح ، ولم تتمركز لديهم الإرادة الصحيحة ، بل كانوا أشخاصاً عندهم الرغبة والحماس فقط .
ورابعها - أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يضطلعون بعبء الحركات لم تكن بينهم رابطة صحيحة سوى مجرد التكتل الذي يأخذ صوراً من الأعمال ، وألفاظاً متعددة من الأسماء .
ولهذا كان من الطبيعي أن تندفع هذه الكتل فيما عندها من مخزون الجهد والحماس حتى ينفد ، ثم تخمد حركتها وتنقرض ، وتقوم بعدها حركات أخرى ، من أشخاص آخرين ، يقومون بنفس الدور ، حتى يفرغوا مخزون حماسهم وجهدهم عند حد معين ، وهكذا دواليك .
وكان إخفاق جميع هذه الحركات طبيعياً ، لأنها لم تقم على فكرة صحيحة واضحة محددة ، ولم تعرف طريقة مستقيمة ، ولم تقم على أشخاص واعين ، ولا على رابطة صحيحة .
ان غياب المشروع السياسي من قبل من نجحوا في الانتخابات اُضطروا لان يستعينوا بالادارات القديمة وان يتعاطو معها كانهم مدراء لهذه المؤسسات سواء اكانت قضائية ام تنفيذية, وبرز هذا الامر من خلال الخلافات التي طفت على السطح وادخل فيها الشارع كعامل ضاغط مع او ضد الحكومة الجديدة مما انعكس على الدولة وحدوث الفوضى التي تتنازعها الاطراف ويلقي كل طرف باللوم على الآخر تحت شعارات الاخونة او العزل السياسي.
اننا كحملة دعوة واصحاب مشروع سياسي واضح المعالم فكرة وطريقة قد حملنا القواعد الاربعة واخذنا عليها البيعة من الفئة الاقوى من الامة حتى اذا شاء الله واراد وشاء لم نجد من يغالط ويُدلس ,فالصورة واضحة:فالسيادة للشرع والسلطان للامة ولامير المؤمنين الحاكم ان يستعين بمن يشاء لادارة امور الدولة ضمن اطار السياسة التي رسمها,ليكونوا منفذين لسياسة لا واضعي سياسة فالحاكم هو الذي يحدد السياسة ولا يحددها له الغير تحت ضغط الظروف كما حصل في دول الربيع العربي اذ صار الحاكم بمثابة المدير الذي ينفذ السياسة المرسومة له.

وعله فانه من واجبنا محاربة التدليس الفكري الذي يمارس ضد الامة ومحاولة خلط المفاهيم بين الادارة والسياسة,فرجال الدولة قادة سياسيون مفكرون يعتقدون فكرة مبدأية يسوسون الناس على اساسها,والادارة علم وفن لانجاز المصالح العامة وفق سياسات الدولة ومبدأها.

جواد عبد المحسن

حديث رمضان -12

إرسال تعليق

0 تعليقات